بسم الله الرحمن الرحيم،
المشكلة ببساطة هي أنني تمر بي لحظات أخشى أن يكون الله عز وجل ربما غير راضٍ عني، وذلك عندما أرى من حولي وقد مَنَّ الله عليهن بنعمة الزواج والأطفال، وأنا مؤمنة بأمر الله ولم أكن يومًا حاسدة أو كارهة للخير لمن حولي، بل على العكس كنت دائمًا أفرح لمن يعطيها الله من فضله، وأنا كلِّي إيمان بأنها أرزاق يقسمها الله، وأن لي نصيبي، وسوف أحصل عليه، والله يعلم أنني ما كنت أحلم في حياتي بأكثر من طفل أكون أمَّه وأعطيه كل وقتي وعمري، ولم أقف حياتي أنتظر، بل درست وعملت. وأجتهد ولم أعش عمري لأندب حظِّي،
لكن بعد أن أصبحت في الثلاثين ولم أحقق حلمي الوحيد الذي هو فطرة خلقها الله في نفوسنا أخاف أن يكون الله غير راضٍ عني، وأخاف أكثر عندما يغلبني الشيطان، وأشعر للحظة بالضيق عندما أرى كل من حولي وقد أصبحن أمهات رغم أنهن لا يفقهن معنى الأمومة، وهي بالنسبة لهن ليست أكثر من وظيفة بيولوجية وواجهة اجتماعية..
ببساطة عندما تهاجمني كلمة (إشمعنى) لماذا بالذات،
هل سيعاقبني الله؟
11/1/2023
رد المستشار
الأخت الكريمة: شكرًا لك، وأنت تصفين في بلاغة جانبًا من مشاعر فتاة تأخر زواجها، مع ملاحظة أن الوصول إلى الثلاثين دون زواج صار أمرًا معتادًا في حالة فتيات كثيرات.
أختي: يمكن النظر إلى تأخر الزواج من زوايا مختلفة، وقد عالجنا هذا الأمر من قبل، ولا بأس من مزيد معالجة.. تتحدثين يا أختي، وكأن الزواج خيرٌ مَحْض في ذاته، وكذلك الإنجاب، وهذا غير صحيح كما تعرفين، فالزواج والإنجاب قيود ومسؤوليات، ومداخل محتملة للشر والتعاسة، وهما من مكونات الحياة التي خلقها الله... "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً"، فمن الناس من يبتليه الله بالزواج والإنجاب لينظر هل يشكر، ويقوم بالأعباء والمسؤوليات، ومن الناس من يبتليه الله بالعكس لينظر كيف يعمل؟! فالزواج والأولاد مثل الإمارة والحكم، فيهما من التكليف أكثر بكثير مما فيهما من تشريف لمن يعقلون.
ومن زاوية أخرى فإن عمارة الأرض، وهي الترجمة الحية التي يريدها الله من عباده دليلاً على إيمانهم به، لها طرق ووسائل كثيرة منها التعليم والتعلم، ومنها إصلاح أحوال الناس، ورعاية المحتاج نفسيًّا أو ماديًّا.. ومنها الحفاظ على تراث الحضارة الإسلامية حيًّا متدفقًا، وضروب لا تنتهي كلها أبواب وميادين واسعة لعمل الخير، وممارسة أمانة الخلافة عن الله في الأرض، وذلك التشريف الممنوح منه عز وجل للبشر حين قال للملائكة: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَة"، وعندما عدد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أسباب استمرار عمل ابن آدم بعد موته جعل الولد الصالح واحدًا منها، وذكر معه العلم الذي يُنتفع به، والصدقة الجارية.
وتقولين يا أختي إنك درست وعملت واجتهدت، وأنا أقول لك: إن توسيع دائرة الحركة والنشاط في الحياة من شأنها إنضاج الشخصية أكثر، ومن شأنها الاحتكاك بعدد أكبر من الناس، ولعل في فضائلك الأخلاقية والعلمية، وإقبالك على الحياة، ونشاطك واجتهادك ما يحمل رسالة واضحة أنك جاهزة لحمل أمانة الزواج والإنجاب، وأنا – من خلال تجربة العمل في هذه الصفحة – أفضِّل لك ولمثيلاتك أن تتأخر الاستجابة لهذه الإشارات والرسائل إذا كان البديل هو استجابة عاجلة من الطرف غير المناسب، إذن عليك بتوسيع السعي: فكوني كالطير تغدو خماصًا لتعود بطانًا، أو كالنحل يجوب بين الأزهار والأشواك ليعود بالعسل.. وزاوية أخرى وهي النضج في الاختيار، فالفتاة في العشرينيات تبحث عن فارس على جواد أبيض يخطفها لمدينة الأحلام المسحورة، ومع النضج ينبغي أن تبحث الفتاة عن "رجل" مسؤول يتحمل عيوبها، ويحب ذكر محاسنها، ورعايتها وأولادها.
في العشرينيات تحلم الفتاة بملائكة وشموس، وفراشات، وينابيع، وفي الثلاثينيات ينبغي أن تتضح الرؤية أكثر، وتصبح أعمق واقعية مع بعض الرومانسية التي لا غنى عنها.. ومن منطلق هذا الفارق تريد الفتاة العشرينية زوجًا عطوفًا، محبًّا، وسيمًا، غنيًّا، من عائلة محترمة، متدينًا، مرموقًا، في مجال عمله.. إلخ.
