رهينة المحبسين: صدام الأوهام، وصدمات الحقائق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أود أولا أن أشكر القائمين على هذه الصفحة التي تقدم الكثير في سبيل إنارة دروبنا المظلمة وتساهم في حل مشاكلنا وما أكثرها!! أتوجه بالحديث إلى من أستلهم فكره وأستتبع خطاه الدكتور أحمد عبد الله.
سيدي، أنا فتاة في الحادية والعشرين من العمر، أريد أن أطرح سؤالا ومشكلة، آملة منكم أن تتلطفوا بالرد عليهما...
أما السؤال فهو عن دور الجامعة فلقد كنت أتصور الجامعة قبل التحاقي بها صرحا للعلم والمعرفة والاطلاع والندوات والمحاضرات والنشاطات الثقافية والتوسع العلمي والمعرفي واللقاءات الفكرية، كنت أتصورني سأكون ضمن خلية نحل من العمل والجد والاجتهاد، ولكني لما التحقت بالجامعة لم أجد شيئا من هذا؛ فكل ما نفعله هو نقل ما يقوله المحاضر، لا شيء آخر.
أي أن شيئا لم يختلف عما كانت عليه الحال في مدارسنا الغراء التي تعتمد التلقين أسلوبا في التعليم، وما أعقمه من أسلوب!! حتى بت أكره الجامعة والذهاب إليها لا أدرس ولا أفتح الكتب وعلاماتي صارت متدنية... وقتي أقضيه في المطالعة الخارجية، وهذا ما أظنه، فبعد أن أمسك الكتاب وتنقضي عدة ساعات أعود لنفسي لأجدني لم أنه السطور الأولى من الصفحات الأولى، خلال هذا الوقت يشرد فكري بعيدا إلى عالمي الخاص، أعيش الحياة التي أريد، وأمارس النشاطات التي أرغب.
لست أدري كيف يمكن أن أعود لسيرتي الأولى؛ فأنا كنت دوما من المتفوقات؟ كيف لي أن أجبر نفسي على الدراسة؟ وهل الجامعة هكذا لأني أدرس في كلية علمية مثلا؟ وكان الوضع سيتغير لو درست في كلية أدبية؟ باتت عندي قناعة راسخة أن هذا سيكون شكل حياتي المقبلة بجميع مجالاتها، هذا إن كان فيها مجالات أصلا؛ فأنا لا أعرف غير الجامعة والبيت، لا يوجد مجال للمشاركة في أي أعمال ونشاطات أخرى نظرا للظروف التي نحياها.
ونظرا لكوني أنثى أيضا؛ فكل شيء معنون بكلمة "عيب"، وقت الفراغ هذا مشكلة أو بالأحرى لعنة وحلت بنا، وكيفية قضائه هي أحد الأمور التي تحتاج منا لبذل جهد وعصر دماغ؛ لأنني لا أجد فيما حولي أي سبيل لقضاء وقت الفراغ في أمور نافعة، أظن أن الحياة توقفت هنا حياة باهتة لا لون ولا طعم ولا رائحة لها... هذا هو الشق الأول من السؤال يا سيدي.
أما الشق الثاني فهو أنك إذا تحدثت إلى إنسان غربي وتناقشت معه بالمنطق والعقل وقرعت الحجة بالحجة فإنه يستمع إليك، وقد تصل إلى نتائج مثمرة معه، أما في بلادنا فإنه يكاد يكون من المستحيل أن تناقش أحدا أو تحاوره فضلا عن أن تقنعه بوجهة نظرك؛ حتى إن منطق الأرض كله لن يستطيع أن يقنع أحدا أن الشمس تشرق من الشرق إن كان هو مؤمنا أنها تشرق من الغرب!! أعتقد أن الناس هنا يقدسون أفكارهم وتوجهاتهم.. فهي دائما لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.. أو من أي مكان.. لماذا؟
أما المشكلة يا سيدي فهي أنه جد في حياتي شيء أكره أن أفكر فيه وأخجل من الإتيان على ذكره، ولولا أن الأمر يضايقني كثيرا لما كاشفتكم به، وهو أني بدأت أفكر فيما تسمونه "الجنس" .. وأنا أكره هذا وأمقته، ليس الجنس فأنا أعرف تماما أنه غريزة طبيعية... وأنا لا أستقبحه لذاته.. ولكني أكره التفكير فيه... قرأت عن استرجاز البنات، وعن الشعور المتولد عن ممارسة كهذه، فلست أدري كيف سأقول هذا؛ ففعلتها على سبيل التجريب، فعلتها ليومين أو ثلاثة ولمدد قصيرة لا تتجاوز الدقائق في كل مرة، ولكني لم أجد في هذا الأمر ما يدعو الكثيرات إلى إدمانه.
