حين أحب أشحذ همتي بالإيمان ألجأ دائما إلى كتاب الله تعالى، فأجد نفسي تتغير، وكأنه إعادة شحن أو تغذية من جوع، وربما يشعل همتي أن أحضر بين جموع مؤمنة، تعلن ولاءها لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتثبت أن الأمة لن تموت، وأنها باقية، وأن مشاعل الإيمان يمكن أن تصنع المعجزات.
ليس هذه خطبة حماسية، بل إنها واقع ملموس، يكاد يتكرر معي في كل احتفالية تهدف لغوث الملهوف وعون المحتاج، والوقوف ضد الظالمين المعتدين، فمثل هذه الأعمال أعمال صالحة ترتقي بروح العبد ليحلق في آفاق الإيمان، ساجدا لله رب العالمين، وهي تمثيل واقعي لسنة النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يحضر الأحلاف التي تناصر المظلوم، وتعلن رفضها لاعتداء الظالم، كما قال عن حلف الفضول بعد النبوة والإسلام: "ولو دعيت لمثل هذا لأجبت".
مجلس مبارك
كنت أشعر وأنا أجلس في احتفالية لجنة الإغاثة التابعة لاتحاد أطباء العرب لتدشين حملة لجمع مليار يورو لإغاثة الشعب الفلسطيني تحت هذا الحصار الأمريكي الأوربي، بأنه مجلس مبارك، تحفه الملائكة، ويباهي الله تعالى به أهل السماء، بل أعده أصدق عند الله من ألف درس علمي، يتدارس فيه المسلمون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ التدارس شيء نظري، أما عون المظلوم وبذل المال في سبيل الله، فهو غاية التدارس.
وأول مشاهد الإيمان الصادق، هو حضور الدكتور حمدي السيد، نقيب الأطباء، الذي أصيب بوعكة صحية، ورغم أن الرجل اعتذر عن الحضور، ولكنه تحامل على نفسه، وحضر الحفل، وقال: إذا كان شعب فلسطين يموت كل يوم، فليس بقليل أن أجيء أشارك في هذا الوقت، مهما كان المرض قاسيا، وقد ذكرني موقف الدكتور حمدي السيد بأولئك المجاهدين من الصحابة حين كانوا مرضى ولكن الإيمان يسوقهم للجهاد في سبيل الله تعالى، وحين يردهم الرسول صلى الله عليه وسلم يرجعون باكين لحرمانهم من الأجر.
وسارعوا
حضرت قبل الحفل بوقت كاف، رأيت عيون الناس وهي تتقدم إلى دار الحكمة لتسأل عن مكان التبرع، إذ وضع المنسقون لهذه الحفلة شرطا لحضورها، وهو التبرع بـ1000 جنيه(180دولارا)، ورغم ما يعمل من حال الشعب المصري ، فإن من كان يملك هذا المبلغ أو يزيد كان يسارع بالتبرع.
نظرت إلى الحاضرين الذين جاءوا متبرعين، كنت ألحظ منهم من هو يكاد يكون مهلهل الثياب، أيقنت أن إيمان الشعب يصنع المعجزات، فهؤلاء ربما دفعوا كل ما يدخرون في بيوتهم لأجل إخوانهم في فلسطين، لتتحول كلمات الله تعالى إلى نور يصنعه المؤمنون، (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9).
وفي الحفل طلع الشاعر وحيد الدهشان، وأنت تنظر إليه تعلم من حاله أنه ليس من أولئك الشعراء الذين تملأ الآلاف والملايين جيوبهم، وقد جاء ليلقي قصيدة عن فلسطين، ولكنه قبل الحفل، إذا به يخرج 50 جنيها، ويقول: لا أستحي أن أتبرع بهذا المبلغ الذي أعطتني زوجتي إياه، فلربما يكون كل ما نملك في البيت.
