لا أتزوج فتاة إنترنت : جولة مع فقه الرعب م
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه رسالة خاصة لشخص د/ أحمد عبد الله وليست للنشر، لذلك أرجو أن تقرأها بتعمق ولا تشغل بالك بالرد، فلست أنتظر ردا.
عزيزي الدكتور/ أحمد عبد الله..
أولا وقبل كل شيء أود أن أخبرك بأنني أحبك في الله، وهذا الحب لأنني عرفتك من خلال مئات أو آلاف المقالات التي قرأتها لك على موقعي المفضل (موقع مجانين دوت كوم) وعرفت حرصك على صلاح الأمة ووعيك العالي بمشاكلها وجهدك في الإصلاح ما استطعت. وهذه المحبة الناشئة عن معرفة هي سبب رسالتي إليك؛ فأرجو أن تقرأها بعمق وإخلاص وتجرد.
أستاذي..
أنا شاب ملتزم والحمد لله، وأعتبر نفسي -ولله المنة- ممن هم ملتزمون على بصيرة. فالتزامي نابع من مشوار طويل -بدأ ولم ينته- من البحث والتقليب والتمحيص والقراءة والسماع والنقاش مع كل الاتجاهات الموجودة حولي (إسلامية وغير إسلامية وجميع الاتجاهات الإسلامية) وأنا لا أمثل فكرا معينا، بل أنتهج -بحرص شديد- منهجا وسطا بين الفرق والتيارات والمناهج الموجودة على الساحة التي تعمقت في فكر كل منها وقرأت وسمعت منهم ومن مخالفيهم ومنتقديهم ومدافعيهم. وأخذت من كل ورددت، ملتزما في كل ذلك منهجا علميا محايدا إلى أقصى درجة أعرفها من الموضوعية والحيادية والتجرد، وفوق كل ذلك النية الصادقة في مرضاة الله ومعرفة الحق واتباعه، وكنت وما زلت أدعو الله أن يريني والمسلمين الحق حقا ويرزقنا اتباعه. ولا يتسع المقام الآن لأتكلم عن رحلتي هذه التي أسفرت عن معرفة -أظنها عميقة بما يكفي- بكل اتجاه ومنهج، بمميزاته، وعيوبه، بما أعرف منه وما أنكر، ولذلك أصبحت أعرف اتجاه الأشخاص من ألفاظ قليلة قد يتفوه بها في حوار عام عابر. ربما لأن هناك شخصية عامة لمن يتبعون منهجا واحدا.. شيء أشبه بالعقل الجمعي.. ربما.
أستاذي الفاضل، لقد من الله عليك -وابتلاك- بأن مكنك من أن تكون في هذا الموقع الحساس الذي يؤثر في ملايين الشباب المسلم عبر القارات أحد أكبر محرري استشارات مجانين. وإنها لأمانة ثقيلة أعانك الله عليها لأن (المستشار مؤتمن). لهذا أحببت أن أطرح أمامك قضية لمست أعراضها في سطورك.. وأقول أعراضها لأنني أعرف أن المشكلة لا تكمن عندك ولكنها في العقل الجمعي الذي أنت جزء منه.. أنا على يقين بأنك من أكثر الناس وعيا بأحوال الأمة التي تدمى لها قلوب من كان عندهم ذرة من إيمان وإدراك .. إنني واثق أنك مثلي تتألم وتتمزق على تفرق الأمة وشدة بأسهم بينهم، وأحسبك مثلي تبكي دما عندما تسمع وترى التراشق بالاتهامات وتَخْطِيء كل اتجاه للآخر. والحقيقة أن كلا عنده خطأ وصواب.. لكن المشكلة هي في تعامل كل فريق مع خطئه، وأيضا مع خطأ غيره (بل قل المأساة).
إنك تجد فريقا يتهم الآخر (بالخروج) عن المنهج السليم الذي كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم. وعلى الطرف الآخر تجد من يرمي أولئك بالتحجر والجمود وعدم فقه الواقع، ويسخر من تمسكهم بأمور يعتبرها جزئيات وتفاصيل ونقاط خلاف ليس من الحكمة الوقوف عندها في هذه المرحلة، ويرميهم بالافتقار إلى الحكمة اللازمة لهذا العصر وبأنهم بهذا الجمود هم الذين يفرقون المسلمين في الوقت الذي نحاول (تجميع) المسلمين (كلهم) في مواجهة أعداء الأمة، والحقيقة أن هذا الكلام يبدو مقنعا و(عاقلا) جدا لأول وهلة. لكنك لو تأملت لوجدت أن من يقوله قد وقع من حيث لا يشعر في نفس ما ينتقد أخاه فيه.