وفي الثلاثينيات ينبغي أن تنضج الاختيارات فتعرف أن الإنسان الكامل غير موجود، وأن علينا البحث عن الثغرات أو العيوب التي ترضى بها، وتستطيع تحملها؛ ولذلك فليس غريبًا أن تختار الثلاثينية مطلقًا أو معوقًا، أو رجلاً فيه عيب خُلُقي أو خِلْقي، تقبله وتتحمله، وتتعامل معه إن كان مما يمكن إصلاحه، والناس تمصمص الشفاه وتقول: مسكينة.. فاتها القطار!! وفي الحقيقة يكون الاختيار أقرب إلى النضج العقلي والعاطفي، فكوني ناضجة كما يؤهلك عمرك حين تعرض لك اختيارات ترفضها ابنة العشرين؛ لأنها ما زالت تحلم بالخيل، وسحب الليل، وبساط الريح!
ومن زاوية أخيرة – فقد أطلت عليك – فإن نفسية الضحية المظلومة التي تجلس تندب حظها هي أسوأ حالاً، يمكن أن تقابل مثلك الحياة بها، فهي علاوة على أنها تخلق وجهًا عبوسًا، وروحًا مضطربة لا تجلب زوجًا، ولا تشجع خاطبًا، فإنها تفتك بالجسد حين تتمكن منه الأوجاع الناتجة عن الاكتئاب وتوابعه، وأفضل منها نفسية من تستعلي على دور الضحية السالب، وتتجه إلى دور المتفاعل الإيجابي، وهو في قصتنا هنا يمكن أن يُمارَس بعدة صور وأشكال منها المباشر: بالسعي لدراسة أسباب تأخر الزواج، والتعاون مع آخرين وأخريات لحل هذه المشكلة، ومنها أساليب أخرى، فمثلاً انظري حولك لتجدي أمهات يحتجن إلى عون في تربية أبنائهن إما لقصور طاقتهن الذهنية والنفسانية، أو لانشغال أزواجهن عن المساهمة بنصيبهم في واجب التربية، وقد تصرِّح بعض النساء بهذه الحاجة إلى العون، وقد لا يصرحن.
وستجدين بنات في عمر البراعم أو الزهور التي تفتحت للتوّ، وهنَّ في أمسِّ الحاجة لأخت أكبر قريبة عهد بمشاعر المراهقة فقد غادرتها منذ قليل، ولها بعالم الكبار خبرة لا بأس بها، ويبرز هنا دور يعجز عنه الآباء، وتعجز عنه أغلب الأمهات "حاليًا"، فأين أنت من القيام بدور الأخت الكبرى؟!! لقد تحدثنا من قبل عن فكرة تعدد الآباء والأمهات، وفي تصورنا لفلسفة الإسلام الاجتماعية نرى أن دائرة الأبوة والأمومة، وأدوارهما هي مسألة غاية في الحراك والديناميكية، والتبادلية والمرونة، وهذا هو بعض فهمنا لحديث النبي: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضًا"، وقوله: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".
وأحاديث وأحوال كثيرة تخالف ما نعتقده ونمارسه حاليًا حين نترك كل واحد وشأنه، فتتألم هذه من تأخر زواجها، ويشكو هذا من اشتعال شهوته، وتفتقد تلك ممارسة مشاعر الأمومة، والأخرى إلى جوارها تشكو من واجبات وأعباء البيت والأبناء!! وبقليل من التفكير والتدبير ينصلح هذا الخلل، ونتشارك ونتعاون، ونتساند، ونتبادل الأدوار، ونرتب توزيعها فلا يبقى في الجوار محروم، وجاره مريض بالتخمة!! أو أم تصرخ من هموم البيت وضجيج الصغار، وجارتها حبيسة الصمت في فراش بارد، وجارهما يمارس الاستمناء ليعف نفسه!!
يا أختي.. حتى يفتح الله علينا، ونفهم هذا الدين، ويرزقنا بعض التفكير والتدبير لندير حياتنا.. بشكل أفضل، أعتقد أن هناك حلولاً كثيرة على مستويات متعددة للخروج من هذه الحالة النفسانية القاسية التي أنت فيها، فحطِّمي هذه الحواجز الوهمية من مفاهيم ملتبسة، وذهنية سقيمة، وأحوال تقليدية شائعة وسخيفة، وجدّدي حياتك، ولعل بينك وبين ما تريدين صبر ساعة.
سألوا باب مدينة العلم سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ماذا بين المؤمن والجنة؟!! قال: صبر ساعة.
تمنياتنا بالسعادة، ولها أسباب متنوعة، وتابعينا بأخبارك.
واقرئي أيضًا:
تأخر الزواج: أفكار وهواجس ومغالطات!
وأوشكت الشمعة أن تنطفئ
تأخر سن الزواج.. على من نطلق الرصاص؟
تأخر سن الزواج....... بين عالمي الغيب والشهادة
تأخر الزواج والإحساس بالوحدة!