استنارة ذهانية.. هل هو الفصام؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
في الحقيقة أكتب هذه الرسالة وأنا مندهشة من ردكم، لقد فتحتم أمامي أبوابا مغلقة، لم أعرف أين مفاتيحها! كانت مخفية، ولكني أصبت بالحيرة أكثر، وسأقول لكم أكثر عني حتى يكون التشخيص لنفسي أوضح: فأنا أكلمكم الآن وفي نفسي شيء جديد متطور.
لقد أخبرتكم في المشكلة القديمة أنني تحملت أكثر المشاكل، أما الآن فأبسط مشكلة لي أضعف أمامها. من تلك المشاكل عمتي. عمتي... لو أنكم موجدون هنا لرأيتم ذلك الوحش الذي يكرهني، ربما لم تكن القراءة التي غيرتني أو حتى ذلك الشخص العزيز الذي فقدته؛ ربما السبب هو تلك المشكلة الاجتماعية التي حدثت لي، وفي الوقت الذي فقدت فيه ذلك العزيز.
في الحقيقة عمتي إنسانة جاهلة وخبيثة، تحب السيطرة والتحكم؛ لدرجة أنها تهجمت علينا في بيتنا، وطردتنا منه دون أي سبب. لقد كان اليهود هم السبب في تدمير ما كانت تظن أننا دمرناه لها، في تلك اللحظة التقيت بذلك الإنسان الذي غير تفكيري، ولكن الصدف تكمن أين؟! فبعد سنة كاملة صالحنا بها عمتي فقدت ذلك الشخص وهو نفسه الذي غيرني. وفي تلك اللحظة أهدتني عمتي هدية؛ ومنذ أن أخذت هذه الهدية بدأت التغيرات تحدث لي. مع العلم أنها عندما جاءت لطردنا من البيت أنا التي واجهتها، ووقفت أمامها وقفة قوية.
فهي حتى الآن تكرهني؛ فلا شك أنها عملت لي ذلك العمل؟ كما أنها كانت دوما تعطيني فنجان القهوة بيدها، وتدعوني على الطعام وفي وجهها شيء من المكر. فقد تحققت من ذلك من شيخ أكد لي أنني مسحورة. أعرف أنني أخفيت عنكم هذه القصة، ولكني في تلك اللحظة لم أفكر بها؛ على الرغم من أن هذه القصة قوت من شخصيتي.
اعذروني فأنا حقا أفكاري معقدة، ولكني طيلة فترة الثانوية العامة كنت أذهب إلى دكتور نفساني، فأعطاني دواء لزيادة التركيز، ولم يذكر لي أي شيئ عن الانفصام.
لقد واجهت نفسي، والحمد لله تغلبت عليها، أصبحت لي طريقتي في تعاملي مع الناس، أسخرهم لفعل الخير؛ فأنا أنشره بين زميلاتي في الجامعة، حتى إن القراءة ما زال تأثيرها في. لقد قرأت كتبا كثيرة عن علم النفس الذي أعشقه، وأستطيع تفسير وتحليل الشخصيات من خلال الوقفة والمشية والاسم وتاريخ الميلاد.. حتى أنني أهدئ من أجده مستاء من الدنيا.. لو أنكم موجودون معي في جامعتي؛ فالكل يعرف أني أقرأ كتب علم النفس؛ فكلما يستاء أحد أعطيه العلاج والنصائح المرجوة.. هذا يحدث معي يوميا.. وكأني دكتورة؛ فأنا سعيدة بذلك، لقد ساعدت الكثير من الحالات.
ولكن للأسف فأنا حتى الآن لا أستطيع مساعدة نفسي بدقة؛ فشيء غريب بداخلي أتعجب منه، وبصراحة أحب قراءة كتب خارجية، وأترك الكتب الدراسية (المنهج) بل أكرهها؛ فمثلا في فترة الثانوية العامة كنت أقرأ أي كتاب خارجي عن أي موضوع، ولا أهتم بالكتب المدرسية. أرجوكم ساعدوني.