إننا ندعي الحكمة والعقل.. ونزعم أن إخواننا في الدين (وأقرب الأمة لنا في الأصول والفروع) تنقصهم المرونة والحكمة ويتمسكون بشكليات خلافية بين العلماء منذ الصحابة.. فمـــاذا بالله عليـــك تقتضــي الحكمــــة؟ الأمر واضح جلي، وهو أن أتخلى أنا (الحكيم) عن الرأي -الخلافي- الذي أعتنقه واَخذ بالرأي الآخر -والذي قال به علمـــاء أيضا، وذلك في سبيل توحيد الصف وجمع الأمة، وإذا قال قائل: لماذا أكون أنا من يتخلى عن مذهبه؟! أقول له لأنك أنت الأكثر حكمة ومرونة كما زعمت. والأهـم من ذلك: أن أعــــذر أخي فيما اختلفت معه فيه.. وأتعــــاون مع أخــي فيما اتفقنا فيه. فلمــاذا يا أيها الذين آمنـوا تقولون ما لا تفعلـون؟ (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
المأساة الحقيقية أنني فوجئت بأن هذا الموقف ليس مجرد حماس فردي من أفراد صغار لا يملكون الحكمة الكافية -كما كنت أتصور- ولكن من أئمة كبار يؤتم بهم ويؤخذ عنهم. بل ومن شيوخ وخطباء مشهورين ومؤثرين، لماذا نظل (نسخر) من إخواننا و(نسفه كلامهم وأحلامهم) لأنهم يقولون مثلا بأن المنبر الطويل بدعة. لماذا نظل نروح شرقا وغربا لنبرر المنبر الطويل ولا نزداد إلا تمسكا به، ثم نتهم إخواننا بأنهم يضيعون الوقت في فرعيات. لمـــاذا فقط لا نتنازل عنه -وبناقص- هذا المنبر الذي سيفرقنا ولو فرضنا جدلا أن فيه مصلحة؟. وننسى أن تمسكنـــــا برأينـــا هو الذي يخلق المشكلة أصلا، وقس على ذلك كل المسائل التي تعرفها.. ولماذا لا أعترف أحيانا أنني كنت مخطئا أو أن شيخي أخطــأ في مسألة أو أكثر، وآخذ بالحق من عند أي أحد؟ المشكلة لا تكمن في الاختلاف في وجهات النظر في حد ذاته. فهو موجود منذ قديم وبين الصحابة أنفسهم -ولا أقول بأنه رحمـــة كما اشتهر خطأ؛ فالخلاف دائما شر، وقد نهانا الله عنه لئلا نفشل وتذهب ريحنا، ولكن التنوع الفقهي هو الذي فيه توسعة على الأمة ومرونة في التشريع- ولكن المشكلة تكمن في موقفنـــــا من هذا الخلاف.
وأعود للموضوع الأصلي. فقد شعرت بتناقض -قلما شعرت به في كلامك- بين موقفك من قضيتين: هما الشيعة وأصحاب ما أسميته بفقه الرعب.. ولست بصدد الدفاع عن هذا أو ذاك، فكما أسلفت كل أعرف منه وأنكر. لكنني شعرت بتحاملك المبالغ فيه على علماء (شهد لهم العالم الإسلامي) بالعلم (لا بالعصمة) وربما تكون قد تجاوزت عندما جزمت بأنهم يرتدون مسوح الدين ليرضوا الحكام؟ إن مدارس الفقه المعروفة، والتي لا تنكر أنت على إحداها (من المذاهب الأربعة ومذهب ابن حزم الظاهري...إلخ) تحتوي على تشدد مثل الذي أنكرته (بشدة) في بعض جزئياتها. أما لو تأملت فقه الشيعة لعرفت فعلا ماذا يعني التعصب والتشدد وفقه الموت والموات.
