السلام عليكم..
أكتب إليكم اليوم عن مشكلتي لسببين: لأن المشكلة المشروحة المكتوبة هي مشكلة نصف محلولة، وحتى أحصل على النصح والإرشاد والمعونة، بارك الله فيكم.
أنا شاب سوري عمري 19 عاما، سنة أولى (للمرة الثانية) في كلية الطاقة الكهربائية في جامعة تشرين، متدين منذ ثلاثة أعوام تقريبا بفضل الله تعالى، وأطالع بكثرة، وأقدّس القراءة، وصديقي هو الكتاب.. مشكلتي هي مع أسرتي كلها، باختصار شديد أعيش حالة من الغربة في البيت، وإليكم بيان ذلك:
غربة تدين: بعد قراءتي لأحد الكتب الدينية (من تأليف الدكتور سعيد البوطي)، انتشلتني يد العناية الإلهية من الوضع (المزري) الذي كنت فيه إلى آفاق الطاعة، ثم أخذت بقراءة المزيد من الكتب بنهم (ربما لتعويض النقص الحاد من الثقافة الإسلامية لدي في سنين عمري السابقة) فازددت وعيا وتدينا.
وكما تعلمون فالتدين ينضج في حياة أحدنا كلما تقدم به العمر، وازداد اطلاعا، وتجنبت منذ البداية الاصطدام مع أهلي ومع إخوتي، ولكنهم لم يتجنبوا الاصطدام معي، فوالداي ما زالا إلى الآن يعارضان (بالكلام وليس بالفعل) إلى حد ما أن أصلي فرائضي في المسجد ولاسيما الفجر، ويعيبان عليّ قراءتي في كتب الدين، ويصفان جلوسي مع كتاب الله في كثير من الأحيان بوجود أشياء أبدى منه.
(أهم منه.. ويعنون الدراسة!!! -رغم أني لا أقرأ أكثر من جزء يوميا-)، ولطالما وصتني أمي وأنا ذاهب للنوم (نام وشباع نوم بلا بكرا صلاة بكير (يعني الصبح) لأنك اليوم تعبت!!!) هذا مؤخرا، أما في البداية فكانت تطلب مني أن لا "أزعجهم" بصوت المنبه على صلاة الصبح، وأبي يشدد علي بالنوم مباشرة بعد صلاة الصبح دون اهتمام بأورادي!! إخوتي يعيرونني بكلمة (شيخ)!! هل وصلت الفكرة؟ مشاهد ومشاهد كثيرة ويومية تحصل مثل هذا، بل أحيانا أكثر.
أخشى أن أقوم شيئا من الليل، تعلمون لماذا؟ أخاف أن يراني أحد والدي فينهال علي باللوم والتقريع بإسرافي الشديد في العبادة!!! آه.. ماذا أكتب وأكتب من تلك الكلمات القاسية، ناهيكم عن المخالفات الشرعية التي تقع في البيت تحت غطاء الشرعية الدولية (أبي وأمي) الموسيقى الماجنة، الغيبة هي مدار كل أحاديثهم، الاستهزاء والطعن بالمشايخ والعلماء بالجملة... كل هذا وأكثر هو ما سميته غربة تدين.
غربة ثقافة: أخبرتكم عن تقديسي للكتاب، ومصادقتي للقراءة، وأخبركم هنا عن موقف أهلي تجاه ذلك... والدي يقول بأن القراءة لا تأتي بأي نفع!!!! وهو مستعد ليعطيني 1000 ليرة لأصرفها مع أصدقائي هنا أو هناك، ولكنه يتضايق ويتبرم من كتاب سعره 400 ليرة أشد التضايق، شراء كتاب هو أصعب شيء أقوم به، حتى قراءتي للكتب الرقمية تعني بالنسبة لديهم "إضاعة" للوقت!!! ويريدون أن أجلس معهم في مجالس كلها غيبة واهتمام بأمور الآخرين، فلكم أن تتخيلوا هذا التباين الشاسع هنا.
غربة التدين والثقافة ستفرز (بالتأكيد) اختلافا مستمرا:
1- بالمعايير: ففي الوقت الذي يكون معياري الأول هو (الشريعة) فمعيارهم المقدس هو (المجتمع والأصول)
2- بالآراء: نتيجة اطلاعي الواسع وثقافتهم السطحية.
كنت أشعر منذ فترة بعيدة أن أختي الكبرى (والوحيدة) تكن لي "شيئا" من مشاعر الكراهية والحسد!!!! أليست هذه مبالغة؟! هذا ما كنت أقوله لنفسي حتى سمعتها بأذني تدعو علي بالرسوب والفشل سرا في إحدى السنوات.
