وساوس الصيام : التطور الطبيعي يا محمد ! م10
وساوس أم حقائق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو أن تكونوا كلكم بخير، لعلها الاستشارة الأولى لي دون أن أسرد تفاصيل مشاكل أقع فيها بسبب وسواسي وأطالب بالحكم الشرعي فيها، فلو بدأت أن أسرد فلن تكفيني مائة استشارة
ولكني رغبت أن أبدأ طريق العلاج وبالفعل بدأت في تنفيذ بعض أساليب العلاج المعرفي السلوكي، ولكن قابلتني مشكلة حقيقية هنا.. في العلاج المعرفي السلوكي أنا مطالب بأني أتعرف أن ما أشعر به هو محض وساوس وأن هذا ليس أنا على الحقيقة وأن أستمر بما أفعله
ولكن هنا تأتي المشكلة: أن ما أفعله في وجهة نظري هو الصحيح.. في فترة ما في حياتي لم أكن منتبهاً له لكن بعد أن لاحظته كيف يمكنني تجاهله، أعطيكم مثالاً.. ففي نظري كل شيء هو حقيقة.. دفعني الوسواس للتعمق فيه لكني وصلت إليه ولا أقتنع بتمام الفعل إلا بما أفعله
كيف يمكنني تجاهل حقيقة إيصال الماء لبعض الزوائد الجلدية والظفرية على جانبي الأصابع والظفر وإلى تشققات القدم إلى دون دلك شديد ومحاولة رفعها لإيصال الماء لها كلها بل إنه أحيانا من مبالغتي تلك أجد بالفعل أن جلدي قد تشقق في أماكن لم يكن بها شيء وأصبحت مطالبا بوصول الماء لتلك الشقوق.. كيف أتجاهلها وأنا أراها على الحقيقة أنها لا يصلها الماء إلا لو قمت برفعها ودلكها بنفسي
كيف أتجاهل حقيقة نجاسة الأرض وأنا أنتبه لخطواتي وأراني قد دست على الغائط هذا في الشارع ومررت بهذا وذاك وأني دلكت نعلي في التراب لكني مررت بعد هذا على ماء بالطريق تمر عليه العربات التي لا تغسل إطاراتها بعد مرورها على الغائط في الطرقات .. كيف أتجاهل حقيقة أني رأيت، رأيت طفلتي تقيء على هذه الملابس ولم تغيرها، كيف أتجاهل حقيقة أني تكلمت وقلت كذا وكان دافعي كذا
أعلم أن الكلام قد يكون بعضه غير مفهوم وصعب وصفه في كتابة، ولكن أظن أن القصد قد وصل.. أني لا أستطيع اعتبار أن هذه الأمور وساوس لأني لما تعمقت فيها وجدت أن ما أفعله من عناية شديدة هو فقط ما ينجحها .. المشكلة أني انتبه للتفاصيل وإلى التسلسل المنطقي للأحداث فأتتبعه فأجد نفسي أن الأمر لا يتم إلا بما أفعله
وهنا وقفت في طريق علاجي ولا أعرف كيف أستمر.. كيف يمكنني تجاهل الأمر وأنا أراه رؤيا العين أعرف أنكم ستخبروني أنها مسألة المثالية وال perfectionism لكن بالنسبة لي ليس الأمر هكذا.. بل إني أظن أن ما أفعله هو أدني ما يحقق ما هو مطلوب
فما نصيحتكم؟؟
فقد وقفت في طريق العلاج ولا أستطيع الاستمرار
7/1/2023
رد المستشار
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا دكتور "محمد"، وأهلًا وسهلًا بك مجددًا على موقعك
هناك بعض الأحكام إذا أراد الإنسان تطبيقها كما هي مسطورة في الكتب، دون أن يرى التطبيق العملي لها من علماء متمكنين صاحبوا علماء متمكنين أيضًا...، يصل إلى نتيجة لا يقبلها الشرع، بل العقل! حينها يدرك الإنسان أن هناك خللًا ما، وأنه يجب إعادة النظر في فهمه وأفعاله حتى لا يخرج عن روح الشرع، ومنطق العقل.