ما لا أفهمه فعلا هو:
لماذا تعاملت بمنتهى الرقة والتسامح والانفتاح (الزائد عن الحد) مع قضية زواج الشيعي بسنية -رغم أن هذا الرأي يخالفك فيه معظم السنة والشيعة على حد سواء- وتحاملت بعنف على فتوى موضوعية من عالمين لهما قدرهما في العالم الإسلامي (شئت أم أبيت) وقد يكون موقفك من إزالة الحواجز بين السنة والشيعة صواب في مجمله، لكن بدون مبالغة غير موضوعية.. وقد يكون أيضا رأي الشيخين ابن عثيمين والفوزان في رسالة (فتاة الإنترنت: جولة مع فقه الرعب) متشددا قليلا من باب سد الذرائع -رغم أن الإنصاف يقتضي أن أقول إن فتواهما قد لا تختلف عن فتوى الغالبية العظمى من علماء الأمة لو سئلوا نفس السؤال، بل وعن رأيك أنت لو سألتك ابنتك عن حكم مراسلة شاب صديق لها. لكن حتى لو كانت كذلك فلست أفهم سر هذه المدفعية التي فتحتها عليهما. تأمل معي كلامك ثم أخبرني بالله عليك، أليس في هذا الكلام تنفير وصد لكثير من المسلمين هم أقرب إليك من أكثر الشيعة عقلا وحكمة، ولو كان حسن نصر الله نفسه والاجتماع معهم أيسر وأهون؟
تأمل معي:
(أما من ناحية المضمون فإن ما تنقله عبارة عن المنطق الذي استند إليه فقه "الرعب" كما أسميه...)
(يا إخواننا.. هذا فقه أسرف في التحريم دون دليل معتبر غير الرعب من الفتنة...)
(بدلا من هذا تحالفت الأنظمة المستبدة مع بعض المحافظين أو المتشددين من علماء الدين في التأسيس لهذا الفقه وتطبيقه في واقع الناس، ونحن اليوم نحصد آثاره، وآن لنا أن نتوقف ونراجع هذه التجربة الأليمة برمتها.)
(هذا الفقه فشِل على أرضه وأنتج جحيما من الموبقات والفظائع والازدواجية والنفاق، والعديد من الأمراض النفسية والاجتماعية، وهو يترك نفس البصمات حيثما حل.)
(هذا الفقه هو الأفضل بالنسبة لبعض الأنظمة. هذا الفقه يحمل في طياته تبسيطا للعالم وللإنسان وللعلاقات.)
(هذا تبسيط مخل، وسطحية مذهلة ترتدي مسوح الدين لترضي الحكام، أو تدافع عن الأخلاق بوسائل بدائية تجاوزها الزمن بكثير، والذين يريدون الدفاع عن الأخلاق والدين عليهم البحث عن وسائل أخرى أكثر فاعلية وإنسانية، أما هذا الفقه الذي أفسد علينا ديننا ودنيانا، وخنق الناس، وشل فعالياتهم، وجمد الدم في عروقهم؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.. هذا الفقه لم يعد يصلح، وهو أخطأ من البداية في الاستنتاج والاستدلال، وتنزيل الأحكام من النصوص إلى الواقع، فلا هو فهم النصوص بعمق، ولا هو استوعب الواقع باتساع، وقد ظهرت نتائجه جلية أمام كل الدنيا.)
(هذا الفقه ينتحر حاليا بعد أن تبرأ منه الذين استنبتوه واحتضنوه، ورعوا ترويجه ونشره ودعمه بكل السبل في فترات سابقة لخدمة أغراضهم في الاستبداد الداخلي...)
(هذا فقه موات وموت، وليس فقه حياة ونهضة وعمارة للأرض، ولا يطيل من أمد بقائه إلا رعب الناس من التغيرات المتلاحقة من حولنا والضغوط المتزايدة علينا. والمضغوط يفزع إلى التشديد، ويهرب إلى التقليد والمحافظة؛ ظنا منه أن هذا سيحميه من التشتت والضياع، ولكنه سرعان ما يكتشف بؤس اختياره، ويبحث عن حلول أنجح وأشمل؛ لأننا سنطوي جميعا صفحة وحقبة "فقه الرعب".. تلك الصفحة السوداء).
العجيب يا سيدي الفاضل أنك (ولست في هذا وحدك كما أسلفت) لو قيل لك بأن الشيعة يحرمون المراسلة بين الرجل والمرأة الأجنبية عليه في إطار الخلوة المثالية والمغرية التي يخلقها عالم الإنترنت لما كان هذا موقفك بالتأكــيد. ولرحت تتلمس لهم الأعذار.. فلماذا يا أستاذي؟! هل هي السياسة العامة التي تسيرنا في اتجاهٍ ما بلا وعي منا وتنسينا قول خالقنا: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}. لماذا يا أستاذي نمد أيدينا لأبناء عمومتنا ونتحمل منهم شتم آبائنا وسلفنا الذين أخذنا عنهم ديننا وقرآننا ولو طعنّا فيهم لهدمنا الدين ونقول إننا نفعل ذلك من باب الحكمة والعقل وسعة الأفق والتجميع بين أبناء العم، في نفس الوقت الذي فيه بأسنا بيننا وبين إخواننا شديد، ولا نقبل منهم أن يحركوا أصابعهم في التشهد أو حتى أن يرفضوا الطواف بالقبور ودعاء الأموات وطلب المدد منهم، وننسى عندها أننا نلعب دور الأخ العاقل الذي يريد تجميع الأسرة.. هذا إن صدقت النوايا.
