الاكتئاب يسلب الإيمان ويفتح للشيطان!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أشكر طاقم موقع مجانين العريق على جهوده الكريمة، كما أشكره لإعطائنا فرصة التواصل بيننا كشباب مسلم من رجال ونساء وناشئة. أود التعقيب على مشكلة قديمة قرأتها مؤخرًا، وكانت بعنوان " الاكتئاب يسلب الإيمان ويفتح للشيطان!" التي كانت مؤلفة من شَقّين، أحدهما نفسي (المتمثل بالاكتئاب)، والآخر فلسفي، والذي بدا كسؤال على ضرورة تأكيد وجود الخالق.
يا سيدي -يا صاحب المشكلة- لست خبيرًا نفسيًّا ولا اجتماعيًّا كذلك، إلا أنني أستطيع أن أتصور أزمة الاكتئاب التي تمرّ بها والتي أمست علامة فارقة للشباب العربي المسلم. المشكلة أمست تمس الشباب كلهم رجالاً ونساء، والأسباب مادية بالنسبة للرجال، الأمر الذي يعطي انعكاسات شديدة السلبية على المصير الاجتماعي بكل أبعاده، العملي والفكري والعاطفي والإبداعي.
وليس الأمر بمختلف عن الشابات اللاتي ينعكس ذات المصير عليهن اجتماعيًّا ونفسيًّا، متمثلاً بتأخر زواجهن وحجم الاكتئاب الذي يضرب على أوتار مشاعرهن الرقيقة إزاء هذا الوضع المتردي، فلا الشباب قادر على الزواج والنهضة الاقتصادية، ولا النساء قادرات على تحمل الوضع المزري الناتج عن كل هذا، إضافة لتحلل الدعائم الأمنية بأغلب أقطارنا الإسلامية، بفضل الاستكبار العالمي، الأمر الذي يدفع بالمرأة نحو طلب الحماية بظل زوج وأسرة، وهذا من حقها الأمني والإنساني والديني والغريزي أيضًا، كما أنه من حق الرجل أن يرتاح على كتف امرأة من ألم الحياة ومشاقها، وأن يشعر أن هناك إنسانة يهمها كثيرًا أن يكون لجانبها، لا لمصلحة بل لحب وود وعشرة حسنة.
جيد جدًّا هو كل هذا، لكن أنت وأنا والكل يعلم أن الرياح تسير بما لا تشتهي السُفن، وتعرف أيضًا بأن أفضل ما يمكننا فعله هو النضال نحو دولة العدالة الإسلامية والمجتمع الثقافي المسلم. أنا لا أتحدث عن إسلام صوفي لا يعرف سوى التتبع أو الصراخ، أو إسلامًا قمعويًّا كما ببعض الأنظمة التي أساءت للدين أيما إساءة، بل أتحدث عن دولة ديمقراطية ذات سيادة حرة، تقبل الحرية العقلانية وتعدد الآراء البناءة، ولكنها تستمد شرعيتها القانونية من الدستور الإسلامي بشكل أساسي، ويكون القانون نابعًا من جوهر الإسلام العقلاني المستنير، الذي يتكفل كتابته حقوقيين ومجتهدين يقدرون خلافات الحقب الزمنية بين القرون؛ ولذا فإننا مطالبون ببلورة إسلام اجتهادي يؤمن بضرورة مواكبة العصر من منطلقاته ذاتها، أي بمنهجية لا تضر بأصول الإسلام ورسالته الاجتماعية المقدسة.
ويمكنك القراءة لعدة مفكرين حول رؤيا المجتمع الإسلامي المعاصر، وذلك عن طريق كُتاب تجد لهم تعريفات على صفحة إسلام أون لاين، كالشهيد مرتضى مطهري والشهيد علي شريعتي والدكتور المفكر عبد الوهاب المسيري. وسنتطرق للكتب بوقت آخر... حسناً سيدي، أنا، وكما ذكرتُ سابقًا، لستُ مختصًّا نفسانيًّا، وما تعانيه أعانيه بأحيان قليلة؛ ولذا فنحن نتجه لله وللمختصين بهذا. لكن القضايا الفلسفية هي التي سأناقشك بها، وآمل أن يجد طاقم استشارات مجانين الراقي فسحة لي لكتابة بعض ما سأكتب.