أريد أن أسألك: أنت تدلك وترفع القشور والزوائد الجلدية لتطبق الحكم القائل بوجوب إيصال الماء إلى ما تحتها؛ أسأل عقلك المجرد: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفعلون ذلك؟ هل رُوِيَ عن أحد منهم أنه كان يدعك ويفرك أعضاءه هكذا؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدّ (مكيال يساوي نصف لتر)، وكذلك أصحابه وسائر العلماء العاملين، تُرَى هل كان هذا المقدار سيكفي لو أرادوا فعل ما تقوم به أنت؟ طيب لماذا تصرّ على اتباع حكم إيصال الماء (كما تفهمه أنت) ولا تقوم باتباع شيء مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مقدار الماء الذي يستعمله؟
هناك خلل ما بالتأكيد...
الشريعة لها مقاصد عامة، هي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وقد جاءت الأحكام لتحقيق هذه المقاصد، ومنع ما يقوم على الإضرار بها. فإذا قمت بتطبيق حكم ما، ووجدت أن نتيجته تضر بأحد هذه المقاصد الخمس، فاعلم أن ما تفعله ليس من الدين في شيء.
لا يمكن لعاقل أن يقول لابنه: أريدك متفوقًا لكن إياك أن تدرس. فكيف يقول دين الله تعالى لك: أريدك أن تعيش مرتاحًا سالم الجسم والعقل ثم يأمرك بأشياء تضرّ بك وبجسمك وتجعلك تمرض، أو تجعلك تتصرف كالمجانين؟!!! ألا ترى أن هذه (الحقائق) والأمور (الصحيحة) التي تؤمن بها وتعتبر نفسك على صواب في تنفيذها، إنما أخطاء وأباطيل؟
النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، كانوا يمررون الماء على أعضائهم بلطف عند صب الماء، فافعل هذا ودعك من التفاصيل.
هناك أحكام يكتبون عنها صفحات، وتطبيقها يكون في ثانية!! مثل نية الصلاة وشرح ما هي ووجوب قصد الصلاة، وتعينها أنها الظهر أو العصر أو...، وتحديدها إن كانت فرضًا أم سنة... ربما يكتبون في شرح هذا صحيفة كاملة، ولكنها في تطبيقها العملي: أن تقوم إلى الصلاة وأنت تعرف ماذا تريد!! تمامًا كما إذا قلت لأحدهم: ما هو الماء؟ فصار يقول: هو سائل شفاف لا لون له ولا طعم ولا رائحة، درجة تجمده صفر، ودرجة غليانه 100 مئوية، وصيغته الكيميائية H2O ويحصل من تفاعل كذا وكذا ويمكن تفكيكه إلى كذا وكذا... بينما يمكنك أن تَعْرِفه ببساطة إذا أشار ذلك الشخص إلى الكأس الذي أمامه وقال لك: هذا هو الماء!!!
ولأجل الحفاظ على المقاصد العامة للشريعة، أفتى العلماء بأن موسوس الطلاق لا يقع طلاقه وإن تلفظ به تحت ضغط الوسوسة!! لماذا؟ لأنه بينما كان في الحالة الطبيعية لا يتم الحفاظ على الأسرة إلا بتحديد عدد الطلقات، وربطها بحزم بألفاظ صريحة وغير ذلك من الشروط الواضحة، حتى لا يهدم الزوج أسرته بسهولة، فإنه في حالة الموسوس لا يتم الحفاظ على الأسرة إلا بإعفائه من أحكام الطلاق!!! تخيل كم يومًا سيبقى زواجه قائمًا فيما لو حسبنا عليه ألفاظه التي ينطق بها مقهورًا بالوسواس؟!