ملاحظـــــــــات:
1- العلماء الكبار لا ينكرون فضل بعضهم كما قد يفعل الكثيرون، وراجع كلام الدكتور يوسف القرضاوي عن زعيم "فقه الرعب" الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
2- الأستاذ الفاضل مسعود صبري لم يبعد كثيرا عن فتوى العالمين الجليلين (والتي لم تكن أصلا عن الإنترنت). أما الدكتور القرضاوي فهو لم يحبذ زواج السنة والشيعة واعتبره زواجا غير ناجح.
3- هل كلامك عن فقه الموت والموات والرعب يجمع الأمة أم يفرقها وهل هكذا يتكلم العقلاء؟.
4- المفاجأة أنني أوافقك الرأي على أن مبالغة كثير من علماء المملكة في تحريم الاختلاط والقول بوجوب النقاب وما على شاكلة ذلك هو رأي مرجوح أعتقد أنهم أخطئوا في اجتهاداتهم فيه.. لكنني لا أجرؤ على أن (أقذفهم) بـ"العمـالة" لأجل ذلك.. ربما هي البيئة.. لكن موضوع مسوح الدين لإرضاء الحكام هذا لا يخرج عن أمرين: إما هوى نفس من عندك (وهذا أستبعده)، وإما عدم معرفة حقيقية بهؤلاء العلماء.
5- الموقف العدائي الساخر والمزدري لعلماء السلف كما أشرت من قبل سببه -كما لاحظت- أئمة كبار مثل الشيخ الغزالي رحمه الله، وراجع كتابه (هموم داعية)، وهو الكتاب الذي لفت نظري إلى هذا الاختلاف بين الموقفين المعلن والحقيقي لكثير من دعــاة الأمة، فبينما نعلن أننا (نتعاون ونعذر) تجد أننا (نتعاند ونسخر). ومثال المنبر الطويل من هذا الكتاب -ويشهد الله أنني كنت أتمنى وأنا أقرأ أن يتنازل الشيخ الغزالي عن تمسكه بهذا المنبر بعد أن ينتهي من نقده الساخر لمن يراهم جهلة. وإذا به يقع في نفس ما انتقدهم فيه، وينتهي المقال على تمسكه برأيه (مثلهم تماما)، ويترك القارئ يتحسر على الأمة الممزقة لأسباب لا تستحق.. وغير هذا الموقف الكثير والكثير مما يستحيل حصره منه ومن غيره كثير.
6- أقول لك كما قلت لك يوما ما في مشاركة سابقة: والله الذي لا إله إلا هو لو أن لي ألف نفس خرجت نفسا نفسا على أن يجتمع المسلمون على دينهم (الصحيح) لما ترددت.
7- ما دفعني لكتابة هذه السطور عدة أمور:
أولا: حبي لك في الله وحقك علي.
ثانيا: النصح لله وللمسلمين.
ثالثا: أنك بموقعك هذا يمكنك أن تكون داعيا إلى وحدة المسلمين من أهل السنة على أساس من العودة إلى الحق والتنازل من أحد الأطراف طالما أن الأمر خلافي أو فيه سعة. بدلا من أن تكون داعيا إلى التنابز بالألقاب وتصيد العيوب -التي هي عند الجميع. ولولا حسن ظني فيك ما قلت ما قلت.
رابعا: أحلم أن نكون كمسلمين جميعا (من أهل السنة أولا ثم الشيعة) فعلا من العقلاء وأن ندعو إلى الله على بصيرة من ديننا في التفاصيل والمجملات.
وختاما أرجو أن يتسع صدرك (ووقتك) لكلام ما أريد به إلا وجه الله تعالى، ثم تجميع المسلمين على منهج وسط ومذهب وسط (مذهب العقلاء حقا).. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
وجزاكم الله خيرا.
1/11/2022
رد المستشار
الأخ الكريم:
لم أتردد في الإعجاب برسالتك فور قراءتها، وعزمت على الرد عليها ثم ترددت لأنك لم تطلب ردا، ولأن في النقاش تفصيلا أخشي أن يمل منه القارئ، ولكن إلحاحا ممن حولي حسم هذا التردد فقلت: من يهتم سيقرأ، ومن لا يهتم فلا بأس عليه.