أولاً: علينا أن نزكي شيئًا أظنك تعرضت له بلا قصد منك، وهي مقولتك بأنك تريد دليلاً عقلانيًّا غير دليل القرآن الكريم، وليت شعري يا سيدي أفتُراك تشك أن القرآن بعيد عن التعقل والمنطق؟ إنني لا أتهمك، لكنني أنتقد فكرة يبدو أنها تستوطنك دون أن تشعر. إنه ليس بذنبك على أية حال، فالكثير الكثير ممن حول القرآن لمواعظ جامدة، سواء بفضائياتنا أو على منابرنا، وهذا لا يعني أننا نبخس حق العلماء، إلا أن هناك أصواتًا أسهمت كثيرًا بالاعتناء بظاهر القرآن، دون التعمق بداخله لنستقرئ العقلانية. أتدري يا سيدي؟ إنه من البُكائيات حقًّا أن نجد شبابًا بسطاء يدافعون عن دينهم بشكل يسيء له، صارخين أن الفلسفة كفر بالدين مثلاً، وهم لا يعرفون أن معنى كلمة فلسفة هو (حب الحكمة) باللغة اليونانية! ولا يستطيعون التذكر من آية أتت تعظم الحكمة وتحترمها وتهدي لها. كل ما يتخيلونه أن الفلسفة هي إنتاج غربي معادٍ للدين، علمًا أن الفلاسفة المؤمنين لا يحصون إطلاقًا، ومنهم (كفلاسفة مسلمين بالقرن العشرين) محمد باقر الصدر، الغزالي، عبد الوهاب المسيري، علي شريعتي، آمنة الصدر، روجيه جارودي، وغيرهم كثر. إذن القرآن لا يخرج عن العقلانية، ولن أتعمق أكثر لأننا بحاجة لوقت طويل لنشرح معنى مصطلح عقلانية أولاً.
ثانيًا: أنت تطالب بدليل عقلي على وجود الله كما قلت، ويسعدني أن أعلمك أن هناك أدلة تعتمد على المنطق القياسي (السيلوجيزم)، وهذا باب صعب للغاية ولا يفهمه إلا المختصون بدراسة الفلسفة والمنطق القياسي، ويسمى الدليل على وجود الله منه بالدليل العقلي، أو ما يسمى (دينتولوجيكال) باللغة الإنجليزية.. وهناك الدليل العلمي (كوزمولوجيكال) الذي تستسيغه الأغلبية، لما له من سهولة بالطرح والتلقي. وسنبدأ حديثنا عن الدليل العلمي، وسنستقرئ دليل الفيلسوف الإنجليزي وليام بالي كمثال على هذا: يعتبر الفيلسوف الإنجليزي وليام بالي (من فلاسفة القرن الثامن عشر) من المؤمنين بالله عن طريق الإثبات العلمي، أو ما يسمى بالـ Cosmological Argument، وهي المناقشة التي تستند على أسس علمية لإثبات وجود الله. ولد وليام بالي William Paley في عام 1743 للميلاد، وكان بروفيسورًا للفلسفة في جامعة كامبريدج، ويعتبر من الفلاسفة المؤمنين ومن مدرسي العقيدة المسيحية. توفِّي في العام 1805 للميلاد.
يؤمن الفيلسوف وليام بالي بأن الكون يعمل وفق معادلات رياضية دقيقة ونسب معينة من الطاقة التي تساعد على توجيه المادة بشكل حكيم، ويؤكد بالي أن "الحكمة" ضرورية بعملية الخلق ويطرح مثالا عن الساعة. يقول بكتابه "صانع الساعة" أو Horae Paulinae إن الساعة آلة دقيقة الصنع ومؤلفة من عدة أجسام دقيقة لا يمكن لها أن تجتمع وفق مصادفة عمياء؛ لأن أجسامها الصغيرة بحاجة لصانع، فحتى لو جزمنا فرضًا أن أجزاء الساعة قد تجمعت بمعجزة أو بأخرى فإن السؤال سيبقى مطروحًا عن الصانع الأول لهذه الأجزاء.
