بدت لي مسألة العلاقة "الإشكالية" بين الدين والعلم؛ كما يصورها لنا بعض المثقفين والذين رتبوا عليها "مبدأ ضرورة الفصل بين الدين والعلم"؛ كحال من زار مدينة، فسار في "بعض" أجزائها، ورأى أنها مكتضة الشوارع غير منظمة المباني، فحابلها الإنساني مختلط بنابلها المادي، فرجع يحكي لنا قدر التخبط والعشوائية والهمجية في تلك المدينة، وجعل يقص علينا كيف رأى أناساً كثيرين يتشابكون بالكلام ويتعاركون بالأيادي في موجات تنافر وصراع مقززة، والأخطر من ذلك أنه أرجع ذلك كله بحكم جازم وحاسم إلى:
"غباء التخطيط المدني" و"رداءة المعايير العمرانية"، ولم يعلم أن ذلك الجزء الذي وقف عليه من تلك المدينة يقع "خارج حدود" التخطيط والعمران في المدينة أي أنه يقع فيما وراء التخطيط المدني والمعايير العمرانية، حيث يقع ضمن "تخوم العشوائيات" التي لم تسيطر عليها السلطة التنفيذية، فتركت الفضاء للعشوائية والهمجية!
من تلك الصورة المجازية ، يمكن لنا أن نشتق العديد من الأسئلة الهامة في سياق الموضوع، ومن أهمها:
* هل مارس الدين الإسلامي تعويقاً حقيقيا للعلم أو تضييقا عليه أو تسطيحاً أو تهميشاً له؟
* هل ثمة إشكالية حقيقية في مسألة العلاقة بين الدين والعلم في ثقافتنا العربية الإسلامية، في ماضيها وحاضرها؟
* أم أنها إشكالية مولّدة أو متولدة من بعض الممارسات الرديئة التي تحسب على الدين؟
* أم هي إشكالية مستجلبة من فكر الآخر، وبالتحديد من تحيزات الآخر؛ تلك التحيزات التي يعتقد البعض بأننا ملتزمون ومجبرون على التعارك معها، لا لشيء إلا لأنها ضمن المباحث المعرفية – الابستمولوجية - والفلسفية الغربية؟
* هل العطالة العلمية والتكاسل الفكري الذي نعاني منه في العالم العربي والإسلامي نابع من تلك الإشكالية "المزعومة" أم أنها إفراز لعوامل أخرى، لم تنل منا حظاً يذكر من التشخيص الدقيق وفق مقتضيات العلم الذي نهب للدفاع عنه ونحميه من تدخلات الدين المحتملة "المقيدة" لتحركاته وإبداعه ؟!
مثل هذه الأسئلة، تصلح كمقدمة للدخول في النقاش الدائر حول علاقة الدين بالعلم، في معالجة مكثفة تأتي كاستجابة لطلب أخي الدكتور عبد العزيز قاسم للمشاركة في ذلك النقاش الفكري الرصين الذي يدور بين عدد من المثقفين العرب، دون أن تكون هذه المداخلة متوجهة للرد على كاتب بعينه أو فكرة بعينها، وسأحرص في هذه المعالجة على أن تكون متسمة بالبساطة والمباشرة والاختصار، لاسيما أن المشتغلين بهذه المسألة على درجة من الدراية الفلسفية والفكرية بتفاصيل القضية ومفاهيمها.
ما هو الدين؟ وما هو العلم؟
من الإشكاليات الكبرى التي نعانيها في نظرتنا إلى الدين والعلم أو تعاملنا معهما، أن البعض يستجلب -دونما مسوغ منهجي- المفاهيم والتصورات والأفكار حول الدين والعلم من "النماذج المعرفية" للآخر، مما يتسبب في إحداث تشوهات كبرى ويملأ جهازنا المعرفي بالعديد من تحيزات الآخر؛ تلك التحيزات التي نستطيع أن نعيش وأن نتقدم دون الحاجة إلى التورط بها أو التعارك معها!
الدين هو: عقيدة يؤمن بها الإنسان ويلتزم بما يترتب عليها من شعائر تعبدية وإطار قيمي وأخلاقي وسلوكي. والإسلام – بوصفه الدين الصحيح الذي نؤمن به – يتسم بعدة خصائص مميزة تجاه العلم لابد من التأكيد عليها ونحن نشتغل في مسألة العلاقة بين الدين والعلم، فهي ركائز منهجية في تلمس الإشكالية وتشخيصها وتتبعها في الخارطة المفاهيمية والفكرية والتطبيقية، وحتى ولو بدا بعضها مكرورا في نظر البعض، وقد يكون ملائماً أن نكثف الحديث عن تلك الخصائص في أربع نظرات محورية، هي:
1. النظرة التبجيلية للعلم، بتكريم حملة لوائه والمشتغلين به والاحتفاء بهم ورفعة شأنهم، لدرجة أضحى العلم معها جزءاً لا من الدين نفسه بل من آثاره أو لوازمه الأصلية وهو "التدين"، فطلب العلم وتحصيله والتعمق به وتطويره ونشره وتعظيم الانتفاع به هو انعكاس ضمن انعكاسات التدين الصحيح؛ على من يطيق ذلك ويتوفر على الأدوات اللازمة، وكل بحسبه.
