فلسفة تنظيم مسألة الزواج والطلاق
السلام عليكم استشارات مجانين: أود طرح موضوع، وهو ليس مشكلة بقدر ما هي تساؤلات حائرة نتيجة هزات نفسية مررت بها. الأمر يتعلق بمفاهيم الزواج والطلاق ومعاني الغيرة والتنظيم الشرعي للعلاقة الزوجية ... أنا سبق لي الزواج وحدث الطلاق بعد سنة ونصف والآن أنا على وشك الزواج من مطلقة قضت فترة بسيطة جدا في زواجها الأول.
المشكلة باختصار هي أنني رغم أني أقر بعدم إمكانية العيش مع الأولى -ولذلك انفصلنا- فإنني أشعر بالغيرة عليها، نعم قد يكون هذا جزءاً من غرور الرجال أو حب البعض للتملك، لكن صدقوني والله هي مشاعر نفسية لذلك أرجو إبداء الرأي من الناحية النفسية؛ لأن فلسفة تنظيم مسألة الزواج والطلاق تشغلني جدا، أريد أن أفهم.
أود القول: والحمد لله.. الشرع يمنعني من التيه والضياع، وأنا مؤمن بشرع الله لأبعد الحدود لكن هل من تفسير نفسي؟ يعني أنا أجد في نفسي انقباضا من علاقتي بزوجتي الجديدة المطلقة رغم حبي لها، لا لشيء إلا أنها قد كانت لها علاقة زوجية سابقة، قد يكون الزواج أمرا غير الذي يعلمنا إياه المجتمع.
سأحاول صياغة عدة نقاط ألملم فيها خواطري التي تبعثرت هنا.
لماذا نغار على زوجاتنا وبعد حدوث طلاق أو مثلا موت يمكن أن (تنام) هذه الزوجة مع غير الرجل (وأؤكد هنا على الشق النفسي البحت لكي لا يثور ثائر ويتهكم)؟
أنا موقن تماما أن الواقع والحياة قد تكون كذلك، يعني لنصرف النظر عن الطلاق، ولنتكلم عن الوفاة موت عادي أو شهادة في سبيل الله، والله أريد أن أفهم وعلى سبيل المثال هناك شهيد معروف جدا وزوجته شابة وتوفي وهو شاب.
المفارقة التي تحيرني هي أن ذلك الرجل كان غيورا جدا وكانت علاقته بها قوية جدا، وهي تزوجت بعده ومن حقها تماما.
ما شعور ذلك الشهيد عندما تتزوج أرملته؟
أنا أعرف أنه كتب في وصيته لزوجته وهو حي أنه يتمنى ألا تتزوج بعد وفاته إلا إذا خافت على نفسها الفتنة.
المرأة لها الحق في العفاف والحياة الكاملة المطمئنة وهذا هو الشرع، لكن ما هو تعريف الوفاء - الإخلاص - الحب - الغيرة، هل لها وجود أم أن الأمر كله مرتبط بتنظيم المجتمع وعدم اختلاط الأنساب؟
أرجو أن يتم التعامل مع رسالتي من وجهة نظر نفسية فكرية فلسفية؛ لأني ومرة أخرى أقول: أشعر أن مفاهيم الزواج والطلاق والعلاقة بين الرجل والمرأة بشكل عام في الطبيعة وفي الشرع غير ما هو ملتصق بأذهاننا وأعصابنا من المجتمع الذي نعيش فيه، وهو المليء بالأعطاب والبلاوي الثقافية والتربوية والفكرية.
مرة أخرى أرجو أن أجد شفاء لما يلح على ذهني من تساؤلات،
ولكم جزيل الشكر، ومعذرة على الإطالة.
15/5/2022
رد المستشار
التفسير (النفسي) للمشاعر الإنسانية هو ذلك الأمر الذي انشغل به كثير من العلماء والفلاسفة، وكذلك الدجالون والمشعوذون منذ آلاف السنين!! بداية من المنجمين الذين فسروا مشاعر الإنسان حسب (البرج) الذي ينتمي إليه، ثم ظهر بعدهم آخرون يرون أن هذه المشاعر تتوقف على شكل جسده؛ فالطويل حقود وغيور، والسمين شهواني وكسول، وصاحب العضلات عنيف ومعتدٍ!!
كما ظهر أيضًا الدجالون والمشعوذون، الذين يفسرون تلك المشاعر بأن وراءها جنًّا يسيطر على الإنسان فيجعله يحب أو يكره أو يغار!!
ثم مؤخرًا ظهرت النظريات الحديثة، التي من أشهرها: مدرسة الطباع، والمدرسة الإنسانية، والتحليلية، والسلوكية، والمعرفية.
لذلك فإن الإجابة على سؤالك قد تحتاج عشرات الصفحات من الكلام الأكاديمي المعقد!! ولكن دعني أعرض الأمر بشكل أكثر بساطة، وأركز بالتحديد على الجوانب التي تشغلك وهي الغيرة والحب والوفاء، فأقول لك إن هناك عاملين أساسيين يتحكمان في مشاعر الإنسان:
1- العامل الداخلي.
2- العامل الخارجي.