ويؤكد بالي نظريته بمثال مبسط:
لنفرض أننا ساعاتيون ماهرون للغاية، وقد قمنا بفصل أجزاء ساعة ما كل على حدة، وتركنا كل الأجسام مبعثرة بكرة مجوفة مليئة بالماء، وعلاوة على هذا فقد قمنا بضمان حركة هذه الكرة ومائها الجوفي. أننا لو عدنا بعد ليلة من هذا، أو أسبوع، أو سنة حتى، فإننا سنجد أجزاء الساعة لم تتكامل لتؤلف ساعة من جديد. ولكن لنتمهل، ماذا لو حدث ووجدنا الساعة متكاملة الصنعة مرة أخرى؟ ألن يأخذنا هذا لاحتمالين لا ثالث لهما!!
الأول: الساعة جمعت أجزاءها بنفسها، وهذا محال.
الثاني: أن هناك شخصًا أتى خلسة وأعاد تجميع الأجسام الصغيرة معًا.
إن الكون يشابه هذه الساعة إلى حد كبير برأي وليام بالي، فهو مؤلف من أجزاء صغيرة تؤلف بدورها ثمة أجزاء أكبر حتى نصل للكواكب والنجوم والمجرات. ويرى بالي أن التساؤل لا يجب أن يبدأ خطاه من الشكل النهائي للمادة، بل من دقائقها الصغيرة التي تجمعت وشكلتها، وهنا يتساءل بالي مرة أخرى عن مصدر هذه المواد (الذرات) ومعنى تجمعها الدقيق وفق معادلات رياضية غاية بالدقة والذكاء؟ أن الكون بشكله النهائي يعتبر معجزة بحد ذاته كما يقول بالي، إلا أن الأشد إبهارًا وإعجازًا بنظره هو التشكيل الفريد للمخلوقات بحيث تختلف عن بعضها بعضًا مع أنها خلقت من المادة الذرية ذاتها! والحقيقة أن الخلاف بين المخلوقات يعود للخلاف بين المعادن والغازات، وهذا الخلاف بحد ذاته خاضع لمعادلات رياضية صارمة تعين عدد الذرات بكل معدن وتميزه عن غيره بما يسمى بالوزن الذري.
فالكون كله يتكون من مائة وعشرة عناصر بين معدن وغاز، إلا أن كل هذه العناصر تشترك بأنها مكونة من بروتونات ونيترونات وإلكترونات فقط، وبعدد الإلكترونات المختلف والدقيق أوجدت المعادن والغازات والسوائل. وبهذا النظام الذكي يمكننا أن نؤكد أن شيئًا من هذا ما كان ليحدث لولا وجود عقل مدبر، وأن هذا الخلق لم يكن ليتم بواسطة هذه الذرات إلا بشكل تقني عالٍ وحكيم. وإلى هنا توصل بالي للحقيقة التي تلتقي عندها عقول الحكماء والمفكرين الصائبين.
بسم الله الرحمن الرحيم
"ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " (سورة الأنعام). وهكذا ترى، أن لكل فعل فاعلا، وحتى لو سألت عن خالق الله مثلاً، فإننا لن نجد إجابة؛ لأن الله موجد نفسه بنفسه وهو أزلي وسرمدي (أي ليس له بداية ولا نهاية)، ولو أتبعنا تساؤلك لقلنا ومن هو خالق الخالق الذي خلق الله، وهكذا سنبقى نعدّ أربابًا إلى ما لا نهاية، وهذا منقوض عقلاً؛ لأنه ضد التفكير السليم. فكما الواحد هو بداية الأرقام وما بعده الصفر المطلق الذي يرمز للعدم، فإن الله هو الرب المطلق الذي لا يوجد شيء خلفه. ولا وجود للصدفة هنا من محل أبدًا، فلا شيء يأتي من صدفة عمياء. وهذا مثال على ما أقوله، وهي مادة من بحث بسيط لي أصلا بالإنجليزية:
السؤال هو: هل يعطينا العالم/الكون (أو أي شيء أو أي شيء في الكون) دليل على خلق مقدس؟ نعم (فالكون ككل) يعطينا دليلاً على وجود الله -الحكيم والقادر والخالد- وما يشير إلى أنه يعطينا هذا الدليل، هو أن هذا الكون يعتمد على عدة أسباب اجتماعها معاً يصبح شيئا ما جديد (مادة معينة). وإذا ما عرفنا أن الكون وكل الأشياء المادية قد وجدت بواسطة بناء ذري فإن هذا البناء لابد أن يتم بناء على خطوات منظمة وأفعال منظمة للغاية. فالأمر كأننا نمسك قلما له ممسحة دقيقة ونجعل هذا القلم يلمس الورق الذي تحته، وبعد أن قمنا بذلك ننتظر الرياح كي تحرك القلم المعلق لرسم بعض المناظر على الورق.
