تأقلمنا على الخصاء السياسي العربي، وتعودنا أن يبدو دائما كاشفاً وفاضحاً لمدى التهاون والتنازل بشأن كل الخطوط الحمراء في قضايانا المصيرية، بما يصل أحياناً لحد الخيانة أو على الأقل البلادة والبلاهة السياسية، وتعودنا مؤخراً ألا نتوسل أو نستجدي النصر أو المساندة من المؤسسات الرسمية العربية لصالح أي قضية عربية.
لكن الذي جدّ هذه المرة أن العرب حتى لم يعودوا قادرين على تصديق النصر حينما يحقوقونه!!! بينما تظل المناقشات تدور في فلسفة وسفسطة عجائزية حول "نعمل قمة ولا الموضوع ميستهلش"!.
البلادة السياسية تتبّدى هذه المرة في أعتى صورها، إذ حينما تلوح في الأفق أمارات لنصرٍ عربي وشيك، يبدو في حاجة لقليل من المجهود لكي يكتمل، نجد أن العرب -ليسو عاجزين عن الانتصار- إنما عاجزين حتى عن تخيل أنفسهم في موضع المنتصر والفائز!
بمعنى أدق: العرب عاجزون عن تصديق النصر!
آية ذلك أن المتابع والمحلل للأحداث، يرى بوضوح أزمة الكيان الصهيوني بعد عمليتي أسر الجنود في فلسطين ولبنان، وتماسك المقاومة في وجه العدوان الوحشي، وتحقيقها لمكاسب استراتيجية ونقلات نوعية كبيرة في مواجهة العدوّ، وكيف يمكن أن يتم (ترجمة) ذلك إلى نصر أكبر من خلال التفاوض، وبرغم ذلك يأبى العرب أن يصدقوا أن ثمة نصراً كبيراً تحقق، وأن ما عليهم سوى قليل من الحنكة الدبلوماسية والمهارة السياسية – لا العسكرية – لكي يكتمل النصر!
دلالات من قلب المعركة
وحتى لا يكون الكلام فضفاضاً عاماً، نسوق فيما يلي عدد من الدلالات على مأزق الكيان الصهيوني ومدى سهولة إحراجه وتحقيق نصر ولو جزئي، فقط إذا توافرت الإرادة السياسية لذلك:
- عملية أسر الجندي التي نفذتها حماس مع فصيلين آخرين، كانت عن طريق نفق طوله 400 متر تحت السور اللا آدمي الحاجز، استمر حفره 3 أشهر، وتمت مهاجمة الجنود في موقع عسكري يزعم الصهاينة أنه من أكثر المواقع تحصيناً، وأسفرت العملية عن مقتل جنديين وإصابة 7 وأسر جندي واحد تم جره طوال النفق! (مقال فهمي هويدي في الأهرام بتاريخ 11 يوليو)- شيمون شيفر – محلل بصحيفة ها آرتس الإسرائيلية – وصف رد فعل أولمرت بأنه (جُن جنونه).
- الجنرال زئيف شيف قال (في ها آرتس 30/6/2006) معلقاً أن المنفذين أثبتوا أن لديهم قدرات كبيرة في جمع ملعومات استخباراتية فائقة الأهمية. (نفس المقال السابق).
- يعكوف بيري الرئيس السابق للشاباك أعرب عن دهشته (إذاعة الجيش الصهيوني 29/6/2006) من الجرأة التي ميزت منفذي العملية. (نفس المقال السابق).
- براه ميكائيل، الخبير بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية والسياسية في باريس، أكد في حوارٍ (نشر على شبكة إسلام أونلين 15/7/2006) أكدّ أن عملية حزب الله التي أسر فيها جنديين صهاينة من داخل الخط الأزرق لم تكن "مغامرة" وإنما مخططة ومحسوبة بدقة، وأكد أيضاً أنها تنبع من حسابات حزب الله الذاتية اللبنانية –الفلسطينية، وأنه لا دخل للصراعات الإقليمية (إيران وسوريا وأمريكا ) بتوقيت العملية.
- نقلت وكالات الأنباء 16/7/2006 حالة الرعب الرهيبة التي عاشها مواطنو حيفا، بعد أن أوقعت صواريخ حزب الله 8 قتلى صهاينة و 25 جريحاً، ونقلت حالة المصطافين الذين تركوا الشواطئ عرايا هرباً للملاجئ، خاصة أن مدينة حيفا مليئة بالمصانع الكيمياوية التي يكفي تدمير واحد منها لإحداث خراب بالمدينة بأكملها!
- نقلت الجزيرة في نفس اليوم، إعلان الجيش الصهيوني أن صواريخ حزب الله قادرة على الوصول لتل أبيب.