قلتم لي أن أذهب إلى أقرب دكتور نفساني، حسنا، إن ذلك الشخص الذي حدثتكم عنه هو أستاذي في الجامعة، كما أنه دكتور في علم النفس. بصراحة هو حماني من وسواس خطير كنت سأجلبه لنفسي. إن في الدنيا شيئا غريبا، قلتم لي: إنكم لا توافقونني على أن أتخذ قرارا مثل هذا؛ ألا وهو أن يكون ذلك الشخص زوجا لي، ولكنه بصراحة يلمح لي كثيرا؛ فهو لديه مشكلة بسيطة مع زوجته، ولكن هذا الإنسان مثقف؛ فأفكاره توافق أفكاري بشكل رهيب.
حقا أتمنى لو كانت الدنيا كلها مثله. لنفترض أنه فاتحني بالموضوع ماذا علي أن أفعل، مع أني أتمناه؟
أرجوكم افهموني؛ فأنتم أملي الوحيد بعد هذا الانتظار، وشكرا جزيلا لكم، وأدعو الله أن يوفقكم.
بارك الله فيكم
14/1/2023
رد المستشار
الابنة العزيزة،
أهلا وسهلا بك، ونشكرك أن تابعت معنا؛ فهذا يطمئننا عليك، ونتمنى أن يصلك ردنا هذا وقد هداك الرحمن إلى طريق الصواب في كل شيء، وأن يسخر لك من عباده من يدفع عنك معاناتك وحيرتك إن شاء الله الكريم.
وأولا فيما يخص ما أشرنا إليه في ردنا على إفادتك السابقة "استنارة ذهانية: هل هو الفصام؟" من أن انطباعنا المبدئي أنك ربما تمرين بعملية فصامية Schizophrenic Process، هذا الانطباع يتأكد بإفادتك الأخيرة هذه؛ فها أنت في هذه الإفادة بعد أن قلت:
"فأنا أكلمكم الآن وفي نفسي شيء جديد متطور"، وتوقعنا أنك ستخبرين عن تحسن أو تطورٍ إيجابي إذا بك تشيرين إلى أنك أصبحت تضعفين أمام أي مشكلة بسيطة تواجهينها، وكنت في إفادتك السابقة منذ شهر واحد تقولين:
"أما الآن فأنا لست كما قبل؛ بل أصبحت لا أخاف ذلك الإنسان الذي أخاطبه، بحثت عن نفسي، فوجت نفسي الأقوى من بين هؤلاء البشر"، وهذه القوة يا ابنتي التي كنت تشعرين بها هي رد الفعل المبدئي على الاستنارة الذهانية Psychotic Illumination التي شرحنا معناها في ردنا السابق؛ حيث يشعر المريض بعد أن يلمع في ذهنه التفسير الذي يهبط عليه فجأة من السماء لسر شعوره المبهم بالخطر، فجأة يشعر بأن تلك المعرفة ستمنحه القوة والقدرة على التصدي والنجاة، ولكن ذلك الشعور مع الأسف سرعان ما يتهاوى!
والسببُ في ذلك هو عدم توافق ذلك التفسير الذهاني (أن عمة تسحر لابنة أخيها بغض النظر عن الظروف والملابسات) مع الحياة الواقعية، والذي يضعف أصلا من طاقته التفسيرية بالنسبة للآخرين، وبالتالي لا يجد صاحب ذلك التفسير من معرفته تلك ما يسانده فيه الآخرون!
ولكي أقرب لك الأمر أكثر؛ فإن تفسيرك أن ما بك من أثر السحر الذي قامت عمتك بعمله لك هو تفسير لا يقبله معظم المحيطين بك، وخاصة الذين يعرفون أسرتكم أو يعرفونك ويعرفون عمتك، ولن يوافقك في ذلك الاعتقاد إلا جاهل أو مغرض أو على الأقل غير مبال بأمرك من الناس، وأما الشيخ الهمام الذي أكد لك أنك مسحورة، فجزاه الله على حسب نيته، ولا أدري كيف يؤكد علمه بالغيب!