وسنلاحظ أننا لا نستطيع فهم أي منظر من الخطوط أو المناظر المرسومة، ومن الواضح أننا لن نجد كلمة ذكية، وحتى إذا وجدنا كلمة مناسبة (أقل من 1% فكرة) فإننا لن نقرأ أبداً قصيدة شعرية رائعة من خلال ذلك، أو حتى نفهم جملة واحدة صحيحة. ولهذا يمكننا القول أن الحركة العشوائية لا توصلنا إلى شيء. ولا يوجد شيء أنيق (كاللغة والأفكار) دون عقل له منطق وقوة حقيقية. وذلك لأنه لا يمكن أن نجد شيء دون تخطيط لهذا الشيء ولا يمكن أن يتواجد التخطيط دون عقل ذكى. ومهما كان قصدنا فإننا لا نخلق أي من موضوعات هذا العالم أو حتى أنفسنا، وعلى الرغم من أننا كنا سبباً لوجودنا الجسدي، فإننا لم نخلق أجسادنا بالفعل ولم نبنى الذرات التي جعلت لنا وجودا ماديا.
وحين نرجع إلى مثال القلم، سنصل إلى حقيقتين بسيطتين:
1- أن هذا القلم لن يكتب أبداً أي شيء له معنى بدون عقل ذكى يخطط له، مما يوضح لنا أن عدم الوجود لا يمكن أن يخلق مادة متقنة المعنى، متحركة أو ثابتة، صلبة أو لينة.
2- هذا القلم لا يمكن أن يكون معلقاً منذ البدء إذا ما قررنا عمل ذلك -وهذه حقيقة هامه-. وهذا يبين لنا أنه حتى إذا كان وجود كتابة غير ذكية يحتاج سببا قبليا كي نجعله قادرا على الكتابة. وإذا أحصينا أسباب جعل هذا القلم يكتب كالسبب الذي وراء وجود الإنسان سننتهي إلى نتيجتين:
أ- هناك سبب رئيسي كان وسيكون منشأ كل شيء.
ب- كل شيء في الكون له عقلية حتى الصخور والذرات الدقيقة وتتقابل معاً وتقيم علاقات وتتجمع لعمل أشياء جديدة.
ومع هذا يكابر المكابرون؛ إذ يتحدثون عما يسمى "قوانين الطبيعة" فعندها نسألهم:
كيف وجدت هذه القوانين؟ ولماذا لم تتغير؟ وكيف تعمل معًا؟ وكيف أتفق أنها اشتركت بنسب ذكية؟ ولو لم تشترك بنسب ذكية فكيف أدت لخروج نتائج ذكية؟ لو قلنا إن القوانين طبيعية، فهل القوانين أوجدت الطبيعة أو الطبيعة أوجدت القوانين؟ ولو كانت القوانين أوجدت الطبيعة، فهل القوانين ميتافيزيقية؟ ولو كانت الطبيعة أوجدت القوانين، فمن أوجد الطبيعة التي تحتاج أصلاً للقوانين لوجودها؟ وعندها ماذا سيقول المشككون؟ سيقولون إن القوانين هي اختراع إنساني لظاهرة محددة، لكن هذا يُنفَى أيضًا وفق عملية فلسفية؛ إذ نقول:
لنفترض أن تعريف "الطبيعة" هو كل ما هو مادي بوجود طاقة محددة له، تعطيه قيمة بهذا الكون. وعندها سنجد أن كل عناصر المادة تتألف من 110 عناصر، حسب آخر رأي وأوثقه. من هذه النتيجة، أستطيع أن أنفي التعريف القائل إن "القانون" هو: (القانون هو محاولة إنسانية لشرح الموجود، أي شرح إنساني للطبيعة لا أكثر ولا أقل).
