لماذا الوسواس القهري أسباب الوسوسة القهرية4 ::
الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 19/05/2010
لماذا الوسواس القهري: أسباب الوسوسة القهرية1 لماذا الوسواس القهري: أسباب الوسوسة القهرية2 لماذا الوسواس القهري: أسباب الوسوسة القهرية3
رأينا في المقال السابق كيف أن النظرية السلوكية لا تستطيع شرح كل الظواهر المتعلقة باضطراب الوسواس القهري، وذلك برغم أن طريقة العلاج المستمدة من تجارب المدرسة السلوكية وهي التعرض مع منع الاستجابة القهرية Exposure and Response Prevention هي الطريقة الوحيدة الناجعة بصدق في علاج الوساوس والقهورات، وبالتالي بقي الباب مفتوحا لمزيد من محاولات الفهم وسنعرض هنا لرأي أصحاب النظرية التطورية في علم النفس وكذلك للرأي الأقرب من الاكتمال في فهم وشرح الوساوس والقهورات وهو رأي أصحاب النظرية المعرفية، ولعل أهم نقاط القوة في النظرية المعرفية هو اشتمالها على النظرية السلوكية بمعنى أنها تعتبر إضافة للأخيرة تجعلها أكثر رقيا كما ينبغي عند الحديث عن الإنسان، وتسمى بالنظرية المعرفية السلوكية، كما يحسب لهذه النظرية تماشيها مع المنطق ومع الحس العام أو الفهم التقليدي لكيفية التفكير والسلوك.
النظريةِ التطورية في علم النفس: ونبدأ برأي أصحابُ النظريةِ التطورية الغربية في علم النفس والذين يحاولون الاستفادةَ من المبادئ العامة لنظرية داروين، ويحاولونَ في نفس الوقت تقويةَ اتجاهٍ يدعمهم من بين الأطباء النفسانيين، فهم يضعونَ نظريةً لتفسير اضطراب الوسواس القهري(Abed, 2000)، فيفكرون بنفس الطريقة المتبعة داخل نظرية النشوء والارتقاء ويرون أن بقاء اضطراب الوسواس القهري على مر الأجيال المتعاقبة لهوَ دليلٌ على أنها تمثلُ انحرافًا عن أسلوب عملية عقليةٍ مفيدةٍ في الأصل! ونحنُ نقبلُ كلامهم هذا كمحاولةٍ من محاولات الفهم رغم اختلافنا مع دارون نفسه!
فهم يرون أن الأفكار التسلطية عبارةٌ عن ناتج عمليات فكريةٍ قديمةٍ (أي أننا ورثناها عن أجدادنا القدماء) ولا إراديةٍ تستثيرُ حالةً شعوريةً منفرةً كالخوف أو القرف في الشخص ووظيفتها الأساسيةُ هي أن تؤدي إلى سلوك اجتنابِ الخطر ويرى أصحابُ هذه النظرية أن النظام الحيوي العصبي Neurobiological System المسؤول عن ذلك إنما يخلقُ سيناريوهات لا إرادية لاستشعار الخطر Involuntary Risk Scenario Generating System هيَ الوساوس بينما يعتبرونَ الأفعال القهرية سلوكيات بدائية روتينية لاجتناب الخطر Primitive Harm Avoidance Behavioral Routines لكنها شبهُ إرادية Semi-Voluntary أي ليست لا إرادية تمامًا كالأفكار التسلطية (Abed. & de Pauw, 2000) و(Bradshaw,1997)، المهم أن سيناريوهات استشعار الخطر هذه تساعدُ الشخصَ على تعلم مواجهة الخطر دونَ أن يضطرَ إلى مواجهته مباشرةً وهذه هيَ فائدتها، وهذا هو سبب انتشار السمات الوسواسية الطبيعية في الكثير من الناس.
ويذهبُ أصحابُ هذا الرأي إلى ما هو أبعدُ من ذلك فيحاولون التفريق بين اضطرابات القلق التي مازال اضطراب الوسواس القهري جزءًا منها، وذلك من خلال افتراض أن هناكَ نوعين من أنواع التفكير البشري أحدهما هوَ التفكير على الخط On-Line Thinking ويقصدُ به النشاط العقلي الموجهُ لمشكلةٍ يواجهها الشخص في اللحظةِ المعينة وأما النوع الآخرُ فهوَ التفكير خارج الخط Off-Line Thinking ويقصدُ به النشاطُ العقلي الهادفُ إلى حل المشكلات التي قد يواجهها الشخص في المستقبل (Bickerton, 1996) وتعتبرُ الأفكارُ التسلطيةُ نوعًا بدائيًّا من التفكير خارج الخط، بينما تعتبرُ اضطراباتُ الهلع واضطراب القلق المتعمم نوعًا من التفكير على الخط.