- أحبط مقاتلو حزب الله عدة محاولات صهيونية للإنزال والتوغل البري في جنوب لبنان.
- دمر حزب الله بارجة بحرية صهيونية، وقتل 4 من طاقمها وهو ما يعد نقلة نوعية أخرى للمقاومة.
- نقلت وكالة رويترز 16/7/2006 عن مسئول عسكري إسرائيلي قوله إن الصاروخ الذي أصاب البارجة لم تكن إسرائيل على علمٍ بامتلاك حزب الله له، كما نقلت صحيفة معاريف الإسرائيلية 16/7/2006 مخاوف بأن يكون حزب الله قد حصل على صواريخ مضادة للطائرات، بينما قال المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية أن قصف الحزب لحيفا يثبت أنه منظمة عسكرية كبيرة.
- برغم كل فارق القوة العسكرية، وترسانة إسرائيل، إلا أنها تقاتل عن بُعد بالطائرات والبوارج البحرية، وتخشى إلى حد الهلع التماس المباشر على الأرض، مع مقاتلي حزب الله وحركة حماس، فحتى في غزة، وبرغم توسع العمليات العسكرية الوحشية، إلا أنهم يخشون من مزيد من التوسعة إو إعادة احتلال القطاع، نظراً للتكلفة الجسيمة التي لا يريدون تحملها في حال الصدام المباشر على الأرض، ويعتمدون حتى الآن على الطائرات والبوارج.
- هذا كله قطرة من غيث، من الشواهد والدلالات على مدى فشل العدو في تحقيق أهدافه العسكرية برغم فارق الإمكانات المادية الهائل، لكن ثمة نقطة أخرى يجدر الإشارة إليها، وهي أن السياسة الإسرائيلية التي جاء بها أولمرت هي نفسها تقريبا نفس السياسة التي يجيء بها كل رئيس وزراء جديد لإسرائيل، فهو لا يتعلم من دروس سابقيه أن الضرب لن يقتل القضية، ويحاول أيضاً أن يجني بعض التأييد الداخلي من خلال توسيع العمليات العسكرية ضد فلسطين ولبنان، خاصة هذه المرة مع رحيل شاؤول موفاز كوزير للدفاع نتيجة للحسابات السياسية أثناء تشكيل الحكومة الائتلافية الصهيونية، وقدوم عمير بيرتس كوزيرٍ للدفاع! وهو الرجل المدني الذي لا يملك الخبرة العسكرية الكافية، وهو نفس الحال بالنسبة لأولمرت الرجل المدني على خلاف سابقيه العسكريين. وهي نفس النقطة التي أشار إليها عدد من المحللين.. الافتقار للخبرة العسكرية.
الكروت التي في أيدينا
محصلة الموقف إذن، أن لدى المقاومة 3 أسرى من الجنود الصهاينة، مستعدون للتفاوض بشأنهم وإبرام صفقة عادلة، تشمل الإفراج عن عدد معقول من المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، بما فيهم كل النساء والأطفال.
هذا الاستعداد للتفاوض، قوبل بغطرسة إسرائيلية، وعمليات عسكرية موسعة، تجاوزت بكثير جداً قضية الجنود الأسرى، أكد خلالها العديد من المراقبين والمحللين أن تلك العمليات كانت معدة مسبقاً وقادمة عاجلاً أو آجلاً ، أسِر الجنود أو لم يُأسروا.
متلازمة الغباء والخِصاء والقزامة!!
جاء رد الفعل الرسمي عربياً، كما عهدنا من الساسة العرب، كلاماً معقولاً وموزوناً حول "ضرورة ضبط النفس" ، وخطورة "جر المنطقة إلى حرب غير مدروسة ولسنا مستعدين لها" وعهدنا أيضاً أن ثلة من المثقفين العرب قد خاضوا في الدفاع عن هذا الموقف، بعقلانية أو بدون، وكأنما كل قولة "لأ " لأمريكا وإسرائيل هي بمثابة إعلان حرب، وجال هؤلاء وصالوا في الحديث عن الدبلوماسية والسياسة، كطريق (ما بعد حداثي) لتحقيق المطالب ونيل الحقوق.
ولسنا الآن في إطار الجدل حول ضرورة التمسك بسلاح المقاومة ليس فقط كحق مشروع، وإنما كغطاء للأمن القومي العربي بأكمله، لكن لن تبني أرضية للمفاوضات مع الصهاينة دون أن "توجعهم" .. والآن ماذا حدث؟!
لمّا ظهرت وسطعت الفرصة لاقتناص نصر "سياسي" كما يسمونه، من خلال اللعب بأوراق الجنود الأسرى، وجدنا العرب يتنصلون من المكاسب، وغير مستعدين حتى للتفاوض! غير مستعدين لترجمة انتصارات المقاومة على طاولة المفاوضات!