ذلك لأن الطبيعة بحد ذاتها تستند فعلاً لقوانين ثابتة، وإلحاق القانون بالإنسان غير منطقي؛ لأن أي معادلة رياضية هي أقدم من وجود الإنسان وأقدم من أي شيء، فهي خالدة الوجود، حتى لو انتفت المادة. لا تفهم من كلامي أنني أؤمن بأن الله هو الرياضيات، فالقوانين الرياضية بحد ذاتها لا تمتلك الإرادة (كما الكمبيوتر) لكي تقرر شيئًا وفق ما تريده حقًّا وعن إدراك، وكما ترى فإن الكومبيوتر "الدقيق" من المحال أن يوجد من مصادفات محضة أو عمل "الطبيعة"، بل لأنه متقن، فإنه يدل على أن صانعه أكثر عقلانية وقدرة، وأنه موجود وفق "إرادة" و"حركة موجهة" و"قوة متحكمة" بالعناصر التي تؤلفه.
ومحال أن تغالط نفسك بالقول إن "الطبيعة" قد تصنع كمبيوترًا كالذي على طاولتك، بل محال حتى أن تسلم القول بأن الطبيعة (أو القوانين) قد أسهمت بجمع القطع والقوانين الرياضية الموجودة قبلاً، لكنها لم تكن لتصنع كمبيوترًا لولا وجود العقل المدبر الذي يستغل هذه القوانين بشكل حكيم. هذه القوانين مخلوقة أيضًا من قبل خالق دبّر الكون وفقهه؛ ولذا فهي موجودة بشكل لا مادي، لكنها تنعكس على المادة ونفهمها بواسطة المادة لكون المادة تؤثر على طريقة إدراكنا... وهكذا ترى يا سيدي أن الله الخلاق العظيم هو خالق كل شيء، وأنه لمحال أن يقف العقل المتفتح رافضًا لوجوده، بل لا يرفضه إلا المكابرون عادة والمتعصبون لأمور ثانوية أو نمط حياتي يخافون غيابه بوجود الإيمان.
ثالثًا: تتساءل أنت يا سيدي عن مغزى الشر بالعالم، ولماذا يترك الله المجرمين يعيثون فسادًا بالأرض؟ الواقع، ولا أقصد أن أستهجنك، أنك مخطئٌ بجدارة يا عزيزي؛ لأنك لو دققت بالتأريخ ستجد أن الله يعاقب الظلمة دومًا، ويذل الأمم التي تظلم وتفسد بالأرض. فقبلاً كان اليونان والفراعنة والرومان والجرمانيون والبيزنطيون والفرس والإمبراطوريات العربية والبريطانية والألمانية، وهكذا هلم جرّا. كلهم لم يبقوا بظلمهم واستهتارهم بالقيم، والأهم أننا نرى مثالاً حيًّا بما فعل الله بصدام حسين، بعد أن طغى طغيانًا عظيمًا، فإذا الله يسلط عليه الظلمة ويسقيه سوء العذاب بالدنيا والآخرة.
ثم يا سيدي، إنه لمن عدالة الله أن يعطي فرصًا لكل البشر لينجحوا إن عملوا، وبعدها يمتحن الله إيمانهم، فإن تجبروا أمهلهم، وإن استمروا عاقبهم. وكذلك وضع الله عوامل للنجاح، أهمها الاقتراب من رحمته، وبربك كم نحن قريبون للمجتمع المسلم الحقيقي؟ وتلوم الله على ما يجري لنا؟ قل نحن الذين نسود حياتنا بأيدينا، ونحن من أتى بالمذلة والبلاء على رؤوسنا. مجتمعاتنا منفلتة بالجملة، ولا داعي للزعل، وأي بلاء يُصب علينا هو رحمة.