2. النظرة الشمولية للعلم ، فعلى الرغم من إيلاء العلم الشرعي جانباً من الأهمية، إلا أن الإسلام جاء ليؤكد ضرورة الاشتغال بكافة العلوم المفيدة بشكل متوازن، والمعيار في ذلك هو الاستجابة إلى الميول الفردية والتناغم مع المواهب الشخصية وفق مبدأ "فرض الكفاية"؛ في دائرة تضمن تحقيق المصالح العامة في شتى جوانب الحياة.
3. النظرة الأخلاقية للعلم، فالإسلام يكرس فينا البعد الأخلاقي حين نشتغل بالعلم، بدءاً بعملية تحصيله وفهمه ومروراً بعملية توجيهه وتطويره وانتهاء بعملية توظيف نتائجه المباشرة وغير المباشرة في كافة الميادين.
وهنا أود الإشارة إلى فكرة طالما خامرتني، وهي فكرة مبدئية غير أنها جديرة بالتأمل وربما التحقق من درجة صحتها، والفكرة تتجسد باختصار في أن الإطار الأخلاقي للعلم هو الذي حمى العلم - إبان الحضارة العربية الإسلامية - من الولوج أو التورط في بعض المجالات الخطرة أو لنقل القذرة ، فلم يشتغل علماؤنا حينذاك بتطوير أدوات القتل الجماعي والإبادة؛
مع أنهم – في رأيي – كانوا يتوفرون على المادة العلمية والرصيد التجريبي الذي يمكنهم من تحقيق تقدم كبير في ذلك المجال، غير أن الأخلاق والقيم لعبت دورا كبيرا في عملية التوجيه للعلم وصيانته من أن يتدنس بعمليات الإبادة الجماعية للحرث والنسل، بخلاف واقع العلم الحديث الذي شهد تلوثاً ضخماً وتورط – عبر إسهامات علماء كبار ومراكز بحثية ممولة - في كثير من الأعمال والممارسات اللا أخلاقية، سواء كان ذلك في جوانب الحرب والتدمير الشامل أو التسويق للمنتجات بطرق لا أخلاقية أو التسويغ للشركات العابرة للقارات في بعض تصرفاتها المشينة، مما أوجد تهديدات خطيرة ومتزايدة للإنسانية بل لكوكب الأرض، بسمائه وبره وبحره.
وهنا قد يقول بعض المثقفين: أن العلم الحديث – وفق الفكر الغربي – له إطاره الأخلاقي Ethics الذي يجب الالتزام به، وما تحدثتَ عنه هو مجرد ممارسات عملية ولا يؤاخذ بها العلم ولا يحاسب عليها، وهنا نتساءل: هل الأخلاق مطلقة أم نسبية؟ ثم ما هي الأخلاق التي يجب أن نلتزم بها؟ وهنا أقول: ألا ترون معي أن مجرد القول بوجود إطار أخلاقي للعلم، يعني بالضرورة أن "رأس الدين" قد أطل علينا في "فضاء العلم"؟! أم أن هناك فرقاً بين الدين والأخلاق؟ وهل نحن ممن يفرق بينهما؟ سنعالج هذه المسألة الهامة لاحقاً.
4. النظرة المكرسة للإبداعية العلمية، فالعلم هو منفذ كبير للعقل لكي يمارس الإبداع ويحقق فتوحاته واكتشافاته، فنحن مدعوون إلى التلبس بأكبر قدر ممكن من الإبداع الذي يرتكز على "المرونة الذهنية" وفتح باب الاجتهاد أمام العقل في ضوء المنهجية العلمية ، بإطارها الفلسفي والمفاهيمي والإجرائي، ومما يترتب على ذلك الاتصاف بـ "الطلاقة الفكرية" التي تقود إلى" الأصالة التامة" أو "الأصالة الجزئية".
وقد عزز الإسلام ذلك النهج وكرسه لا في العلوم النظرية غير الشرعية والعلوم التطبيقية فحسب بل في العلوم الشرعية ذاتها، وكلنا يتذكر الحادثة الشهيرة (لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة)، ونحسب أن دلالاتها المباشرة واضحة في تسويغ إعمال العقل في المعلوم (الأمر النبوي) للوصول إلى غير المعلوم (الحكم وتحديد مكان الصلاة) في فضاء ديني يرحب بتنوع الآراء ما دام أنها في دائرة الاجتهاد المنضبط بالمنهجية العلمية المقرة في استنباط الأحكام.
هذا هو الدين وتلك هي نظراته للعلم، وبقي أن نتساءل عن العلم، ما هو، ثم ما حقيقة العلاقة الإشكالية بين الدين والعلم، وهل ثمة مسوغات مقنعة للفصل بينهما؟ بل هل هنالك إمكانية أصلا لعملية الفصل تلك، من الناحية العقلية المجردة؟
هذا ما سوف نعالجه في الجزء التالي من هذه المداخلة المختصرة.
واقرأ أيضًا:
السنة والشيعة ومفهوم الأمة الواحدة/ متى نشخِّص الثقافة؟/ القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية!/ حوار مع السيد العلامة: محمد حسين فضل الله/ وعينا متوعك!!/ المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون!/ ما وراء (التشخيص الثقافي)!/ الثقافة العربية المعاصرة.. (ثقافة قلقة)!/ أسئلة حول (الثقافة القلقة)!/ سمات عَشْر للثقافة القلقة!/ حول مكاشفات فضل الله/ مستقبلنا يخاطبنا يجب أن تكونوا عقلانيين ومتسامحين/ الممارسات الرديئة وفصل الدين عن العلم!/ خرافة المفكر - الروائي - الفنان (العالمي)!/ الهجرة نحو (الإنجليزي)... تهديد الهوية (2/2)!