أولًا: أنت موسوس قطعًا، فوفر على نفسك مشقة قراءة أحكام الأصحاء، واقرأ أحكام الموسوسين وطبقها.
ثانيًا: لا تفصل الحكم الجزئي عن مقصده الأساسي...، ولا تتابع عملًا تقوم به إذا رأيت أنك وصلت إلى نتيجة غير طبيعية!!
تدقق أين تدوس! من قال لك أن عليك هذا شرعًا؟ تفترض أن عجلات العربات داست على نجاسة، ثم على ماء الطريق، وماذا لو لم تدس على نجاسة أصلًا؟ وماذا لو أنها مرت على ماء سابقًا طهر عجلاتها قبل أن تمر على الماء الذي أمامك والذي مشيت فوقه بحذائك؟ أليس من قواعد الشرع أن (الأصل في الأشياء الطهارة)؟ أي أن الأصل في العجلات الطهارة! أليس من قواعد الشرع أنه (لا تنجيس بالشك)؟ فكيف تحكم على العجلات بأنها نجسة لاحتمال أنها سارت على نجاسة؟!!!
طفلتك تقيأت على الملابس ولم تغيرها، وماذا في ذلك؟ هل ستنتشر النجاسة في البيت؟ من أين أتيت بهذا الحكم؟ هل ستنتقل النجاسة إليك إذا حملتها؟ وهل تحققت شروط انتقال النجاسة؟ أم من ماذا تخشى؟! إنه الوسواس فحسب... كيف تتجاهل أنك قلت كذا وكانت نيتك كذا؟ طيب ما المشكلة؟ هذه المرة غلبتك نفسك، وستكون أفضل في مرات قادمة! وهل يحتاج الأمر إلى كثرة تفكير وتمحيص وتذكر للماضي، وتأنيب للضمير، وووو...؟!!
كيف يمكنك التجاهل وأنت ترى الشيء رؤية العين؟ الموسوس يفتش ليرى، والتفتيش غير واجب ولا مطلوب، والعلاج السلوكي أن تترك التركيز على الأشياء، والتفتيش غير الواجب أصلًا، وإذا لم تفتش لم تعلم، وإذا لم تعلم فلن يؤاخذك الله ! (يعني الشرع يقول لك: لا تفتش وأنت غير مؤاخذ). وأنت تصرّ على أن تفتش وأن تبني أحكامًا غير شرعية على هذا التفتيش، وأن تزعم أنك مؤاخذ!!
بالمختصر: أعمالك ليست موافقة للشرع، وتظن أنك على صواب، وما تفعله هو الواجب، الذي تثاب على فعله وتعاقب على تركه!!
ما تفعله تنطع وتشدد، وأنت تظنه ورع واستقامة! والذي يحكم عليك بهذا ليس نحن، بل الشرع نفسه كما ترى حيث ناقضت أفعالك مقاصده وكدت تهدمها في حياتك!
ألم تسمع عن موسوس ترك الوضوء والصلاة لكثرة ما تشدد وتعمق وحاول التطبيق الحرفي (بالأعوج) فهدم مقصد حفظ الدين وهو يظن أنه يحتاط ويتورع؟ ماذا كان الحكم الشرعي في حقه؟ أليس أن وضوءه صحيح حتى لو لم يبلغ جميع أعضائه؟! أليس أن صلاته صحيحة حتى لو لم يتم أركانها؟! لماذا؟ أليس لأنه خرج عن مقصد الله في تشريعه، وهدم الدين بدل أن يحفظه؟
أنت يا أخي هكذا شأنك، فاترك أحكام الأصحاء للأصحاء، وعليك بأحكام أمثالك، وعش هانئ البال.
فإن أبيت إلا المكابرة واتباع الوسواس، مع التشكي منه في نفس الوقت، فأنت حر، ولكننا لا نملك لك شيئًا!!!
أعانك الله على اتباع طريق الشفاء، ويسره لك
ويتبع >>>>>>: وساوس الصيام : التطور الطبيعي يا محمد ! م12