ربما لا تعرف كم كان المتدين منبوذًا بفترة الستينيات بالعراق، كأغلب دولنا العربية أيام المد الشيوعي، وكم كان شرب الخمر والعربدة أمرًا طبيعيًّا عند عدد كبير من الناس، لكن بعد سنوات من العقاب والتأديب، يُفاجأ الكل بشعب عراقي مؤمن بشكل اختياري ومتمسك بالقرآن بشكل باهر. إذن، ربما ينفع البلاء، وتذكر أن الله لا يبلي قومًا إلا بما قدمت أيديهم، والبلاء هو عملية تلقائية لشرهم، أي أن الله لا يبطش بهم ولا ينتقم تجبرًا، بل يمنع عنهم رحمته ويتركهم يتلقون عقوبتهم العادلة بما قدمت أيديهم. ما أريد أن أقوله، هو أننا بحاجة لأن نفكر بما نفعله قبل أن نلقي باللائمة على الله.
وربما أنصحك بقراءة هذا الكتاب للمفكر مرتضى مطهري وهو بعنوان "العدل الإلهي، مسألة الشرور" وهو كتاب ممتاز وأنصحك حقًّا بقراءته.
هذا ومعذرة للإطالة، فنحن معشر الفلاسفة نحب الكلام المطول (ابتسم) ونهوى الشرح والتدقيق.
كما وأشكر الموقع على إعطائي فرصة الكتابة بحرية.
9/12/2022
رد المستشار
الأخ العزيز أهلاً وسهلاً بك مشاركًا رائعًا مبدعًا، تضيءُ سطوره على صفحتنا استشارات مجانين، الحقيقة أنني أشعر بسعادةٍ قليلاً ما شعرتُ بها من قبل، وأنا أتهيأ للرد على مشاركات أصدقاء صفحتنا، فكم أشعر بالسعادة لأن ردي على الأخ الكريم صاحب مشكلة الاكتئاب يسلبُ الإيمان ويفتح للشيطان، قد استفز منك تلك المشاركة، وأتمنى أن يقرأها على صفحتنا في الوقت المناسب له، خاصة وأنه كان قد أرسل مشكلته وسؤاله إلى قسم الاستشارات الدعوية.
وأضيف أن السعادة التي أحسها من مشاركتك سعادةٌ أحسبها من النوع المعدي أو كما تقولون في عراقنا الحبيب -فك الله أسره- هي سعادة من النوع الانتقالي Infective، لكلِّ مسلمٍ يقرأ سطورك المضيئة، وأظن المشاركات التي وصلتني من قبل ربما كانت تصيبني شخصيًّا وربما صاحب المشكلة بسعادة كبيرة لكنها ليست من النوع المعدي أو الانتقالي!
إن ما كتبته أنت يا أخي وقرأته أنا لتوي لجدير بأن يقرأ مئات المرات، فقد كلمتنا بلغةٍ هي لغة من يحترم عقول الناس بحق، ويدلل ويحلل بسلاسةٍ وقوةٍ في نفس الوقت، فما أروع سطورك في عديدٍ من فقرات إفادتك يا أخي، والله إن قولك لمن نوع القول الذي أسميه: قول الفلاسفة المفحمين!
ومشاركتك يا أخي الفاضل بلا شكٍّ تشكلُ جزءًا مهمًّا من العلاج المعرفي له، إذن فأنت وإن وصفت نفسك بأنك لست من أهل التخصص أي الأطباء النفسيين، إلا أن كلامك هذا في حد ذاته سينفع كثيرين من الأطباء النفسيين ومرضاهم على حد سواء، وأنا ولا أخفيك سببًا آخر لسعادتي، أول من استفاد من الأطباء النفسيين.