تبخرت المهارات السياسية التي أوجعوا بها رؤوسنا ليل نهار في الصحف والتصريحات، وتبخرت الحلول الدبلوماسية التي يتدشقون بها كل ساعة، وبدا الجميع مرتعداً مرتعباً أمام إسرائيل وأمريكا، واقفاً يشدو تراتيل السمع والطاعة، غير مصدق للنصر الذي حققته المقاومة!
بدا العرب أقزاماً أمام إسرائيل، ثمّ ظهر خِصائهم حينما لم يفعلوا – ولو حتى الإجماع على بيان إدانة– لنصرة القضية، وأخيراً ظهروا في قمة الغباء والبلاهة السياسية حينما لم يحاولوا ترجمة النصر العسكري الكبير الذي حققته المقاومة إلى نصرٍ سياسي ولو جزئي.
بينما خرج بيان وزراء الخارجية العرب -لم يدين حتى اعتداءات إسرائيل- ليعترف "بفشل عملية السلام" .. فإذا كان الساسة العرب لا يرون سوى السلام حلاً، ثم يعترفون بفشله، فهلا تكرمتم علينا وأفحمتمونا بماهية الحل الذي ترونه؟!
البيان الذي لم يتخذ أي قرارات سوى "اللجوء لمجلس الأمن" اعتبره المحللون بمثابة أزمة ديبلوماسية، على النحو السابق، هكذا عبّر د. وحيد عبد المجيد الخبير بمركز الأهرام للدراسات، واعتبر اعتراف الجامعة العربية بفشل عملية السلام، إفلاساً سياسياً للحكومات. (تصريحات لإسلام أونلين 16/7/2006).
بينما تساءل المحلل د. حسن أبو طالب – الخبير في مركز الأهرام للدراسات– ألا تملك مصر من علاقاتٍ مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومن الدوافع والإمكانات الدولية ما يمكنها من أن تكون بوابة لوقف التصعيد وتسوية قضية الأسرى الإسرائيليين في مقابل الإفراج عن عدد معقول من الأسرى الفلسطينيين؟! (مقال بجريدة الأهرام 15/7/2006).
الإرادة غائبة.. والخبث متوافر!
الإرادة العربية في تحقيق أي نصر، حتى لو بطريق التفاوض، تبدو غير متواجدة على الإطلاق، إما بسبب متلازمة الغباء والخِصاء إياها ، أو – من أسفٍ – بسبب حسابات سياسية داخلية، تقترب من الخيانة، وتهدف في الأساس إلى تحجيم صعود الإسلاميين في المنطقة.
فعلى الصعيد الفلسطيني، بذلت جهات معروفة تنتمي لحركة فتح، المحاولات المضنية لمحاصرة حكومة حماس منذ أول يوم لإعلان نتائج فوزها، ولا يتسع المقام هنا لسرد كل تلك المحاولات، لكن فقط نسلط الضوء على الأزمة الأخيرة حيث كتب الأستاذ فهمي هويدي في مقاله بالأهرام 11/7/2006 مفنداً عملية تدمير غزة تفنيداً دقيقاً، حين أشار إلى دور المؤامرات الداخلية، ورغبة بعض القياديين في فتح أنفسهم بإطلاق المجال أمام إسرائيل لتدمير حكومة حماس، وفض الالتفاف الشعبي من حولها، بعد أن فشلت محاولات أبو مازن في حلّ المجلس النيابي، وإعادة إجراء انتخابات مبكرة، لذلك بدى (الاستجداء بإسرائيل) –وآسف لاستخدام هذا المصطلح المؤلم– هو الحل عند أبو مازن والقيادات الأمنية في جهاز الأمن الوقائي، الذي كان يجري محموماً لمعاونة إسرائيل في إيجاد المستوطن الذي اختطفته ألوية الناصر صلاح الدين!!
الحكومات العربية بدت أيضاً مبتهجة ومستعدة للتعاون في محاولة إفشال حماس، لدرجة أن المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية تباهى في تعليق بثته قناة الجزيرة بأن حكومة حماس معزولة!
أمّا على الصعيد اللبناني فحدث ولا حرج، التصريحات العربية خرجت "صريحة" ومعبرة عما يدور في مكنونات "الأشقاء" العرب، حينما كشفت –وفضحت– عن عدم استعداد الحكومات العربية لبذل أي مجهود "ولو تفاوضي" لنصرة المقاومة، وهو ما يكشف عن رغبة مبيتة في إفشال الإسلاميين.