أنا توقفت ولن أعود لهذا أبدا إن شاء الله تعالى، هناك شيء آخر هو أنني سأتوجه بعواطفي ومشاعري لرجل، ولكني عندما يأتي الأمر لأمور الجنس لا أدري لا أشعر بأني سأخضع لرجل، أي أنني أجد من الأفضل أن يكون الأمر مع فتاة.. أنا لا أعرف أي شيء عن الممارسات نفسها، ولا أريد أن أعرف أيضا، ولكن دائما صورة فتاة هي التي تلوح في الأفق، وأكون أنا الطرف الموجب غالبا، ولكن في أمور المشاعر والعواطف فإن صورة الرجل هي التي تطغى إن لم تكن الوحيدة فهل هذا طبيعي؟ أخشى أن أكون قد آذيت نفسي فيما يتعلق بالغشاء، ولكن المشكلة الكبرى الآن أنني أحتقر ذاتي، وأشعر بالقرف والاشمئزاز من نفسي، شعور بالازدراء لكل شيء قد اجتاح كياني، أشعر أن هذا الأمر أفقدني شيئا ما.. البراءة ربما، أشعر أنني فقدت جزءا مني... شيء بداخلي قد تزعزع لا أدري ما هو؟ التفكير بأنني أقدمت على هذا يجعلني أضع نفسي في خانة أي ساقطة.
سيدي، كنت أود أن أناديك أبي، ولكنك لن تتشرف بابنة مثلي.. سيدي، ما كنت لأثقل عليك، لكنكم في هذه الصفحة ملاذنا الوحيد؛ فأنت تعرف أن من يفترض أن نشكو إليهم هم آخر من يمكن أن نشكو إليهم، وأقصد بهذا الوالدين؛ فالأم في بيوتنا العامرة لا تعدو كونها مدبرة منزل، والأب لا يعدو كونه مربيا، لا أنقص من شأن هذا وذاك، ولكن بالنسبة لي مفهوم التربية أوسع وأشمل، ومن المهم أن يتربى المرء على الوالدية، ثم ينجب أطفالا ليربيهم بعد ذلك.
على كل أرجو منكم عدم نشر رسالتي، لا لشيء إنما؛ لأنه ليس بها ما يمكن أن يفيد أحدا أو يعني أحدا، ولا تحتوي على شيء يستحق من أي قارئ أن يضيع وقته في قراءتها. آسفة جدا على الإطالة وعلى تناثر الأفكار وتشوشها.. آمل أن يتسع لي صدركم.
15/1/2023
رد المستشار
الابنة الكريمة...
أبدأ بأن أسألك الدعاء لي بظاهر الغيب، وكذلك كل من يقرأ هذه السطور، أن تسألوا الله لي ولنا العون حتى ننهض بالأعباء التي تضعها على كواهلنا كلماتكم من قبيل قولك:
"أتوجه بالحديث إلى من أستلهم فكره، وأستتبع خطاه"؛ فاللهم اجعلنا على خطى نبيك صلى الله عليه وسلم، وهو يضع ميراث الجاهلية كله وتقاليدها تحت رجليه، ولا كرامة عنده لخطأ ولا محاباة لباطل، ولو كان في أهله، ولا تبرير لتقصير أو غفلة، ولو صدرت عنه شخصيا ولكنه مع ذلك الرءوف الرحيم، وإن كان لا يخاف في الله أو قوله الحق لومة لائم.
ولأنه -حتى في الجاهلية- لم تكن الملائكة إلا بنات الله بزعمهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وبالتالي فإن البشر إنما يتخذون أبناء من البشر يصيبون ويخطئون آباء وأبناء، فإنني أتشرف بأن تكون لي ابنة في أرض الرباط تصبر وترابط، تخطئ -كما البشر- ولكنها أيضا تتوب، ولا تقنط من رحمة الله، ولا تعلق الأخطاء على شماعة الظروف والضغوط التي تعيشونها عندكم، وقلوبنا معكم في الحل والترحال، في الهدم والتقتيل والتنكيل، في صمت وتواطؤ الغريب، وعجز الأهل والصديق!!!
زارتني أمس فتاة في مثل عمرك تشتكي من بعض ما تشتكين منه، وقد أصل بينكما، وحقيقة الأوضاع في جامعات العالم العربي، وبخاصة تلك التي تقل ميزانية البحث العلمي ومرافق التدريس والتدريب فيها، ولا أقول وإمكانيات الصف التدريسي من أساتذة ومعيدين فيها عن مثيلاتها في بعض بلدان عربية أخرى؛ فما بالك بالجامعات كما هي على حقيقتها حيث التعليم والبحث العلمي هناك في الغرب الذي نلعنه ويتمنى أغلب عقلائنا الهجرة إليه.