فنحن كأطباء نفسيين نعرفُ ونقول:
إن تغيراتٍ كيميائيةً عديدةً تحدث الآن في الكعبرات المشبكية (أي نقاط الالتقاء بين الخلايا العصبية) في مخك.
وهذه التغيرات كما عرفنا تطرأ على الناقلات العصبية، خاصة الدوبامين Dopamine والسيروتونين Serotonin، وتصاحب الخلل الحادث في الأفكار والإدراك والمشاعر الذي يسميه الطبيب النفسي "فصاما" (وقد يسميه من يدعون العلم بالغيب سحرا أو أثرا للجن أو حسدا... إلى آخر ذلك من الغيبيات التي يؤمن بها كل مسلم)، وعندما يتناول المريض عقاقير معينة نسميها مضادات الذهان Antipsychotics تصحح ذلك الخلل الكيميائي؛ فإن الخلل الظاهر في الأفكار والمشاعر والإدراك يتحسن بالفعل، هذا الذي أقوله لك يا ابنتي نراه ويراه كل الأطباء النفسيين أثناء عملهم اليومي بصفة مستمرة.
ولكننا لا نستطيع الجزم برغم ذلك -أي برغم وجود ظواهر ملموسة- بأن هذه التغيرات هي السبب المبدئي لاضطراب الفصام؛ فقد تكونُ مجرد واحدة من ظواهره وهناك ما لا نعرفه، ولهذا سميت العقاقير التي أشرت إليها مضادات الذهان وليس مضادات الفصام، ولا ندري كيف يستطيع الشيخ الذي تكلمت عنه أو غيره أن يرجع ما بك إلى السحر سامحه الله؟! فلعله لو احتك قليلا بالممارسة الإكلينيكية للطب النفسي لصحن أقراص مضادات الذهان، وأعطاها لمريديه على أنها مضادات السحر!!
إن ما يحدث الآن لك يا ابنتي وفي ظل ما ذكرته لنا من عدم قدرتك على التركيز وإحساسك بالغرابة الذي يتكررُ تعبيرك عنه خلال النصوص التي وردتنا منك منذ إفاداتك الأولى لصفحتنا "استشارات مجانين الشباب"، إضافة إلى الدبيب المتصاعد لشعورك بالضعف وعدم التماسك النفسي، وانجذابك لعلم النفس وأشباه العلوم التي تقولين:
إنك من كثرة ما عشقتها وقرأتها أصبحت تستطيعين تحليل الشخصيات من خلال الوقفة والمشية والاسم وتاريخ الميلاد. وفي نفس الوقت تعجزين عن فهم نفسك، كل ذلك يشير إلى أن انطباعنا المبدئي أكثر قربا من الحقيقة مع الأسف.
وأما قولك :
"ولكني طيلة فترة الثانوية العامة كنت أذهب إلى دكتور نفساني فأعطاني دواء لزيادة التركيز، ولم يذكر لي أي شيئا عن الانفصام. فهذا لا خلاف معنا عليه، وكل ما نطلبه منك الآن هو اللجوء بعد الله إلى ذلك الطبيب النفسي نفسه -إن تأكدت أنه متخصص فعلا في الطب النفسي- وستعرفين منه أن ما تمرين به الآن هو ما نخاف عليك منه.
وأما كونه لم يذكر لك شيئا عن اضطراب الفصام وليس الانفصام؛ فذلك لأن ما رآه منك كان فتاةً في مرحلة المراهقة متقدة الذكاء حاضرة البديهة طلقة اللسان لكنها قلقة، وغير مستقرة، وذهنها مشحون بكثير من الأفكار، وهكذا لم ير الطبيب فصاما، ولكنه اليوم لو رآك فسيعرف أن ما كنت تمرين به أثناء سنوات الثانوية العامة كان أعراض الفصام البادرية التي أشرنا لها في ردنا السابق عليك.
