إخوتي في فريق استشارات مجانين.. السلام عليكم ورحمة الله
أكتب إليكم اليوم وأنا أدلف إلى واحتكم هذه كل يوم، إما لقصد الاسترواح أو الاستشفاء، وإما لكسب شيء من التفكير الإيجابي الهادف، وللحقيقة لم أخرج منها يومًا دون أن أستفيد أو أستزيد.. فجزاكم الله كل الخير عن كل نفس أخذتم بيدها إلى طريق النجاة.
من أول مطالعاتي لصفحة "استشارات" كنت موقنا أن يوما سيأتي وأكتب فيه إليكم، لكني الآن لا أود أن أكتب إليكم متسائلا، وإنما مشاركا ومعقبا على مشاركة الأخت رغدة (الأردنية) التي اخترتم لها عنوان: "اعترافات فتاة حول "هواجس الحب والنقاب"، ولعل مشاركتي تكون بمثابة "اعترافات شاب حول هواجس الحب والنقاب".
ما أعجبني في مشاركة الأخت الفاضلة ذلك العقل الراجح الذي يزين كلماتها، ولكم والله وقفت كثيرا أتأمل بعض فقراتها. وأنا كشاب لا أستطيع أن أرد ما ذكرته الأخت في مشاركتها حول هاجس الحب والعاطفة الغضة؛ لأن واقع الشباب من الجنسين يكاد يكون واحداً في كل عالمنا العربي. وحديثها عن حاجة الفتاة إلى من يحبها كجسد وكيان أعادني بالذكرى إلى فيلم أمريكي عنوانه (beautiful mind) أي (عقل جميل) وهو فيلم رومانسي يصور حياة عالم الرياضيات الشهير "جون ناش" .. حيث يقوم أساس الفيلم الجمالي على العقل لينطلق منه إلى الحب.
وقد استوقفني في مشاركة الأخت الفاضلة قولها على لسان الصارخ الذي يحاصر الفتيات "أين من يصف جمالك؟ أين من يتوه بنظراتك ويعبرها ألف تعبير؟ أين من يراك شيئا عظيما ولو استصغرك الناس؟"؛ فأجد نفسي لا أعترض على حاجة الفتاة النفسية لمن يهيم بها وبجمالها، لكني أعتقد أن الاختلاف يكون في نمط الجمال، فللأسف قد فرض علينا جو الحياة الحديثة التي نعيشها اليوم، نمطًا واحدًا من الجمال لإقناعنا به فقط، وهو ما اعتاد أن يشير إليه أساتذتنا (الدكتور أحمد عبد الله، والدكتور وائل أبو هندي) بـ "الأيزو".. فأصبحت كثير من الفتيات لا تشعر بأنها لا يمكن أن تُحب أو يشير أحد إلى جمالها إلا إذا كانت مثل فتيات الأفلام والأغاني والمسلسلات والإعلانات؛ فصار وكأن نمط الفتاة المثيرة الجسد هو فقط الذي يجذب قلوب الرجال.
وأظنأن هذا الاتجاه غير صحيح، ولن يدفع بالفتاة إلا في واديين كلاهما مهلكين: إما تقليد هذا النمط بالفعل، والوقوع في براثن المحرمات، وإما التلهف والشوق المستمر الذي لا يفتر إلى تقليد هذا النمط.. وكفى بهذا الوادي رهقًا للنفس وخاصة النفس الطاهرة.
وأقول: إن الفتاة ستريح نفسها كثيرًا لو نظرت إلى جوهرها بصدق، فإن جمالها الداخلي سيتبدى من خلال سلوكها في محيطها العام والخاص، ولن تعدم الفتاة -والمتدينات بشكل خاص- بشاب يهيم شوقًا بفتاة يكسوها جمال باهر من روحها بغض النظر عن جمالها الخارجي.
وكما يقولون: الحب مذاهب فإن الجمال أيضا مذاهب، والفتاة التي لا يعجب بها شاب لجمال وجهها أو قوامها، بل ستجد من يهيم بجمال روحها الطيبة أو المرحة أو رزانتها وفطنتها.وأنا متأكد من أن الشاب الذي يعجب بفتاة لصفاتها فإن نفسه لن تريه تلك الفتاة -وإن كانت قبيحة الشكل- إلا أجمل فتاة رآها في الدنيا.. وحينها ستجد صاحبة المشاركة وصويحباتها من "يصف جمالها ومن يتوه بنظراتها ويعبرها ألف تعبير".
وحتى لا يتهمني البعض بالمثالية، فإن الأخت صاحبة المشاركة لو كانت من نفس بلدي، لما تهاونت في البحث عن طريقة شرعية تمكنني من معرفة إمكانية الارتباط بها على سنة الله ورسوله؛ لأني أعتبرها الفتاة المرغوبة فعلا، والتي ستجد الكثيرين غيري يهيمون بها وبأمثالها. لكن المهم الآن هو أن تحاول الفتيات الإفلات من كف الأشواق الضاغطة لمجرد السراب "المتسربل" بالحضارة.