ومما زاد الأمر سوءا أنه بعد اجتيازي امتحان الثانوية (بمجموع 81%) كنت أفكر في أحد الفروع التي لم أستطع بلوغها (اعتمادا على المجموع) فسجلت في المفاضلة الجامعية عددا آخر من الفروع (الكليات)، وبقي الفرع الأخير في ورقة تسجيل المفاضلة شاغرا فملئوه هم بعد التهديد والصراخ والمشاجرات بفرع لا أريده بشدة... وكان لهم ما أرادوا، وأتت نتيجة المفاضلة بأن الكلية التي يستحقها مجموعي هي آخر رغبة (رغبة بالنسبة لأهلي وليس لي) أي هندسة الطاقة.
فأثر في نفسي كل ما ذكرته آنفا، وكانت الكلية التي لا أحب هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير فساءت حالتي النفسية سوءا شديدا؛ مما أثر على دراستي فرسبت في عامي الأول، وكان نبأ رسوبي هو الخطأ الذي ينتظر الجميع أن أقوم به؛ فتأزمت علاقتي مع أهلي على أثره.
ففي الصيف الماضي، وقبل بدء العام الدراسي الجديد قرأت بعض الكتب بعلم النفس لديل كارنيجي، ودخلت في الفصل الدراسي الأول (حاليا) في السنة الأولى، ولكني أشعر بأن الأمور ربما لا تسير على ما يرام في هذا الفصل أيضا... أحاول أن أقنع نفسي بالكلية (وحققت تقدما) ولكن مستوى دراستي ليس كما كان بالسابق.
أرجو أن توافوني بالإرشاد حول غربتي في بيتي، وحالتي الدراسية السيئة.
وجزاكم الله خيرا.
16/12/2022
رد المستشار
هل تعلم ما هو -بالتحديد- الشيء الذي تحتاجه الآن؟؟
إنك تحتاج لأمرين:
1- المزيد من القوة الداخلية.
2- المزيد من تفهم الطرف الآخر.
وأبدأ بالأول: القوة الداخلية. الإنسان على مدار حياته لا يسلم أبدا من النقد، وأنا أتحدّى إذا وجدت على سطح الأرض شخصا واحدا سلم من النقد والسخرية، والدعاة والمصلحون يقعون تحت نقد غير المتدينين.. كما أن الخارجين عن القيم والأخلاق يعانون من نقد المتدينين والمحافظين، فرقاب الجميع تحت سيوف النقد والسخرية، حتى أن الدعاة أنفسهم ينتقدون بعضهم بعضا، ويتهم بعضهم بعضا!!
الحل إذن ينبع من "داخل الإنسان"، فنحن لا نستطيع أن نُخرس ألسنة الآخرين، أو أن نمنع أسهم النقد التي تتجه لصدورنا، ولكننا نستطيع أن نحمي صدورنا، ونلبس الدروع الواقية، وهذه الدروع هي: الإيمان بما نقوم به، والثقة في أنفسنا، والصبر، والثبات، والأمل، و...
وهذا كله ما أسمّيه "القوة الداخلية"، تلك القوة التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى الحجارة والأشواك، ويستمر في طريقه بكل سعادة وهدوء، بل يدعو بالخير لقومه ويُحسن إليهم، أنت ما زالت تعاني ضعفا، وما زال إيذاء الآخرين يؤثر فيك بشدة، وما زلت تعد عليهم إساءاتهم نحوك، وتسجل هذه الإساءات، وتضعها تحت المجهر، فترى أختك حقودة، وترى أباك وأمك فاسقين.. أنت في حاجة إلى زيادة قوتك الداخلية، وترفعك عن نقد الآخرين دون كبر أو جفاء.
أما الأمر الثاني: الذي تحتاجه فهو "تفهم الطرف الآخر"، ولا أقصد بكلمة "تفهم" أن تغير آراءك، وأن تعتنق آراء أسرتك، ولكني أقصد أن تفهم وجهة نظرهم، وتحترمها على الأقل.. على سبيل المثال، أنت تحدثت عن غربة "الدين"، وأعطيتني انطباعا أنك تعيش وسط مجوس يعبدون النار، أو هندوس يعبدون البقر، أو عصابة للدعارة والمخدرات!!
إن أباك، وأمك، وإخوتك مثلك -تماما- مسلمون موحدون، وهم متدينون بصورة أخرى من التدين، فهم مثلا ينفقون عليك، ولم يتركوك في الشارع تنفق على نفسك كما يفعل الغرب، كما أن أمك تقوم بمسؤولياتها وواجباتها الثقيلة تجاه البيت والأبناء، وهذا أمر شاق، بل هو أكثر مشقة من قيام الليل، وتلاوة جزء من القرآن يوميًّا.
مرة أخرى: أنا لا أقلل من شأن عباداتك وأورادك، ولكني فقط أقول إنها ليست الصورة الوحيدة من السلوك الذي يرضي الله، فهناك مسؤوليات أكثر مشقة لعل الله تعالى يتقبلها من أصحابها، ولعلها تشفع لهم عنده يوم القيامة، فهو سبحانه الرحيم اللطيف.