النظرية المعرفية: ويرى أصحاب النظرية المعرفية أن الأحداث العقلية التسلطية البسيطة العابرة ظاهرة طبيعية وشائعة في بني الإنسان فمثلا التنظيف، التَدقيق، التحقق، التَرتيب، تكرار الألحان.. إلخ كل هذه أحداث عقلية عابرة تحدث لكل بني آدم وإن كان ما أظهرته الدراسات هو أن حوالي 80 - 90% فقط مِنْ العيناتِ 'الطبيعيةِ' يُقِرُّون بورود أفكار مقتحمة تشبه الأفكار التسلطية على عقولهم، لكن فقط قلة من هؤلاء يَتردّدُ عليهم الحدث العقلي التسلطي، بشكلٍ واضحٍ وحادّ، ويسبب لهم الضيق... إلخ.
فالأحداث العقلية التسلطية طبقا للنظرية المعرفية هي أحداث مقتحمة طبيعية، لكن يَمِيلُ الأفرادُ المهيئون للوسوسة إلى تَقدير الحدوثِ و/ أَو محتوى الأفكارِ المقتحمةِ بطريقة سلبية، وهذا يُوقعُهم في عملياتٍ فكرية مزعجة وأفعالٍ قهرية (بغرض التَحييد والراحة قليلا من تلك العمليات) وكل ذلك يخدم لتَعزيز تقييماتِهم السلبيةِ لورود تلك الأفكار.
وتفترضُ واحدةٌ من أحدث النظريات المعرفية أن الخبرات النفسية المعرفية القديمة والأحداث الحرجة في حياة الشخص تؤدي به إلى مجموعةٍ من الاعتقادات أو الافتراضات المعيقة مثل: -1- أن عدم منع الكارثة سيئٌ بقدر التسبب في وقوعها وهوَ ما يضخمُ الإحساس بالمسؤولية. -2- من الأفضل أن تكونَ آمنًا عن أن تكونَ آسفًا، وهو ما يمهد للتحاشي (اجتناب الفعل) من أجل اجتناب الخطر. -3- التَفكير في حدث 'سيئ' سَيَجْعلُه على الأرجح يحدث! ولهذا علاقة بالتشاؤم وبالحسد -4- يَجِبُ أَنْ أَكُونَ 100% مُتَأَكِّدا بأنني نفذتُ الأشياءَ بشكل صحيح، فقط 100 % أمان = صواب مقبول.. فقط 100 % طهارة = وضوء مقبول!
وعندما تحدثُ لمثل هذا الشخص فكرةٌ اقتحاميةٌ فإنه يخطئُ في تفسير أو تقدير أهميتها من خلال اعتقاده أن الفكرةَ ما هيَ إلا إرهاصٌ للسلوك أي أنها تتنبَّأُ بالسلوك "مثلاً: ما دمتُ فكرتُ في أن أذبحَ بنتي الصغيرة إذن فمن الممكنِ أن يحدثَ ذلك بالفعل أو ما دمتُ تخيلتُ نفسي في موقفٍ جنسي مع زوجة عمي إذن من الممكنِ أن أفعلَ ذلك في يوم ما"، وهذا هو ما يسمى باندماج الفكرة الفعلة الاحتمالي Likelihood Thought-Action Fusion وليس هذا فقط وإنا يعتقد الشخص أيضًا أنهُ مسئولٌ عن منع نتيجة هذه الفكرة "مثلاً: لابدَّ من وجودِ جارتي أو زوجي معي عند استخدامي للسكين، أو لن أزورَ عمي مرةً أخرى مهما حدثَ لكي لا يقعَ المحظور" وتتداخلُ بعد ذلك مجموعةٌ من أساليب التفكير غير السوية الناتجة عن ارتفاع حساسية الفرد بسبب القلق وربما الاكتئاب الناتج عن هذه الطريقة في التفكير كما يتداخلُ نزوع هؤلاء الأشخاص إلى التفكير السحري أو الخيالي Magical Thinking الذي يعطى الأفكارَ قوةً كقوةِ الفعل إضافةً إلى تحيزهم الانتباهي والاستنتاجيَّ الذي يجعلهم منشغلينَ بالحدث العقلي التسلطي وكل ما يتعلق بها من منبهات بيئية.