كتبنا عن أوضاع جامعاتنا في إجابات سابقة منها: اختلاط وملابس فاضحة: يوميات الزيت والزعتر، والمشاركات التي وصلتنا عليها ، ولا أحب أن أكرر ما قلته من قبل؛ فأرجو أن تعودي إليها، فهي تحمل من الأفكار والمعلومات ومقترحات الحلول ما أحب أن نتناقش فيها مستقبلا، ولك جزيل الشكر لإعادة فتح هذه الملف، بالمناسبة لا فارق هنا بين كلية عملية أو نظرية، فالكل وهمي ومعيوب.
ويبدو أنك بالفعل قارئة جيدة لإجاباتي السابقة أو بعضها؛ لأنك تمرين فوق الأحوال ثم تتوقفين بحساسية وذكاء فوق المواقع الأكثر إيلاما، في أعصابي، وتضغطين ضغطة خفيفة، ولكن كم تؤلمني، وهكذا الحقيقة حين تجتمع مع العجز عن تغييرها!!
لعلك تعرفين حساسيتي تجاه الحبس وتقييد حرية البنات في ممارسة حقهن بالحركة في المجال العام، وحساسيتي في حجب أو مصادرة هذا المجال العام أصلا، بفتوى تشديد من فقهاء الرعب، أو بظلم الصهاينة الذين يجعلون كل جسم متحرك هو بالضرورة هدفا محتملا لبنادقهم، وقصف طائراتهم.
وفي رسالة سابقة على موقع مجانين رَوَتْ لنا إحدى الأخوات من أهلنا في فلسطين عما تسمينه أنت "لعنة وقت الفراغ"، وقالت لنا كيف أن أولادنا وبناتنا هناك إنما يفرون من القتل، وآثار العنف والدماء إلى العري والترفيه التافه ببرامجه "الشبابية" السخيفة -في رأيي- ولكن هذا يبدو للأسف بلا بديل، فالصور التي يتداولها الإعلام العربي، وبخاصة الفضائي منه، إما أنها تحمل عنف الصورة، أو صورة العنف، أو تغرق في متاهات السياسة التي لا طائل من وراء الإغراق فيها ولا عمل ينبني على مناقشاتها غير إيهام الناس أنها تشارك، في نمط فريق من الديمقراطية الدعائية الشكلية!!!
هذا أو العري بأنواعه من أغنيات مصورة أو مسلسلات مدبلجة أو أفلام مترجمة، وما أضيعنا بين العري والعنف، والأمر يحتاج إلى بذل جهد فعلا، وإلى عصر دماغ كما تقولين أنت بحق.
ثم أنت تضغطين على أعصابي العارية بكلماتك التي نهرب منها ومن مواجهة حقائق أوضاعكم حين تقولين:
"أظن أن الحياة توقفت هنا.. حياة باهتة.. لا لون ولا طعم ولا رائحة لها، وكنت قد كتبت مقالا حول هذا المعنى وتوابعه، ووضعت له عنوانا "الشرق الأوسط لا شيء سوى الموت"، والموت هنا بالمعنى الأشمل والأعمق، وليس بمعنى نهاية الحياة بالمعنى البيولوجي فقط.
وأنتهز الفرصة هنا لأقول إن مراجعة الملف الفلسطيني صارت واجبة أكثر من أي وقت مضى، وأعنى هنا بالمراجعة أمرين:
الأول: ما يتعلق بأساليب النضال وتوازنات القوى في الداخل وفي الخارج، وهذه مهمة من يضطلعون بها من أهل الفكر والرأي والسياسة في القوى الفلسطينية المختلفة، ونحن لهم مستشارون، إن أرادوا.
ولكن المستوى الثاني: وهو الذي يهمنا أكثر لأنه يعنينا نحن الذين يحاولون مناصرة فلسطين بالجهد والجهاد المدني، من خارج ميدان المعركة المباشرة بالسلاح؛ فقد آن لنا أن نراجع برامجنا وخطابنا وأسلوب أو أساليب عملنا؛ لأنني أشعر أننا ظلمناكم وخذلناكم، ولم يصلكم من دعمنا -غالبا- إلا الصراخ والولولة، وبعض العون الهزيل ماديا وأدبيا، وأصحاب الحناجر الواسعة فينا دفعوكم لحتفكم، وما زالوا يدعون إلى الجهاد طالما أنتم الضحايا، وهم مستعدون للقتال ولكن حتى آخر فلسطيني وحتى آخر قطرة دم فلسطينية، بينما هم يجلسون في مكاتبهم وقاعاتهم المكيفة، يتقلبون في نعيم العافية، وأنتم في "الجحيم تصطلون"!! المشهد برمته مؤسف ومخز، ويحتاج إلى مراجعة لأزمة طال انتظارها.