لست أدري كيف يذهب البعض إلى تفسير عملية حزب الله على أنها جاءت في إطار لعبة إقليمية دولية، بما يعني أنها جاءت قبيل اجتماع الثمانية الكبار في بطرسبرج، وقبيل اتخاذ قرار بشأن نووي إيران في مجلس الأمن، أي أنها لعبة إيرانية – سورية لدق ناقوس الخطر لدى أمريكا وإعادة التفكير في فرض أي عقوبات على إيران.
أذهب إلى القول بأن ذلك التحليل كان سيشهر في أي وقت تجيء فيه عملية حزب الله، إذ أنّ الاتهامات لحزب الله بخدمة أجندة إيران –وليس لبنان– لم ولن تكون جديدة، لكن الحقيقة أن العملية جاءت في الوقت المناسب فعلاً، وتدل على أنه قرار ينبع من داخل حزب الله، وليس من إيران.
لاحظ كيف قلت المجازر اليومية بحق الفلسطينيين إزاء رعب إسرائيل على الحدود الشمالية، كما أن حسن نصر الله أشار للعملية في عدة تصريحات صحفية سابقة، وحسناً فعل حسن حينما لم يبلغ الحكومة اللبنانية – الغير قادرة على اتخاذ قرار حماية أراضيها – بقرار العملية، في حربٍ كرامة أخذت فيها حركات المقاومة دور الحكومات، ليس فقط في المقاومة، وإنما في الخدمات الجماهيرية صحية وتعليمية واجتماعية.
لست أريد أن أطيل في هذه النقطة، إذ أجد في تحليلي كلٍ من محمد جمال عرفة وبراه ميكائيل ما يكفي لإثبات "لبننة" قرار حزب الله.. وليس إيرانيته.
دور ريادي إعلامي يستحق الإشادة
لا يجب أن يفوتني قبل النهاية أن أشيد بالدور الريادي الذي تلعبه قناة الجزيرة حاليا، في نقل الحقيقة وتعبئة مشاعر الأمة، أخيراً نجد الانحياز الموضوعي لقضايا العرب، والتجاهل المستحَق لوهم وسفسطة "القيود المهنية" و "الحيادية" التي باتت عائقاً عن نقل الحقيقة في كثير من الأحيان.. الحيادية تعني أن أنقل الصورة كما هي، لا أن أتدخل لكي أوازن بين وجهتي نظر فتظهرا متساويتان كما يحدث في العديد من البرامج.
لاحظت أيضاً في متابعتي لعدد من الصحف الحكومية أن معظم مقالات الرأي جاءت مؤيدة لموقف حزب الله، وأتمنى أن يستمر هذا الموقف.
في تصويتٍ على موقع الجزيرة شارك فيه أكثر من 137975 شخص كان السؤال "هل ترى في مواجهة حزب الله مع إسرائيل": واختار أكثر من 91% من المشاركين "مقاومة مشروعة" بينما اختار الباقون "مغامرة غير محسوبة".. وبرغم التحفظ البحثي على نتائج تصويتات الإنترنت، إلا أن الفارق الشاسع يكفي للكشف عن حجم التأييد الذي يلقاه موقف حزب الله والمقاومة في الشارع العربي.
لم يطلب أحد من القادة العرب فتح جبهات قتال، أو إنزال بري أو هجوم جوي، وغاية ما كنا نأمله أن يقتنص السادة الفرصة للضغط الدبلوماسي وإعادة إسرائيل لطاولة المفاوضات لتسوية قضية الأسرى تسوية عادلة، لكن تأبى الأنظمة العربية إلا أن تثبت فشلها وانبطاحها.. وتفوت فرصة كبيرة للنصر.
على العرب أن يدركوا أن الحرب الدائرة الآن هي حرب لإعادة قوانين اللعبة، لنزع سلاح حزب الله، وإضعاف وشل حركة حماس، وساعتها سيدرك العرب أنهم صاروا عرايا، وسيتساءلون عن الأيام الخوالي حينما كان حزب الله وحماس يعطلان سرطان الكيان الصهيوني الراغب في التوسع والتمدد عبر كل الشرايين الممكنة.
لكن مازالت الفرصة مستمرة، والمراهنة على سواعد المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وحسناً فعل نصر الله في خطابه المتلفز 16/7/2006 حين ختمه قائلاً أنه لن يستجدي أحداً أو يناشد أحداً للقيام بدوره، وإنما فقط يضع الشعوب الإسلامية أمام مسؤولياتها... لذا أجد نفسي خاتماً للمقال بالدعاء: رحماك يا رب العباد.
*اقرأ أيضاً:
حتى لا نقع في الفخ... المعركة التي نخوض / على باب الله: أقول لهم نصرٌ.. فيقولون شيعة