وما تعرضت إليه يا أخي العزيز في مشاركتك لا يحتاج إلى تقييم منا، ولا تعليق، لكننا فقط نود الإشارة إلى أهمية علاج الاكتئاب عقاريًّا عندما تصل شدته إلى الدرجة التي تفتر فيها علاقة المؤمن بربه، وخاصة في حالة أخينا صاحب المشكلة الأصلية عندما يكونُ هنالك في نفسيته المكتئبة ذلك التوجه العدواني المكظوم أو المكبوت Suppressed or Repressed Agression تجاه السماء، وخوفنا هنا إنما ينبع من إمكانية حدوث إزاحةٍ غير واعية Displacement لذلك التوجه العدواني ليتحول تجاه الذات، فهنا يكمن الخطر الشديد؛ لأن معاقبة الذات وصولاً إلى حد الانتحار سيصبح جائز الحدوث، وهنا أحيلك إلى الرابطين التاليين عن الانتحار من على مجانين :
الشروع في الانتحار بين العلاج والعقاب
الأفكار الانتحارية والتعامل معها
بخصوص الانتحار والدين
كما أن العلاج في حالة الاكتئاب الشديد مهم لكي يستطيع الإنسان تفهم وإدراك المعاني الكامنة في إفادة كإفادتك؛ لأن الاكتئاب مثلما يسلب الإيمان فإنه يسلب أيضًا كثيرًا من القدرات المعرفية للشخص المصاب فيصبح تتبع الأفكار واستنباط النتائج أمرًا في غاية الصعوبة هذا إن لم يكن مستحيلاً، ولنا فيما يقول أبو حامد الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال" ما يبين مقصدي؛ إذ يقول الغزالي رحمه الله في وصف نوبة اكتئاب حادة أصابته:
"وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار؛ إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أنْ أدرس يوماً واحداً تطبيباً للقلوب المختلفة إليّ، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العلة في اللسان حزناً في القلب بطلت معه قـوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج فلا سبيل إليه بالعلاج إلا أنْ يتروح السر عن الهم الملم"، وهكذا يبين لنا الغزالي كيف يؤثر الاكتئاب على قدرات الإنسان المعرفية، فضلاً عن أثره النفسي والجسدي، وبهذا يصبح طلب العلاج من مثل هذه الحالة واجبًا على المسلم.
وأما ما هو جدير بالملاحظة هنا فهو السبب الذي جعل صاحب المشكلة الأصلية يلجأ إلى قسم استشارات دعوية ، وليس إلى استشارات مجانين، ويبدو لمن يقرأ استشارته وكأنه يطلب دليلاً على صحة عقيدته وعلى وجود ربه سبحانه وتعالى، فهو أولاً يخاف من شعوره بضعف إيمانه وفتور عقيدته، ويتوسم طريق الحل الشافي من أهل الدعوة، وهذا تصرف طبيعي من شخص مسلم، وإن حمل في طياته في حالة صاحبنا نوعًا من العدوانية المكظومة مثلما ذكرت من قبل، وأما ثانيًا فلأن الطب النفساني موصوم في بلادنا رغم أن وصمة المرض النفسي ليست من عندنا !، لكنه كغيره من أفراد مجتمعاتنا مخدوع في فكرته عن الطب النفساني.
وأعود إلى الأخ صاحب المشكلة الأصلية لأتساءل هل بإمكانه إذا قرأ إفادتك اليوم أن يتابعها ويتفهمها ويشعر بالسعادة التي يشعر بها كل مسلم يقرأ تلك الإفادة؟ هذا ما أتمناه له، لكنني طبيًّا أعتقد أنه إن كان ما يزال في حالته المزاجية والنفسية والذهنية التي كتب بها إفادته إلى الاستشارات الدعوية، فإنه على أغلب الظن لن يستطيع قراءةَ إفادتك واستيعابها بشكل يفيدهُ ويثمرُ الخير المنتظر داخله، بينما هو إن كان قد هداه الله وبدأ فعلاً في علاج اكتئابه، أو كان الله سبحانه قد منّ عليه ببعض التحسن بشكل أو بآخر، فإن مشاركتك ستكون فلسفةً مفحمة تسببُ السعادة المعدية له بحق!
شكرًا جزيلاً لك مرة أخرى، ولا تحرمنا من مشاركاتك.