بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد؛
صديقي الدكتور، فأنا لا أجد إلا أنت صديق لي بعد أن تركني جميع الناس حتى الأقارب، بسبب مرضي النفسي، عشت في ظروف أسرية قاسية جداً، مع أب مريض عقلي بمرض الفصام، والذي حينما تنتابه النوبات يصبح المنزل جهنم وبئس المصير، فيبدأ في السباب بصوت عال، والضحك ولا مبالاة حتى تنتهي النوبة منه بعد شهر أو ثلاثة أشهر، أن لم يأخذ العلاج لها وهو طبعاً رافض للعلاج.
فنعطيه الدواء سراً في الأكل، يضرب أمي فأتدخل وأنا عمري لا يزال عشرة سنوات، لأحميها وأحمي أخواتي البنات الثلاثة الأصغر مني، فينالني من الخوف ما ينالني من والهلع ما تعجز عنه أفلام الرعب.
ولكن كبرت وأنا أكره أبي وأحقد عليه الذي كان أبخل من أشعب نفسه، حيث كان بخيلاً جداً حتى أنه عندما علم بأننا رمينا عدة سمكات في قاع صندوق القمامة، أزاحها كلها وانتشل السمكات وقلاها في الزيت وأكلها، فكيف سيكون حالنا نحن مع العلم أن عنده مال ولكننا لا نرى منه إلا اقل القليل، بعد مشاجرات عديدة.
نشأت في هذه البيئة الحقيرة، ومما زاد العلة علة أمي أرسلت أخي الأكبر إلى خارج البلاد ليعيش في ظروف بعيدة عن التوتر منذ صغره وكأنها كانت تريد أن تقول لي أنت تصاب ولا أن يصاب الابن البكري لي، مع العلم بأنني أوسم منه.
قد يكون هذا هو السبب الذي دفع الأم لتفعل ذلك فقالت تحميه وسامته من الوقوع في براثن المرض النفسي.
لما لها من إيجابيات على الشخصية، ولكن وبعد أن بلغت سن المراهقة وبعد أن كنت متفوقاً في دراستي، وأستلم الجوائز أمام جميع طلاب المدرسة بدأ العد التنازلي لي فرسبت أكثر من مرتين، بعد ظهور أعراض المرض النفسي علي.
فأنا أعيش في حالة خوف من جميع الناس، أنظر إليهم في الشوارع أمحق النظر في العيون، أخاف أن:
تنظر إلي عيونهم أحس بأنني مراقب من جميع الناس، فأبدأ بالتلفت حولي وعيناي تتحرك لا إراديا باتجاهات مختلفة وبالذات للجالسين بجانبي وتزداد حالة التوتر ويبدأ الصراع الداخلي في صدري، كأنها حرب إبادة جماعية فيزداد كرهي لنفسي، وللعالم من حولي وعدم سيطرتي على مقلتي عيني من أن تنظر حولي مبحلقة في عيون الناس افقدني ثقتي بنفسي،
ومزق إحساس الرجولة وكبريائها وأبدلهما ضعفاً ومهانة ومسكنة حتى صرت أتلذذ بالانطواء ومما يجدر ذكره، هو قسوة أمي التي أبدلت حنانها به كي تسيطر على المنزل وعلى أبنائها، وأقسم لك يا صديقي أنني نسيت كيف يكون شكل حنان الأم الذي يتحدثون عنه، لماذا وبعد أن كبرت وأصبحت في السادسة والعشرين، لا زلت لا أرى هذا الحنان كانت تكفيني نظرة حب من أمي كلمة اهتمام أحس بحنانها بها، ولكن أعتقد بأنها تظن أن هذه هي الشخصية القوية.
ما كانت تعلم أنني أتعذب في كل دقيقة جراء ما كان من الماضي، ومن الظروف الصعبة التي مررت بها في صباي، وعندما قلت لها عن ما عندي اكتفت بالقول اذهب إلى الطبيب النفسي، يا لهذا الاحتواء ويا لهذا الحنان الذي أغدقته علي، على العموم أنا اعذرها فهي إنسان أيضاً.
اختارت الهرب بحجة العمل من المنزل إلى عمل حكومي في دار للأيتام، تبيت فيه ليلة ومعنا ليلة إذا كنت أنت لا تقدرين على البيات في المنزل وأنت في هذه السن فكيف لطفل أن تتركيه في ظل كل تلك الظروف.