أطفال أبطال
أطفال صغار، يخرجون على المنصة ليتبرعوا ببعض الأموال الزهيدة جدا، بل جاءت طفلة وهي تحمل في يدها حصالتها، فحين رأت الكل يتبرع، قامت لتتقدم وتعلو المنصة وهي لا تكاد تظهر أمام الناس لصغرها، وتقدم حصالتها، عسى أن يستعملها المنظمون في شيء نافع.
تقدمت إلى أشرف عمر، وهو طالب في الصف الأول الإعدادي، قلت له: ما جاء بك يا أشرف؟ فكلمني وأنا أشعر أن أكلم رجلا وليس صبيا صغيرا، من حقه أن يمرح في الحياة، ولكني رأيت صورة أطفال فلسطين في أطفال مصر، لقد رد علي أشرف قائلا: جئت لأتضامن مع شعب فلسطين، هزتني الكلمة، من أين جاء هذا الصبي بهذه القنبلة الإيمانية، فقلت له: كيف تتضامن يا أشرف؟ قال:جئت لأتبرع ببعض المال لشعب فلسطين، فقلت له: وكيف جمعت المال؟ قال: أنا أدخر جزءا من مصروفي اليومي، وجئت اليوم لأقدمه لإخواني في فلسطين أنا ووالدي.
فداعبته قائلا: أما كان من الأفضل أن تنفق هذا المال على نفسك، فتشتري به حلوى أو أي شيء لك؟ فنظر إلي وهو يستغرب من كلامي، وكأنه يقول: من أين جئت يا رجل؟ ثم قال لي: كيف أنفق كل مصروفي وأطفال فلسطين يموتون جوعا، أولسنا مسلمين؟ تسمرت برهة لم أستطع أن أرد على الصبي، وتمالكت نفسي مرة أخرى، لأكمل معه الحوار قائلا: "وهل تظن أن مصروفك القليل يمكن أن يصنع لهم شيئا؟ قال: نعم، حين أدفع أنا شيئا قليلا، وكل إنسان يدفع مبلغا قليلا، يمكن أن نجمع مبلغا كبيرا نساعد به إخواننا في فلسطين.
عادت بي الذاكرة إلى الأطفال الصحابة الذين كانوا يعرضون أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجاهدوا في سبيل الله، بل إلى هذين البطلين الذين تسللا في غزوة بدر يسألون عن أبي جهل، فحين يسألهما سعد بن أبي وقاص عن سر سؤالهما، فقال كل منهما لسعد وهو يحادثه سرا: لقد سمعت أنه شتم رسول الله، فوالله لا أتركه حتى أقتله.
شباب مجاهد
وفي ظل الحياة الاجتماعية التي نعيشها، وحرص الشباب على الزواج وعبء تكاليفه، تتلاشى الحاجة الاجتماعية أمام الإيمان الصادق، ويتعالى المؤمن والمؤمنة فوق حاجاتهم لله رب العالمين، كميات من الذهب كبيرة جدا، تبرعت بها فتيات وسيدات، "قطع ذهبية"تعرف في مصر بـ"شبكة العروس"، سلاسل وخواتيم ذهبت خلعت من أعناق الفتيات والنساء وأيديهن، لتكون عونا لإخوانهم في فلسطين.
وقبل أيام من هذا الحفل، وفي حفل مماثل، تقدمت إحدى الأخوات الفلسطينيات لعمل مزاد عن ساعة شهيدة، فتقدمت فتاة بألف دولار، كانت قيمة شبكتها، لشراء ساعة الشهيدة، بل الأعجب أنها لم تأخذها، بل تبرعت بها، لتباع مرة أخرى، وفي حفل اتحاد الأطباء العرب بيعت الساعة بـ 65 ألف جنيه، ومن اشتراها أيضا تبرع بها عسى أن تباع بمبلغ أزيد، ويبدو أنها ساعة مباركة.