وهناأجيب على قول صاحبة المشاركة "كل مصيبة في الحياة تكون كبيرة جدا إذا لم يكن هناك قلب (خفاق) يحتملها معنا. وكل داهية تصبح صغيرة جدا إن مزجت دمعتنا بدمعة صادقة حنون. في حياة كل منا إحباطات تكفيه، قد تكون قاتلة له إن تلقاها وحده، وقد تكون داعمة ومشجعة للمضي قدما إن كان هناك من يحتملها معه". وهاأنذا أقول لك إن قلوبنا لا تزال تخفق لأمثالك من التقيات المحاصرات بين "أثقال الواقع وآفاق التدين" .. ولن نبحث من دونهن -بإذن الله- عن زوجة المستقبل.
وختاما.. أشكر لموقع مجانين ولفريق (استشارات مجانين).. هذا الجهد الجبار الذي يبذلونه في سبيل الله من أجل راحة الناس وسعادتهم..
لكم شكري وودي.
31/1/2023
رد المستشار
الابن العزيز أهلا وسهلا بك على صفحة "استشارات مجانين" ابنتنا صاحبة مشاركة "اعترافات فتاة حول هواجس الحب والنقاب" أثرت بحجتها وسلامة تفكيرها فيّ وفي كل من قرأها، ولا أنسى كيف قدم لي محرر الصفحة مشاركتها على المشكلة الأصلية التي كانت تحت عنوان "هواجس حول الحب والنقاب" أثناء اجتماعنا الأسبوعي قائلا: جاءت مشاركة أروع من رائعة في مشكلة "هواجس حول الحب والنقاب". ولعل في قراءتك لمشكلتها ما يبين لك كثيرا من المشكلات التي يعاني منها بعض الملتزمين والملتزمات، وما يجيب أيضا على تساؤلاتك ويعرفك أكثر بوضعها الاجتماعي.
أما كلامك عن فلسفة الجمال Aesthetics فإنني أراه كلاما ناضجا إلى حد بعيد فالاختلاف فعلا في نمط الجمال، ولو أننا وعينا كلام سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله لا ينظرُ إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم" صدق رسول الله عليه الصلاةُ والسلام أخرجه مسلم في صحيحه، لعرفنا أن ربط الجمال بالحضور الخارجي للجسد خطأ معرفي شعوري نقع فيه كلنا كبشر، وهذا الخطأ المعرفي يصبح أمضى وأقسى في ظل ثقافة الصورة التي نعيشها والتي يتكرر فيها نموذج واحد أصفه ويصفه كثيرون من المنصفين بأنه غير إنساني.
والحقيقة أن كثيرين وكثيرات دون وعي منهم اتخذوا من الصورة النموذج الوحيد للجمال معيارا، ولم يستوعبوا أن التنوع سنة الحياة، وأنه ليس هناك شكل واحد أبدًا لجمال الجسد البشري؛ لأن الجسد البشري غالبا ما يصحبه الحضور البشري كله والحضور البشري الجميل يحضر الجمال معه، جسدًا وروحًا، فتصبح خبرة الحاضر مع صاحب الحضور الجميل خبرة جميلة، وقد نصحت واحدة من بناتي كانت تعاني من هاجس البدانة بعد الزواج قائلا: أسألك أن تنظري للمرآة في لحظات شعورك بالرضا عن نفسك، وتأكدي بنفسك كيف تبدين أجمل، فليس هناك ما يضفي جمالا على حضور الكائن البشري أعمق وأشمل من شعوره بالرضا عن نفسه.
وأحسب أن ما هو أعمق من ذلك في ثقافتنا نحن التي لم تكن أبدًا ثقافة تهتم بالشكل على حساب المضمون لكنها الآن كذلك بامتيازٍ مع الأسى والخجل!، ما هو أعمق من ذلك هو ما تساءلنا بشأنه في مقالنا "هل اتخاذ الصورة معيارا شرك؟" حين أوردنا حَديث عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَفِى عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ "يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ". وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في سُورَةِ بَرَاءَةَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إذا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ". صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أخرى عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ. قَالَ: "أَجَلْ وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَسْتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَهُ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ"، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقلت في نفس المقال: هذا هو ما تفعله الصورة اليوم وسمحنا لها بذلك، ودون أن ندري أصبحت الصور تحدد لنا ما هو الجميل وما هو القبيح وأصبحنا نحاول تطويع خلق الله الذي ائتمننا عليه وهو الجسد، لصورة صنعها البشر وهي بمثابة الفخ السحيق! فهل أصبحنا نعبد الصورة؟
أشكرك على مشاركتك القيمة وأنتظر منك مزيدًا من المشاركات فأهلا بك دائمًا.