وصدقني يا أخي.. عندما كنت أنا في سنك كنت أقوم بما تقوم به من عبادات، وأوراد، وفي ذلك الوقت كانت غربتنا أشد؛ لأن التدين لم يكن انتشر، كما هو الآن، وأنا الآن أقوم بواجبات شبيهة بواجبات والدتك تجاه بيتي وأولادي -بالإضافة إلى عملي- وأتذكر أيام شبابي الأول فأقول: لقد كانت أيام راحة بالنسبة لمسؤوليتي الآن!!
وأتذكر أنني بعد زواجي بأعوام قليلة، كنت أجلس في بيتي في شهر رمضان مع أبنائي الصغار، فأجد هذا الصغير يحتاج أن أطعمه، ثم ألاعبه، ثم أساعده في قضاء حاجته، ثم نومه، وأجد أخاه يحتاج نفس الطلبات المجهدة، حتى إذا انتهيت من الأول يناديني الثاني، وبعد انتهائي من الثاني يناديني الأول!!
وكنت في تلك الأثناء -في رمضان- أسمع صوت المصلين في المسجد المجاور يصلون قيام الليل، وقد امتلأ المسجد برائحة العبير والبخور، بينما أجلس أنا وسط رائحة القيء، والبول، والبراز، فأسأل ربي: يا رب!! كيف ستحسب الأجر؟!
أقول لك للمرة الثالثة: أنا لا أقلل من شأن ما تفعله، بل أدعوك للاستمرار والثبات، ولكني فقط أدعوك أن تنظر للآخرين نظرة أخرى، فهم قد يكونون أفضل عند الله منك في جوانب، وأنت أفضل منهم في جوانب.
وألخص لك النقطتين مرة أخرى: أنت في حاجة إلى المزيد من القوة الداخلية، والمزيد من تفهم الآخرين، وعدم الاستعلاء عليهم.
أما بالنسبة للدراسة، فأنا لديّ اقتراح: حاول قدر استطاعتك أن تبذل أقصى جهدك هذا العام من أجل النجاح، فإذا لم تنجح فمن الأفضل أن تحول للكلية التي تحبها؛ لأن خسارة سنتين أفضل من خسارة العمر كله.
الأخ الكريم: أتمنى لك النجاح، والصبر، والقوة، والثبات، والقبول بإذن الله.
التعليق: أحييك أخي وأسأل الله لك الثبات، أوافق السيدة المستشارة في أن التعرض للنقد امر يجب التعامل معه في الدنيا، وخاصة في ظروفك، سنك ومعيشك مع عائلتك ووالديك الذان يهتمان بك ومازالا يريانك تحتاج للنصح والإرشاد وبالطبع هما لا يريدان لك إلا الخير كن على يقين،
أما تعاملهما مع تدينك بتلكك الطريقة فهذا يعود لأسباب اجتماعية أيضا، وضعت إقامتك بسوريا ربما تقيم بمناطق سيطرة قوات الأسد، وبطبيعة الحال الثوار محسوبون على الإسلاميين والجهاديين، والربط بين الإسلام والتطرف والعنف ليس أمرا حكرا على الغرب وإنما نراه في عدة مجتمعات عربية.
إذن والداك يخافان عليك، أظنه أنه من االأفضل عدم الدخول في العزلة، بل مناقشتهما على انفراد بهدوء وإن كان الأمر صعبا باستعمال رسائل، تخبرهما أنك ممتن جدا لما قاما ويقومان به من أجلك، وتطمئنهما أنك فاهم التدين بطريقة جيدة وتنبد التطرف والعنف وأن هذا التدين لن يعود عليك إلا بالخير وأن انشغالك بالعلم سواءا الشرعي أو المطالعة لن يشغلك عن دراستك وطلبك للرزق، كما أن هذا التدين سيعود عليهما أيضا بالخير في حياتهما بأنك تبرهما وفي مماتهما لأن الأعمال تنقطع إلا من ثلاث إحداها ولدصالح يدعو له.
ويا أخي أخبر أيضا العائلة أنك تنزعج من كثرة الانتقادات والسخرية على تدينك وأنك اخترت هذه الطريقة في الحياة على قناعة وهي لن تضرك ولن تضرهم وانتهى الأمر، وأن تطلب منهم أن يتقبلوك هكذا. واعلم أن هاته مجرد مرحلة إذا ثبت فستكون أنت قدوة لهم بإذن الله فيما بعد.
وفي هذا السياق أدعوك لقراءة كتب ولمشاهدة فيديوهات عن توكيد الذات ومواجهة التنمر ومشاهدة فيديوهات لأشخاص يعرضون أفكارهم بطريقة لا اعتذارية الداعية حقيقتجو والسيد أندرو تيت في مواجهته للحركة النسوية (بالطبع ليست كل أفكاره صحيحة، أنا أتحدث عن طريقته في عرض الإلقاء لا عن الأفكار