ويرى المعرفيون أن محاولات المرضى المستميتة لكبت الحدث العقلي التسلطي هي التي تؤدي على العكس إلى زيادة إلحاحه على الوعي مما يوقعُ المريض في حلقةٍ مفرغةٍ من الأفكار التسلطية والأفعال القهرية الناتجةِ عنها (Salkovskis , 1999) وتتفاعلُ كلُّ هذه العواملُ لإبقائه في هذه الحلقة المفرغة، إلا أن هذا التصورَ المعرفي رغم شرحه لكيفية حدوث الاضطراب لا يجيبُ أيضًا على سؤال لماذا يحدثُ اضطراب الوسواس القهري لشخص معينٍ دونَ الآخر (Steketee et al.,1998).
إذن فهذه هيَ بعضُ أشهر محاولات الفهم لكيفية حدوث اضطراب الوسواس القهري، وهيَ محاولاتٌ لا يقوم على أيٍّ منها دليلٌ ماديٌّ دامغٌ كما بينتُ من قبل، ومن الواضح في الحقيقة أن المعلومات التي وصلنا إليها من خلال الأبحاث العلمية القائمة على التقنيات الحديثة والمتطورة في تصوير المخ البشري إنما تشيرُ في وضوحٍ إلى كون أدمغة مرضى اضطراب الوسواس القهري مبرمجةٌ بشكلٍ ما يجعلها عرضةً للسقوط في براثن الأفكار الاقتحامية أو الأفعال القهرية التي تحدثُ لكل بني آدمَ لكن الشخص الذي لديه استعدادٌ بيولوجي للوسواس القهري لا يستطيعُ التخلص منها، وهكذا تكونُ هذه المعلومات بمثابة التفسير الذي يصلحُ للإجابةِ عن سؤال لماذا يصبحُ البعضُ مرضى بالوسواس القهري بينما لا يصبحُ الآخرون، ولعلَّ نفس المحاولة تحاولها النظرية المعرفية لكنها لن تستطيعَ إثبات صحةِ تصورها بينما قد تستطيع الدراسات البيولوجيةُ إثبات تصورها إذا تمكنت من إجراء دراساتٍ مستقبليةٍ Prospective Studies بحيثُ تتم متابعةُ مجموعات كبيرةٍ من المراهقين العاديين وتصوير أدمغتهم وإثباتُ أن نسبةً معينةً منهم تكونُ عندهم إرهاصاتٌ للاختلافات التي نراها في أدمغة مرضى الوسواس القهري، ثم تثبتُ الدراسةُ بعد المتابعة أن معظم هؤلاء الذين كانت لديهم إرهاصات الاختلافات قد أصابهم اضطراب الوسواس القهري.
هذا النوع من الدراسات بالطبع صعب التطبيق على الأقل في ظروف كظروف الدراسات العلمية الآن، ثم أنهُ حتى لو تمت مثلُ هذه الدراسة (رغم أنهُ نوعٌ من الخيال)، فإنها لا تجيبُ أصلاً على السؤال المبدئي وهو لماذا تحدثُ الأفكارُ أو الأحداث العقلية التسلطية أو الاقتحاميةُ؟ وما هوَ مصدرها؟ وهل كونها خبرةً بشريةً شائعةً يعني أننا لا يجبُ أن نسألَ مثلَ هذا السؤال؟ بالطبع لا! والحقيقة أننا بعد هذا الاستعراض نستطيع أن نؤكد أن كل النظريات العلمية في علم النفس والطب النفسي حتى يومنا هذا لا تقول لنا ما هو مصدر الأحداث العقلية التسلطية بينما نجد إجابة هذا السؤال في الدين وبمنتهى الوضوح في الدين الإسلامي، حيث ترد كل الوساوس إلى الشيطان وبقدر ما يعجز العلم الحديث عن إثيات هذه العلاقة بالشيطان بقدر ما يعجز عن نفيها.
المراجع: 1. وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصدار يونيو 2003 عدد 293.
2. Abed, R. T. (2000) Psychiatry and Darwinism. Time to reconsider? British Journal of Psychiatry, 177, 1-3
3. Abed, R. T. & de Pauw (2000): An evolutionary hypothesis for obsessive-compulsive disorder: a psychological immune system ? Behavioural Neurology, (in press) “ Quoted from Abed, R. T. (2000)”
4. Bradshaw, J.L, (1997): Human evolution: A neuropsychological perspective, Hove: Psychology Press.
5. Bickerton, D, (1996): Language and human behavior, London: UCL Press,.
6. Salkovskis ,P.M. (1999): uderstanding and treating obsessive compulsive disorder. Behav. Res.& Ther (July Sup.) S29-S52.
7. Steketee ,G. , Frost , R.O., and Cohen ,I. (1998): Beliefs in OCD. Journal of Anxiety Disorders , V.12 ,P : 525-537.
الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 19/05/2010
|
|