أشكر لك يا أخي حسن أدبك ويغريني أسلوبك اللغوي، وتفكيرك المستقل لأتعمق معك قليلا في نقاش أرجو أن يكون خالصا لوجه الله سبحانه، وللحقيقة الضائعة وسط الصخب ... أربأ بك يا أخي أن تحاسبني بما قاله غيري، أو الخلط في فهم كلامي الذي حاولت أن يكون دقيقا، وإن أخطأت فمن نفسي .. ففي حين لم أتجرأ فأتهم أسماء بعينها وإنما انتقدت الفقه نفسه، ودون أن أتناول أشخاصا، أحسب أن بعضهم مخلص أخطأ الحق وهو يريد الصواب، "مثل البشر"، فإذا بك تمد كلماتي في اتجاه لم أشر إليه بكلمة، مثل وصفك للشيخ "ابن باز" رحمه الله بأنه "زعيم فقه الرعب".
ولو كان "ابن باز" -وقد عرفته عن قرب- عالما متجردا زاهدا لا يستطيع أحد أن يقدح في ذمته واستقلاله، فإنه مثل الجميع؛ بشر يخطئ ويصيب، ولا حصانة لأحد، إنما نحاول الالتزام بالأدب وعدم تجريح الأشخاص ولكن ليس على حساب نقد الآراء والأفكار والفتاوى. وإلا لو تاهت الأفكار في الهيئات والأفراد فأصبحنا نهاب نقد كل فكر لأننا نحترم صاحبه لصارت إذن هذه مجاملة على حساب الحق، ولا أظنك توافق على هذا، وليت الجميع كانوا مثل "ابن باز".
إذن كامل الاحترام للأشخاص، مع كامل النقد الموضوعي والتجريح لأفكارهم، بل أزيدك من الشعر بيتا.. إن تجريح الأشخاص بمعني الجرح والتعديل القديم بأصوله هو أمر وارد بل ومطلوب، ولأنه ليس لدي أدلة أو أجهزة مخابرات فإنني لم أتهم أحدا بعينه بالعمالة أو إرضاء الحكام، ولكن إن شئت فالاتهام موجود بالأدلة والحكايات، ومواقع المعارضة السعودية متاحة للجميع، وأصول هؤلاء المعارضين تعود إلى التلمذة على هؤلاء العلماء، وأراهم لا يتعجلون في توجيه الاتهام، ويفرقون بين الخائف والطيب والعميل الرسمي للأجهزة، ولم يعد هذا سرا، فعن أي شيء تتحدث يا أخي؟.
أنا لم أذكر طول منبر أو قصره، ولا تناولت الأمر من زاوية الخلاف في الرأي ليكون المطلوب هو التمحيص والتقليب والنقاش، ولا تصديت لفتوى بعينها إنما جاء كلامي بمناسبة معينة لأحاول وضع النقاط على الحروف، ولأقول إن كثيرا من عامة المسلمين هم ببساطة ضحايا حركة فقهية فيها ما ينبغي مراجعته ونقده، وتجريح أفكاره، وجرح أشخاصه لمن يريد، فالمعلومات صارت متاحة بضغطة زر يا كريم ... ولا أريد ولا يتسع المقام لأذكر لك وقائع سابقة كان فيها بعض المشايخ يأتمرون بتوجيهات الأجهزة فسالت دماء بريئة دون أدني "تمحيص" أو "تقليب" أو "بحث" أو "سماع" أو "نقاش".
ولا أدري كم هو عمرك؟! وهل سمعت بحادثة الحرم في مطلع القرن الهجري الحالي؟! وماذا تعرف عن هذه الحادثة بالضبط؟! لقد أعطيت الفتاوى الجاهزة فدفن البعض أحياء، ولا يعرف لهم قبر حتى الآن. ولم تصدر لهم شهادة وفاة، وأعدم من أعدم، ومات من مات تحت التعذيب بإشراف بعض المشايخ، فهل تعرف أنت هذا؟! وأعوذ بالله أن أتهم "ابن باز" رحمه الله في هذا أو غيره، فلم أسمع عن موقفه السياسي غير كل خير، وصلابته في الحق ما وسعه الجهد والعلم، ولكن آخرين ممن يزعمون أنهم تلامذته ليسوا كذلك قطعا، وهذه معلومات أصبحت بمنزلة الحقائق، فعن ماذا تتحدث يا أخي؟!