أما الشق الثاني كما تسمينه فطالما أنك رهينة المحبسين، الأنوثة وقيودها، والأوضاع الراهنة عندكم ومقتضياتها، وطالما أنك تعانين مثل الآخرين من الفراغ فمن الطبيعي مع ضيق الأفق العملي للحركة أمامك أن تنكفئ مثيلاتك على أجسادهن للاستكشاف فضولا وتجريبا، وبالمناسبة فإنني أدعو القارئات العزيزات ممن لم يمارسن الاسترجاز ألا يفعلن ذلك أبدا على الأقل حتى لا يقعن فريسة لمشاعر الألم والندم الفاتك مثلك الآن، ولمن تمارسه مضطرة أن تتخفف منه تدريجيا، وبقدر الإمكان حتى يرزقها الله قضاء الوطر بالحلال الطبيعي الإنساني، اللهم آمين.
وطالما معرفتك بالجنس ضعيفة من حيث المعلومات، وخبرتك الاجتماعية في الاحتكاك العادي العام بالرجل هي شبه منعدمة، أو متعثرة كما هو متوقع في مثل ظروف نشأتك ومجتمعك، فكيف تتوقعين أن تكون رغبتك سليمة؟!! أو مخيلتك الجنسية صحية ومتوازنة، الرغبة الطبيعية تنشأ في الظروف الطبيعية التي هي مفتقدة للآسف في حالتك مثل كثيرات، وليس معنى وجود بعض الصور المختلة في خيالك الجنسي أنك قد أصبحت شاذة جنسيا، وبالمناسبة فإن هذا وهم أكتشف أنا يوما بعد يوم أنه يعشش في رءوس الكثيرات!!
بل أزيدك بأنني ومن خلال حوار إلكتروني مؤخرا مع فتاة جامعية جاءت تنشد العلاج من الشذوذ، وهي طوال الوقت تحسب نفسها "سحاقية" وتتألم لهذا أحيانا، وأحيانا أخرى تتساءل عن موقفي منها، ومن قبولها كإنسانة، ومن مرضها وهل هو ممكن العلاج؟!!
وفي الحقيقة أن كل هذه الأسئلة ليست هي الأهم؛ لأن واقع هذه الفتاة مثل غيرها كثيرات لم يتح لها النشأة السليمة، والنضج أو النمو الجنسي الصحي، فتنشأ الرغبة الطبيعية بشكل طبيعي، وهنيئا لنا بأصحاب العقول المتحجرة، وأنصار الكبت والتخلف باسم الدين، وهنيئا للعيادات النفسية بملايين المكتئبات من النساء العربيات في ظل أوضاع أسرية وجنسية ونفسية مختلة، وهنيئا لشركات الأدوية كذلك بتنشيط منتجاتها وتوسيع أسواقها!!
لا يوجد مبرر لكل هذا الشعور بما تسمينه سقوطا أو قرفا أو اشمئزازا، فما أنت إلا ضحية قبل أن تكوني مجرمة أو تحاسبي نفسك على أنك شيطانة، فقط لا تعودي للعبث بنفسك أبدا، والتأكد من سلامة الغشاء يلزمه المناظرة الإكلينيكية، وقد تحدثنا عن هذا من قبل مرارا وتكرارا، وطالما كان عبثك واسترجازك خارجيا فلا خوف على الغشاء.
وهذا الشعور إنما هو نتيجة طبيعية لأوضاعك كلها من حيث نقص المعلومات والشعور بالاختناق واللاجدوى واللامعنى، وهي من أعراض الاكتئاب الذي قد يصل لدرجة لا تتعدل إلا بتعاطي العقاقير اللازمة، وأنا لا أهدف هنا إلى تبرير أي خطأ، ولكن التوازن في النظر إلى الذات هام لاستكمال السير، ومواصلة الجهد الذي تحتاجينه ونحتاجه، ولكن الشيطان يسعى بالتلبيس على المؤمن ليقعده عن البذل والجهاد بدعاوى وفخاخ من قبيل مشاعرك وصورتك السلبية عن ذاتك، فانتبهي له، وتوبي، وعودي إلى جهادك.
وقبل أن تغادري مودعة لم تنسي أن تضغطي الضغطة الأخيرة حين تصرحين بقسوة إحدى حقائق حياتنا حين تقولين بحق: "تعرف أن من يفترض أن نشكو إليهم هم آخر من يمكن أن نشكو إليهم.. فالأم.. والأب" ..إلخ، وهكذا إذن كانت رسالتك تصفين فيها حروفا من لحم ودم وأعصاب، فتصلني وأرد محاولا أن أكون بنفس الصدق والقرب لحما ودما وأعصابا.
هكذا الكتابة عندي، وهكذا أحب أن تكون ابنتي.. فهل تقبلين؟!!