وأبدأ بالعامل الداخلي أو الذاتي، وهو فطري تمامًا، حيث إنه جزء من تركيب النفس ذاتها، بغض النظر عن أي عوامل خارجية، فهناك الغرائز والشهوات التي أودعها الله في الإنسان للمحافظة على بقائه، واستمرار نوعه، ولكن على الجانب الآخر أودع الله في نفس الفطرة: الضمير وصوت العقل حتى يضبط هذه الغرائز، فلا يندفع نحو الأنانية، أو الظلم، أو تدمير الأخلاق والمبادئ، واستقرار الحياة البشرية.
ولعل هذه التركيبة الفطرية التي تحدث عنها العلماء هي ما أشار إليه الله تعالى، حيث قال: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا".
الإنسان -بفطرته- يغار ويريد أن يمتلك كل شيء وحده، فلا تتزوج طليقته برجل آخر، ولا يتزوج هو امرأة قد سبقه إليها رجل آخر، ولكن هنا يأتي صوت العقل والضمير ليبذل جهدًا عظيمًا لترويض هذه المشاعر التي يصعب معها استمرار الحياة، واستقرارها على سطح الأرض.
وهنا أريد أن أقول إن هذا الجزء الذاتي الداخلي تختلف درجاته من شخص لآخر حسب اختلاف (طباع) كل منهم، وهذه الطباع -أيضًا- ذاتية موروثة محمولة على الجينات، فصاحب الطبع (الودود)، وكذلك (الانطوائي) يكون أكثر معاناة في غيرته؛ لأنه -بطبعه- مرهف الإحساس متفانٍ، وهو بطبعه -أيضًا- أكثر وفاءً وإخلاصًا ومثالية، وكذلك صاحب الطبع (المسيطر)، يعاني بشدة؛ لأنه -بطبعه- يميل أكثر للامتلاك والهيمنة، وعلى الجانب الآخر تجد أن الشخص (الاجتماعي) المنفتح أقل معاناة، وكذلك الشخص التحليلي المنطقي هو أيضًا أقل معاناة في غيرته.
وملخص كلامي هو أن هناك صراعًا داخليًا فطريًا بين الغرائز والشهوات من جانب والضمير، والعقل من جانب آخر، وهذا الصراع تختلف شدته في كل جانب من جوانبه حسب (طبع) كل شخص، الذي هو أيضًا ذاتي فطري موروث.
وإلى جانب هذا العامل الداخلي يأتي العامل الخارجي الذي لا يقل عنه أهمية -وهنا سأتحدث أكثر عما نسميه (المدرسة المعرفية) - حيث إن كثيرًا من (المشاعر) التي تتحرك بداخلنا هي نتيجة (للأفكار) التي تعلمناها من آبائنا وأمهاتنا، وإعلامنا ومجتمعنا كله ... لذلك فكل إنسان في حاجة دائمة إلى فحص أفكاره؛ لأنها تتحكم في مشاعره، وسلوكه، وحياته.
وكثير من هذه الأفكار -كما ذكرت في سؤالك- مليء بالأعطاب، والبلاوي الثقافية، ومنها معنى (الوفاء والإخلاص)، فما علاقة الوفاء بألا يتزوج الرجل بعد وفاة زوجته؟ لو كان هذا هو الوفاء لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به بعد وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها، ولكننا تعلمنا منه معاني وتطبيقات (إيجابية)، للوفاء بدلاً من التطبيقات (السلبية)، فهو مثلاً كان يذكرها بالخير، ويزور صديقاتها ويحسن إليهن ويكرمهن.
أنت تقول: (ما شعور ذلك الشهيد عندما تتزوج أرملته؟)
والإجابة: هو لا يشعر بأي شيء!! لأنه أصلاً قد انتقل من طبيعته البشرية التي تعرف الغيرة إلى طبيعة روحانية مختلفة في تركيبها ومشاعرها، وهذه أيضًا من الأفكار التي تحتاج إلى فحص، الأموات لا يشعرون بما يشعر به الأحياء؛ لأنهم تحولوا إلى مخلوقات أخرى ذات تركيبة أخرى.
وهكذا ... كثير من الأفكار تحتاج إلى فحص، وعدم اعتبارها شيئا مسلما به لمجرد أن الناس تكررها كثيرًا.
يمكن أن أختصر إجابتي في سطرين:
مشاعر (الحب والغيرة، والإخلاص، والوفاء) يتحكم فيها عامل داخلي فطري، تتنازع فيه قوتان: الشهوات والعقل، وهذا العامل يختلف من شخص لآخر حسب طبع كل شخص، كما أن هناك عاملا خارجيا يتمثل في الأفكار التي اكتسبناها من مجتمعنا وتربيتنا.
والسؤال هو: ما الذي يملك الإنسان أن يفعله؟ الإجابة هو يملك أمرين:
أولا: أن يجعل الصوت الأقوى لعقله وضميره أكثر من شهواته وغرائزه وطباعه، وهذا لا يعني تجاهل هذه الشهوات والطباع -بل يجب احترامها تمامًا- ولكن أقصد ألا يطلق لها العنان أو توضع لها حدود وضوابط.
ثانيًا: أن يكون في حالة فحص دائم لأفكاره، لتصحيحها وتطويرها وتنقيحها.