ولقد استخدم نفس الفقه، واستعمل نفس الفقهاء في إشاعة مناخ مهّد الأجواء للحرب السافلة التي كبدت المسلمين مليارات الدولارات، وأنهكت جيشين من أقوى جيوش المسلمين، وأعني بهما الجيش العراقي -القوة السادسة في العالم حينذاك- والجيش الإيراني الذي كان بمثابة الشرطي الأمريكي في المنطقة قبل سقوط الشاه، فلما سقط أشارت أمريكا بإصبعها فصدرت الفتاوى، وانطلقت المدافع، وخرجت الأسفار القديمة من الأدراج، وطبعت الكتب الفاخرة بآلاف النسخ لتعيد إلى الأذهان ثارات الماضي، وتستعيد دواعي الفرقة بين المسلمين، وندخل في حرب الثماني سنوات، ولنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم، وهذه كلها حقائق تاريخية معروفة لمن يتابع، فعن ماذا تتحدث يا أخي؟! لو كان الأمر أمر فقه ورأي راجح أو مرجوح لصح كلامك، ولكن وضع المسألة ليس هكذا أبدا، لأننا أمام فقه يستخدم لإثارة الفتن، وإشاعة الفرقة، وشغل المسلمين عن قضايا مصيرهم... إلخ. وطبعا ينبغي الاعتراف بأن في هذه الحركة مخلصين ينشدون الصواب، ويتحرون الحق، مثل أي ظاهرة واسعة. المسألة إذن هي أننا أمام تشدد فقهي استخدم كذريعة وأداة من أدوات الطغيان السياسي، وكتم أنفاس الناس، وتجميد الدم في العروق، ومصادرة الحريات، وتكريس التخلف باسم الحفاظ على نقاء الدين وصفائه.
وأنت تريدني أن أتسامح مع هذا كله بوصفه وجهة نظر.
والمدهش أن هذا كله مذاع ومنشور؛ فهل من الحكمة والعدل أن نتغاضى عنه لندخل معملا معزولا عن الزمان والمكان والتاريخ والأحداث والمعلومات، ونقول كلاما صحيحا عن فقه الظاهرية أو غيره ونطالب بالتسامح لأن صاحب الرأي معذور؟ هذا الفقه بهذا المعنى الذي حاولت تبيانه هنا ليس سوى مرض عضال من أمراض الأمة، فهل تطالب طبيبا بأن يكون متسامحا واسع الصدر لأن المرض "وجهة نظر"؟ أو تطلب من ناشط حقوق وعدالة اجتماعية وحريات شرعية ومدنية أن يتسامح مع الفقه الذي ساهم في إشاعة مناخ الرعب والاستبداد باسم الدين؟! ما رأيك في الاستبداد والظلم والتعذيب والقتل باسم الدين، وباسم طاعة ولي الأمر، وعدم الخروج عليه؟ وما رأيك في نسف المجمعات السكنية -بالمقابل- ومباني الأمن أو غيرها باسم مواجهة الظالمين؟! وكلا الفريقين يتخذ من "فقه الرعب" منطلقا.. فهل تتسامح مع هذا أم ذاك لأنه يحمل وجهة نظر؟!
وفي مجال المرأة كما في ميدان السياسة، وفي مجال العلاقة بالغرب، وفي مجال الديمقراطية والشورى، هل نكون ملكيين أكثر من الملك؟! والنقد لهذا الفقه اليوم يصدر على أرضه من أصوات -أيضا- نحسب بعضها مخلصا، وبعضها عميلا، فعن ماذا تتحدث يا أخي؟ عن أي رأي تتحدث؟! وعن أي خلاف تدافع؟! وإلى أي حق ممكن أن تنحاز أنت أو أنا أو أي عاقل؟! كأني بك تتحدث في السبعينيات أو الثمانينيات أو حين صدر كتاب "هموم داعية" للمرحوم الغزالي، ونحسبه مخلصا -هو الآخر- ولا نزكي على الله أحدا.