شاب مقدم على الزواج ، يمتلك شقة "80 مترا" تكاد تكون أقل شيء يمكن للإنسان أن يمتلكه حتى يبدأ حياته الزوجية، بل يكاد يكون شرطا عند كثير من الآباء أن يكون المتقدم لابنته يمتلك شقة، فإذا بالشاب يرسل ورقة دون ذكر اسمه أنه تبرع بالشقة لإخوانه في فلسطين.
وكانت اللجنة المنظمة قد أعلنت أن هذا الحفل مستهدف له أن يجمع 5 ملايين جنيه، فتلحظ عينيك أن الأرقام في ازدياد، وأن الله تعالى يقذف في قلوب عباده حب الإنفاق في سبيله (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) التوبة:41، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الصف: 10-11 . وقبل انتهاء الحفل، تم المراد، وجمعت احتفالية واحدة المبلغ، على أمل أن تكمل المسيرة في الدول العربية والإسلامية، لتنطق الشعوب المسلمة أنها ما تركع إلا لله، وأنها يمكن أن تصنع ما تعجز الحكومات عن فعله، وإن المال الزهيد الذي يخرج من جيوب الفقراء لهو أحب إلى الله تعالى من أولئك الذين يدخرون أموالهم، أو يخشون إنفاقها في سبيل الله.
الغائبون الحاضرون
وإذا كان البعض قد استطاع أن يجمع ألف جنيه أو أكثر ليحضر، فإن الهواتف المعلن عنها لم تتوقف لحظة، ليعلن مئات من الشعب أنه يود لو حضر، لكنه لا يملك الألف جنيه، فكيف يشارك مع إخوانه في فلسطين، ويعيد التاريخ نفسه، فأولئك الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم يريدون الخروج للجهاد، ولكن لا يجدون ما يملكون للخروج، ولم يملك الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن ردهم، فـ" تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ".
الفن المؤمن
ولم تكن علامات الإيمان في المتبرعين وحدهم، فقد كان للفن دور في إشعال حماس المؤمنين، فقد طلع علينا إيمان البحر درويش لينشد أغنية عن فلسطين، تحرك القلوب وتهزها، وتربط بين الحاضر والماضي، فقد ربطت أغنيته بين بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه أن يؤذن في المسجد الأقصى، كما كان لقصيدة وحيد الدهشان التي تنادي صلاح الدين أن يعود مرة أخرى، في ربط بديع بين حال الأمة، وحال حكام العالم، ومقارنة بينهم وبين حال حكام المسلمين عبر التاريخ الإسلامي، ليعيد روح الأمة إلى أفئدة الصادقين، كما تجيء كلمات الشاعر الفلسطينية زينات أبو شاويش حين تخاطب غزة وأنها ستبقى صامدة أبد الدهر ولن تستسلم.
كبار عظماء
وإن كان هذا على مستوى الأفراد، فإن بعض الشخصيات المرقومة في المجتمع المصري قد حضرت لتأكد دعم كل الشعب المصري للقضية الفلسطينية، فقد ألهبت كلمات المهندس عزيز صدقي رئيس وزراء مصر الأسبق جموع الحاضرين، ليعلن أن إيمان الشعوب هو الأمل الوحيد للتغيير ودفع الظلم، وأن جهاد الشعوب برفض الظلم والسعي للعدل وطلب الحق هو السلاح الذي يمكن أن يكون فاعلا في المعركة مع الظالمين.
لقد مثلت الاحتفالية أطيافا من الشعب، فقد حضر عدد من كبار المفكرين والكتاب والعلماء ، وكذلك عدد من رجال الأعمال، والصحفيين، وعدد من أعضاء مجلس الشعب، وحضرها عدد من الشباب والرجال والشيوخ والنساء والفتيات والأطفال، الكل أتوا يعلنون أن الأمة لم تمت، وأن فلسطين لن تركع، والسر وراء كل هذا – أحسبه في الإيمان الصادق، الذي يمكن أن يفعل المعجزات.