وأما حكايتك مع أستاذك في الكلية الحاصل على دكتوراة في علم النفس -كما جاء في إفادتك- فإن من المهم بداية أن تعرفي أنه يختلف عن الطبيب النفسي، ولعلك تطلعين على الرابط التالي لتعرفي الفرق بين علم النفس والطب النفسي، وطب المخ والأعصاب وجراحة المخ والأعصاب، والإخصائي النفسي والاجتماعي.. إلى آخر المصطلحات التي كثيرا ما تختلط على الناس، وذلك تحت عنوان:
مصطلحات نفسية
وأما كونك تعلقت به فإن ذلك أمرٌ متوقع؛ لأنه يسمعك ويدعمك نفسيا، وهذا ما يشكر عليه، ونسأل الله أن يقويه ويثبته في حفظ علاقته بك في إطار الأستاذ الجامعي وطالبته، أو المعالج النفسي ومريضته، على ألا يمنعك من طلب العلاج من الطبيب النفساني؛ لأنك تحتاجين لجهد كل منهما، وأما كونك تتوقعين منه أن يفاتحك في أمر الارتباط بك؛ فهذا ما نسأل الله ألا يحدث؛ لأنه في هذه الحالة سيكون عجزا عن إبقاء علاقته بك في إطارها الصحيح، ونتمنى أن يكونَ الأمر مجرد توقع من جانبك ومغالاة في تقدير العلاقة به.
وأما ما يجب تنبيهك إليه؛ فهو ذلك الخلل المنطقي الجلي الذي يظهر لكل من يقرأ قولك في إفادتك:
"قلتم لي: إنكم لا توافقونني عل أن أتخذ قرارا مثل هذا؛ ألا وهو أن يكون ذلك الشخص زوجا لي، ولكنه بصراحة يلمح لي كثيرا.. فهو لديه مشكلة بسيطة مع زوجته، ولكن هذا الإنسان مثقف؛ فأفكاره توافق أفكاري بشكل رهيب، حقا أتمنى لو كانت الدنيا كلها مثله. لنفترض أنه فاتحني بالموضوع فماذا علي أن أفعل، مع أني أتمناه؟".
فأولا: إذا كانت المشكلة بينه وبين زوجته بسيطة فهل هذا يكفي لأن يتزوج بأخرى أصغر منه بما يقارب نصف السنوات التي عاشها من الزمان؟!
وثانيا: كيف سمح لنفسه بأن يشركك في مشكلاته الشخصية؟ فلا ضوابط علاقة الأستاذ الجامعي بتلميذته تسمح له بذلك، ولا ضوابط علاقة المعالج النفسي بمريضته تسمح له بذلك، هل تكلم معك بالفعل واشتكى من مشكلاته أم أنك استنتجت ببديهتك وذكائك اللذين لا نشك فيهما؟! فهناك فرق بين أن يخطئ هو بعرض مشكلاته عليك وأن تستنتجي أنت وجود مشكلات لديه؛ فتسألين فيغير الموضوع.
أما إذا فاتحك وطلب منك الزواج -وهو ما نرجو ألا يحدث- فإنه بذلك يكونُ قد أجرم في حقك؛ لأنك غير مؤهلة أصلا للوصول إلى قرار أولا بحكم طبيعة العلاقة بينكما؛ فهي إما علاقة دراسية أو علاقة علاجية، وهما نوعان من العلاقة يجعلانك تحيطين الطرف الآخر بما يشبه القداسة والتبجيل بما يحرمك من القدرة على الحكم على الشخص بشكل سليم، وهذا ما لا يصلح مناخا للاختيار الحر لشريك الحياة؛ فأنت الآن تعيشين علاقة تحولية Transference Relation، وفضلا عن كل ذلك فإن حالتك الذهنية الآن لا تسمح لك بالحكم الصحيح على الأمور.. لماذا؟ لأنك كالغريق الذي يتعلق بما قد يكون قشا! والقش في حالة الغريق قد يصلح للتعلق، لكنه لا يصلح للوصول إلى بر الأمان.
في النهاية يا بنيتي، أكررُ ما قلته لك سابقا من أن عليك أن تسارعي بعرض نفسك على الطبيب النفسي الأقرب منك، ويفضل كما قلت لك ذلك الطبيب الذي كنت تتابعين معه في الثانوية العامة، وتابعينا بالتطورات .