وبعد ترددات وترددات ذهبت إلى الطبيب، وها أنا ذا بعد أربع سنوات من العلاج والأدوية مثل... سيبرام ... وانفرانيل... وزانكس وصافينيز.... وبعد أن يأس الأطباء من العلاج، قال لي أنها بوادر حالة فصام فأعطاني أدوية الفصام مثل كلوزابكس ومعه كوجنتين، وأيضاً لا تزال حالة الخوف كما هي ولا تزال حالة الوسواس القهري كما يصفها الأطباء موجودة، وهي كما ذكرت لك أن مقلة عيني تدور في الجالسين أو المارين من حولي خائفة منهم بدون إرادة مني، فينفر الناس من حولي لتزداد حالتي سوءاً ويزداد الرعب الداخلي و و و ،، ولكن ما الحل.
بعدت بالسفر خارج البلاد عن عائلتي، لأبتعد عن أي شيء يذكرني بالماضي السحيق، وسكنت في شقة وحدي أنا مررت بكل تلك الظروف، ورغم ذلك تخرجت من كلية العلوم، وها أنا ذا بلا عمل وأقول لك السبب ليس في مستواي التعليمي، ولكن في حالتي النفسية السيئة ومرضي النفسي.
وأريد أن اذكر شيئاً أنني ما تركت المنزل إلا بعد أن توفي والدي، وأحسست أن مسئوليتي على أخواتي البنات قلت إلى الربع، فتركت المنزل لأخي الأكبر مني وسافرت أحاول علاج نفسي من نفسي وذلك قبل أربع سنوات.
ها أنا ذا أمامك أجثو على ركبتي، أتوسل إليك بعد أن جثوت وتوسلت لله عز وجل، الذي ليس لي رفيق سواه فأنا متدين جداً ولكن قد تكون كلمة تقولها تكون فيها الشفاء، أفدني أفادك الله فإذا علمنا أن من فرج كربة لمسلم من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، فإذا شفيت من مرضي كان لك بعد الله الفضل، فيجزيك الله بكل دقيقة راحة أحس بها.
جزاك الله الخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
5/8/2003
رد المستشار
أقول لبعض مرضاي أنت لا تريد الشفاء فيسألني أحدهم وهل هناك مريض لا يريد الشفاء أقول نعم، إذا كان المرض النفسي هو ملاذه الأخير للهروب من مواجهة نفسه ومشاكله.
إن المرض النفسي في حقيقته هو أحد الحلول التي يقدمها الإنسان لنفسه عندما يعجز عن حل مشاكله بالطرق السوية أو الصحيحة أو الصحية، ولذا فلن تصلح أدوية الدنيا إذا لم تكن لدى الإنسان الرغبة في الشفاء أو في مواجهة الحل الصحيح لمشكلته والذي هرب منه إلى المرض النفسي، فمن المفترض أنه إذا اكتشف خطأ هذا الهروب أن يطلب الشفاء متمثلا في العودة إلى الحل الحقيقي والصحيح، قد يدرك بعضهم ذلك وقد لا يدرك أنه يستطيع المواجهة دون مرض، فيظل محتميا بالمرض النفسي فتتغير كيمياء فمه ولا يصلح أي دواء في إصلاحها لأن الكيمياء تسير في عكس الاتجاه المطلوب."
وعلى ذلك فمرضك النفسي قابل للشفاء إن أنت أدركته بهذه الصورة وتعاملت معه على هذا المستوى، إنك ترفض واقعك، ترفض والدك المريض بالفصام، ترفض أمك المستقوية في محاولة منها أن تواجه حياة مطلوب منها فيها أن تقوم بدور الأب والأم ثم أنت ترفض نفسك في أن تكون ابن هذين الأبوين أو ابن بيئتك، رغم أن أباك ليس له ذنب في مرضه العقلي وتصرفاته ليس مسئولا عنها وبخله ليس بخلا ولكن جزء من عدم إدراكه للواقع حوله، وأنت المطلوب منك أن تكف عن التفكير في الماضي أو حتى الهروب منه، فأيضا أنت لم يكن لك ذنب في أنك خرجت في هذه البيئة ولكنك نجحت واستطعت أن تحصل على مؤهلك الجامعي.