يا أخي نحن في ما بعد الألفين، وما كان بالأمس همسا وحدسا صار اليوم خبرا مؤكدا، وخبرة شائعة، والناس تتناقش من على هذه الأرضية الآن، فأين تقف أنت؟! هل يسعك أو يسعني الانفصال عن هذا وذاك والدخول إلى مختبر الأفكار وتقطيرها، وقياس مقادير الصواب والخطأ في التفاعلات دون النظر إلي سياقاتها؟. ودون الاعتبار بالتاريخ؟! هل يمكن أن نبقى بلا ذاكرة لنكون متسامحين؟. وهل هذا يسمى تسامحا؟ أم هو غفلة فادحة؟
لا يا أخي الكريم.. يؤسفني أن أقول لك: إنني لن أتسامح مع هذا التاريخ أو الواقع، ولن أخدعك لأرضيك أو أرضي غيرك بأن هذا الفقه هو مجرد وجهة نظر تخطئ وتصيب بناء فقط على اعتبارات الفقه الذي نعرفه بأصوله وأساليبه، والقول في ديننا لا ينفصل عن قائله، والفتوى لا تنفصل عن زمانها ومكانها وسياقاتها، فاعتبروا يا أولي الأبصار.. ولكنني أستدرك -إن لم يكن هذا واضحا في كلامي من قبل- بأن الملايين من المسلمين للأسف لا يعرفون هذا كله، وبأن بعضا ممن يقولون بالتشدد أو يتبنون هذا الفقه إنما يفعلون هذا لسبب وجيه أو آخر غير خدمة السلطان، وهؤلاء وأولئك أرحب بالحوار معهم عبرك أو بأي طريقة تراها مناسبة، وهؤلاء إخواننا، ولو بغوا علينا، ورمونا بما تقرأ، أو ما لا ننشره، ولو اتهمونا في ديننا وأعراضنا، فالأمة ومصلحتها ووحدتها أهم عندنا من ذاتنا، أو هكذا نعتقد في أنفسنا، أو نريد منها ولها.
مرحبا بالحوار دون الاستقواء بالسلطان، ودون الاتهام بالكفر أو غيره، ويا أخي إن العقل الجمعي الذي تنسبني إليه، ولا تدري كم أنتقده وانتقدته، وأنت لم تقرأ لي إلا على الإنترنت؛ أي ما نشر خلال السنوات الخمس الأخيرة، وأنا أكتب ناقدا ومتأملا منذ نهايات الثمانينيات ... أصحاب هذا العقل الجمعي الذي تنتقد ضربوا بالجنازير والمطاوي في المساجد والجامعات من إخوانهم وإخواننا أصحاب "فقه الرعب" الذين لا يرون غالبا إلا رأيهم، ولا يتحاورون إلا بالسلاح ثم عادوا بعد ذلك وتراجعوا، ويكتبون اليوم ما كانوا يعتبرونه بالأمس خنوعا ومداهنة للحكام.. يكتبون اليوم نفس ما قرأناه للقرضاوي في كتابه "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" الصادر عام 1981، ولو كانوا يقرءون وقتها أو يسمعون لغيرهم لكان الحال غير الحال. ومع ذلك كله أنتقد هذا "العقل الجمعي" في أشياء أخرى، وتأتي أنت لتنسبني إليه، وتؤاخذني بما يقول، وأربأ بك أن تفعل.
وبعد ذلك كله ما زلت أعتقد أن الكثير من الشباب المتحمس أراد الصواب، ولكن انحرف فكره ومنهاجه، ودوري من خلال موقعي أن أطبب هذا بكامل التفهم والتفاهم مع الأشخاص، وكامل المواجهة للأمراض والأفكار التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. فهل أنا أكثر وضوحا هذه المرة؟! وهل تراني أسلك مثل الشيخ الغزالي -رحمه الله- والذي راجعته في حينه بشأن حدته وتهكمه؟! وأنكرت عليه هذا، ولكن هذه قصة أخرى. هل خلاصة ما وصلك وما يصلك من كلامي أنني منفعل أو متعصب لرأي "العقل الجمعي" الذي تنسبني إليه؟ هل هذه هي النتيجة التي وصلتك؟ إذا صح هذا فدعني أصارحك بدهشتي، ولا أقول خيبة أملي.
أما بالنسبة لمسألة العلاقات على شبكة الإنترنت، فأنت تعرف فيها رأيي أكثر من أي أحد غيرك، طالما أنك تتابع كتاباتي، وتعلم نقدي لها، وتحليلي لمثالبها وآثارها، أما التحريم فهو شيء آخر، وهو هناك لمن يملك دليله، والناس تأخذ من كل أحد وترد، ولم أقل يوما، ولا دعوت أبدا لغير قاعدة: أن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وما تورطت أبدا في تقديس أحد، أو مجرد ترديد كلام -ولو كان كلامي- ولو كنت تتابعني حقا فستعلم أنني أبدأ بنقد نفسي وأفكاري، لأن النقد هو الساق الأخرى للإبداع أو الاجتهاد والتجديد، أو الإنتاج العلمي المحترم، ولهذا أفرح بالمشاركات والانتقادات مثل رسالتك.
