سؤال واحد
ماذا تعني فلسطين للأمة العربية؟
لماذا هذا الصمت؟
22/6/2023
رد المستشار
لا نجيب عادة عن الأسئلة العابرة المختصرة، ولكن سؤالك هو المختصر المفيد.
فلسطين هي المرآة التي نرى فيها حقيقتنا التي نتغافل عنها أو نراوغ هربًا منها، فإذا بها تكشفنا أمام أنفسنا، وأمام العالم.. فلسطين هي خلاصة قصتنا، ومحصلة وضعنا، والنتيجة النهائية لأعمالنا جميعًا شعوبًا وحكومات.
فلسطين هي الخنجر المغروس بين أضلاعنا منذ ما يزيد على نصف قرن من النكبة إلى النكسة، وهي حاليًا مصدر فخرنا وعزنا؛ لأن أهلها يسطرون بدمائهم الزكية ـ نيابة عنا جميعًا ـ أن هذه الأمة لم تمت كما يتصور الكارهون والمتربصون، والنائمون أو المستسلمون.
فلسطين هي هذا وأكثر.. هي وسام الشهادة، وإكليل الشوك، وهي الثغر المفتوح ـ إلى أن يشاء الله ـ على خيار المؤمنين المجاهدين النصر أو الشهادة.
ودعنا نتحدث اليوم عن النصر وسبله؛ لأن أغلبية العرب والمسلمين، وكل مناصري الحق والعدل والحرية مسدودة أمامهم "تقريبًا" سبل الشهادة.
يا أخي، عن أي "صمت" تتحدث، وملايين الشباب والفتيات من القاهرة إلى جاكرتا يحلمون بالشهادة عند حائط البراق، وأسمى أمانيهم أن تراق دماؤهم في ساحة الأقصى الشريف، وهم يتمنون لو كانت قلوبهم وعيونهم وأجسادهم من أحجار أرض فلسطين، حتى يقذف بها الأطفال والشبان أبالسة العصر، وأعداء الإنسانية، النازيون الجدد من شذاذ الآفاق الذين لم يجدوا غير أرضنا يُخرجون أهلها منها، ثم يكذبون عن أرض بلا شعب!!
لقد صرخ المسلمون والعرب، وكل عاقل لم يخدعه الزيف والبهتان عندما ثارت انتفاضة الأقصى... سارت المظاهرات العارمة، وتنوعت أشكال التعبير من جمع المساعدات، إلى تكوين اللجان الداعمة والمناصرة، إلى محاولة تقديم كافة أشكال العون، والتضامن، فهل هذا هو نهاية المطاف، وغاية المراد؟!.
بالطبع لا، والجهد الذي بدأ قويًا ثم تآكل بعد ذلك يحتاج إلى تقويم، وإعادة تنشيط، وتطوير في الوسائل والأساليب، فلا المظاهرات هي السبيل الأكثر إنتاجًا وفاعلية، ولا المقاطعة بالشكل الحالي هي البرنامج الأكثر تأثيرًا على الخصم.
أضف إلى ذلك مجموعة من الأساطير المعوقة لحركة دعم الانتفاضة، ومنها القول بأن العالم كله يلتزم الصمت على ما يجري، ومنها القول بأن المجتمع الإسرائيلي على قلب رجل واحد، ولا يمكن اختراقه، والتأثير على بعض أطرافه بلغة المصالح، ومنها أن الحرب النظامية هي خيار مطروح في حسابات أي طرف، أو القول بأن أهلنا في فلسطين سيظلون مشتعلين بالغضب والرفض والمقاومة ـ دون تقديم الدعم المطلوب ـ إلى ما لا نهاية، وكأنهم ملائكة لا يحتاجون إلى طعام وشراب ومساندة يومية مباشرة، وحملة دعاية عالمية داعمة... إلخ.
وكأن أعداءنا ليسوا بشرًا يمكن هزيمتهم في بعض المعارك الجزئية حتى يأتي يوم الفصل والملحمة!!!.
الصمت الذي تتحدث عنه ليس جهلاً أو تجاهلاً، أو غفلة أو تغافلاً، إنه صمت التردد والحيرة بعد أن ذهبت السكرة، وغمرة الانفعال سريع الاشتعال، وبقيت الفكرة، وأسئلة تطوير الجهاد والنضال، وتطوير أساليب المواجهة والدعم.
نحتاج بجانب القلوب النابضة الدافئة الحية إلى عقول باردة، وأنفاس طويلة مستعدة لرسم خطط، وخوض معارك استنزاف من بيت إلى بيت، ومن قطر إلى قطر، وفي حين يلتحم أهلنا مباشرةً مع جنود العدو في الميدان نحتاج نحن إلى أن ننصب في كل شبر من المعمورة ميدانا للسجال والملاحقة لغطرسة القوة، ومنطق الظلم والتزييف، إنها معركة أمة قد تكون أظافرها منزوعة، وأنيابها مخلوعة، ولكنها ما زالت تملك اليد والعقل واللسان، والفكر وأساليب الضغط المتنوعة، والحديث في هذا يطول.
إذا استطعنا أن نجتهد كما فعل من قبل إخواننا في جنوب أفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري ـ الأبارتهيد ـ واستمرت نضالاتهم بضعة عقود حتى انتزعوا حريتهم مضرجة بالدماء، ولكن عزيزة غالية.
إذا استطعنا أن نتحول إلى أمة مجاهدة بهذا المعنى العميق والواسع الذي يتجاوز ترديد الفكرة الخيالية بأن الكل يريد أن يمكن أن تكون وسيلته البندقية.
إذا استطعنا أن نستلهم الانتفاضة نموذجًا لحياة مختلفة من المحيط إلى الخليج؛ فنكف عن الكسل العقلي، والجمود الاجتماعي، واليأس النفساني الذي نغرق فيه منذ سنين.
إذا تحولت اللحظة الراهنة إلى نفحة جديدة تسري في الأرواح والأفئدة فيحمل البعض خيمته على عاتقه لا يضعها إلا منتصرًا أو شهيدًا، وينفر آخرون في سبيل الله كل في درب من دروب الحياة جهادًا في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا.
نحن محتاجون إلى فلسطين بأكثر مما تحتاجنا هي، ونحن ندين للانتفاضة بأنها أعطت لنا طعمًا ولونًا، وأتاحت أمامنا فرصة لنكون شيئًا مذكورًا له معنى وجدوى وهوية.
وهذه نسمات ليالي يوليو، ولفحات نهاره تجدد الاختيار، فإما أن يكون صيفنا هو صيف الشجعان... بداية لمرحلة من النضال جديدة، أو يكون صمتنا هو صمت الحملان التي تُذبح قربانًا للنظام العالمي، واختلال موازينه، أو تحرق في أتون الهولوكست الجديد على أيدي أحفاد القردة والخنازير.