ولو كان للمسلمين إمام منتخب أو هيئة علماء معتمدة أو غير ذلك من المرجعيات التي لها صفة تمثيل الأغلبية لاختلف الأمر حتما، وحتى يحدث هذا، لو حدث، فإننا من موقعنا، وفي حدود علمنا وخبرتنا نقول ما نرى فيه النفع والصواب، ونود لو اجتمع المسلمون علي بينة ووعي، حتى لو اختلفوا على طول الثوب أو المنبر، أو الشرب قاعدين أو واقفين، أو غيرها من الفرعيات ولكن الأمر مختلف، وهو ما لم أقصده، ولا أقصده حين أكتب عن "فقه الرعب"، فها أنا أكثر وضوحا اليوم؟
وأصل معك إلي موقفي من "الشيعة"، ورأيتك تنضم إلى آخرين في الخلط -سامحك الله- ولو عدت إلى السؤال الأصلي عن زواج الشيعي من سنية لوجدتني تارة أنقل فتوى عن غيري، وتارة أخرى أنصح أخي المهتم بالتقريب أن يخرج من مذهبه معلنا أنه يتعبد إلى الله بما يصح عنده من "أي" مذهب، ثم أنا أرفض الخلط، أو وضع كل "الشيعة" في جعبة واحدة. وأنا كنت في هذا أرد على من يفعل هذا ويقوله فعلا، كما يمكنك أن تلاحظ هذا إذا كنت قد تابعته، فهل مجمل هذا الموقف يسمى عندك رقة وتسامحا وانفتاحا زائدا عن اللزوم؟! ولا أذيع سرا إذا قلت لك إن الأخ صاحب الرسالة الأصلية، القائل بالتقريب، العامل في مجاله قد تزوج الفتاة فعلا، ثم حدثت مشكلات، وأرسل يطلب العون والنصيحة فرددته إلى رسالتي ونصيحتي الأصلية، ثم رد علي، وما زالت بيننا رسائل لن أنشرها إلا بإذن شخصي منه، لأنه شدد في الطلب بعدم النشر لمصلحة زواجه من أختنا "زوجته الآن"، وموقفي من زواج الاختلاف الثقافي معروف لمن يتابع كتاباتي.
فهل هذا الموقف، ورفض التعميم والخلط يسمى عندك التماس الأعذار للشيعة.. و(إنهم لو قالوا بما يقول به غيرهم في نفس القضية، لاختلف موقفي؟. وبالتأكيد؟.) أهكذا ظنك بعقلي وأمانتي؟ شكرا لك. وهل دعوتي لعدم الخلط والتعميم هي "السير في اتجاه بلا وعي"، وأي اتجاه تقصد هنا؟ وإذا كانت انحيازاتي واضحة، ودعوتي عالية صريحة ضد التعصب الأعمى، والتخلف، والتعميم، وإلقاء التهم جزافا، وإشعال النار دون تمييز، وإذا كانت دعوتي هي البحث والتمحيص، ومواجهة التخاريف التي تصدر عن البعض منا سنة أو شيعة، إذا كانت هذه هي دعوتي، فأيهما أقوي منهجيا في -رأيك- أن يتصدى كل جانب بشجاعة لما عنده بالتفصيل، ويشير إلى غيره بإجمال أم العكس؟!
هل الأقوى منهجيا أن أستفيض أنا في نقد تخاريف بعض الشيعة أم أحيلهم والقراء إلى مرجع بحجم السيد حسين فضل الله، وله في نقد التخاريف صولات وجولات أغضبت عليه الكثير من أتباع المذهب، وهو صامد لا يتزحزح، ألا يستحق منا هذا الرجل الشامخ المستقل تحية تقدير واحترام، وأن نشير إليه فيما يخص نقده للتخاريف؟ وأحسب أن من صفوف العلماء والمفكرين الأحرار من أصحاب المذهب الشيعي في نقد أفكار ومسالك وأحوال بعض أبناء مذهبهم ما يكفي وزيادة، ولكن هذه الصفحات مطوية يا أخي -وبفعل فاعل أو بجهل جاهل- بينما تنشر صفحات أخرى، فهل تريديني محايدا متسامحا في هذه أيضا؟!
لك مطلق الحق -وأدعو الله لك- أن تطمح إلى وحدة المسلمين على منهج واحد تصفه بالوسط، ومذهب وسط، أما أنا فطموحي كان وما يزال أقل جسارة، وأكثر تواضعا، ربما بسبب فارق السن.. طموحي كان وما يزال أن يجتمع العقلاء ضد الخريف، وأن نستقل في حواراتنا عن أهواء وتأثير ذهب السلاطين، وأن يكون مذهب الجميع هو احترام البحث، والتقليب والتمحيص والقراءة والسماع والمناقشة.
هذا هو مذهبي يا أخي، فمرحبا ببقية المنتمين. لا تحرمني من رسائلك، ، وإن شئت عدم النشر فلك هذا، ولكن على أن تذكر هذا صراحة، وفي انتظار مساهماتك.