خطة عسكرية ضد الهموم
السلام عليكم
ردًّا على الأخ صاحب مشكلة "خطة عسكرية.. ضد الهموم"، يا سيدي أنت لست وحدك، أنا فتاة والحمد لله متدينة حفظت نفسي أمام الله وأمام نفسي إلى أن بعث لي الله بنصيبي الذي كان خطيبي.
صدقني يا سيدي وتصور معي مخزون سنين من المشاعر حفظتها لمن كنت أظن أنه سيقدر فأحببته بكل نفسي حتى كانت "كلمة وحياتي منه" العصا السحرية لتفتح له الأبواب المغلقة وتلبي كل رغباته مهما كانت صعبة، وأنا لم أخف مشاعري عنه كي لا يكون هناك عذر إذا حرمني من مشاعره، وكأني كنت أعرف ما سيكون؛ فقلت له إنه خطيبي وسيكون زوجي وكل دنيتي، وإنني لم أحبه لأنه سيكون كذلك ولا لمجرد أنه خطيبي، ولكن لأن فيه كل ما أحبه.
صدقني إنه لم يكن يفارقني أبدا في عقلي رغم سفره الدائم وغيابه عني وحرماني منه كفتاة شابة تريد أن تفرح بخطيبها الذي هو كل دنيتها، لكنني اكتفيت بسماع صوته عبر الهاتف وبعض الكلمات الطيبة من حين لآخر مقابل الكثير والكثير مني.
أقسم إنني رأيت ليالي حالكة السواد كادت فيها أنفاسي أن تتوقف كلما شعرت بشحه في مشاعره مقابل هذا السيل مني أنا، لقد كان بالنسبة لي أنفاسي وأحلامي وكل حياتي، بنيت على حياتي معه كل شيء فتركت عملي وأصدقائي وكل شيء لأتفرغ لتعلم الطهي، وبدأت أطلع على كل ما يخص الحياة الزوجية من كل جوانبها، أصبحت أحب القراءة أكثر وأكثر كي يتفتح عقلي وأكون كما يحب؛ لأنني كنت أعيش له وبه، فلا يشغلني شيء في الحياة إلا هل هو سعيد؟ هل أعطيه كل ما يتمنى وكل ما يريد؟
وفجأة ووسط هذه الأحلام الوردية ظهر شبح الماديات وترتيبات الزواج؛ ولأنه كان جارنا فلم يقم أهلي بالسؤال عنه؛ لأننا نعرف أهله بل وعائلته كلها ونسمع عنهم كل خير إلا شيئا واحدا البخل، نعم البخل، هذا الشيء البغيض الذي هدم أحلامي وأضاعني، فكنا كلما أحضرنا شيئا من محتويات الشقة اعتبرته والدته غاليا، رغم تنازل أبي منذ البداية حتى إنه لم يكتب عليه قائمة المنقولات ورفض تماما قائلا: أنت كابني كيف أكتب قائمة ولا مهرا ولا مؤخرا، حتى المبلغ الذي حددوه للشبكة قام أبي بتخفيضه مراعاة له، حتى قامت والدته بما قصم ظهر البعير عندما ذهبنا لإحضار الشبكة، وادعت هناك أنها بأقل ما اتفقنا عليه، بمعنى أنهم قالوا بستة آلاف فقال أبي يكفي خمسة، وعند الشراء قالوا كان الاتفاق على أربعة فقط.
وهكذا في كل الأمور حتى انتبهنا أن هناك شيئا ما في نفوسهم وأنهم بلغتنا "مش شرينا"، حتى الشقة المتواضعة التي قال إنها ملك لزوج أخته ولن يدفع مقدما وظل يحكي على تسهيلاتها فقبلنا بها مؤقتا حتى تتحسن ظروفنا بعد الزواج، فإذا بنا نعرف من الغرباء أنه دفع مقدما لها بل وينوي شراءها، كل شيء فيه كذب كل شيء لم يكن حقيقيا.. لقد بنيت أحلامي على شخص لم يكن رجلا أبدا ولا رأي له؛ فكل ما تقوله والدته مطاع وكل ما تنهاه عنه لا يكون؛ فلا نقاش ولا أي شيء، هو ينفذ فقط.
ولك أن تعرف النتيجة فقد غاب صوته عني وغابت دبلته عن أصابعي ووجدت نفسي فجأة بدونه، ولك أن تتخيل، فكأس المرار التي شربتها أنت، تجرعتها أنا دفعة واحدة؛ حتى إنني كنت أكره نور الصباح كل يوم جديد يأتي بدونه.. يوم جديد بدونه يا للوعتي وهمي وحزني، فلم يكن هناك أبدا ما يشفع لي عنده أن يتمسك بي، هل كنت بلا ثمن إلى هذا الحد، هل مشاعري هي التي رخصت ثمني أم تنازلات أبي قد فهمت خطأ فظنوا أن بي عيبا ما جعلهم يفعلون بي ما فعلوا، يا لعذابي ولتساؤلاتي التي لا مجيب لها.
وأكثر ما آلمني أن كل من حولي يتعجبون؛ لأن فترة الخطوبة لم تطل ولا يشعرون بي أبدا ولا يفهمونني، فحقا لا يعرف المشكلة إلا صاحبها أو من مثله، لكن دائما من يضعون أيديهم في الماء كلامهم سهل ونصائحهم جاهزة وسهلة التنفيذ بالنسبة لهم، فتجد منهم من يقول لك "وإيه يعني ما تنسى" كأنك تملك النسيان بضغطة إصبع، فلا يتخيلون أبدا حجم مأساتك؛ حتى إنني أصبحت أقف أمام المرآة أدقق في ملامحي وأتساءل هل أنا دميمة؟ وهل وهل، ولا إجابة... وجدت نفسي وحدي رغم من حولي؛ لأنه كان دنيتي فغابت معه دنيتي، وغبت أنا عن هذا العالم، لكنني الآن لست حزينة عليه بل حزينة فعلا لأجله، ومثل ما قلت أنت يا للأسف لم يعرف ماذا كنت أخفي له، هو اختار ولست أنا وليتحمل مسؤولية قراره.
نعم يا سيدي.. هم قد اختاروا فلا داعي أن نحزن لأجلهم، فنحن ضحايا لهم وهم ضحايا لعقولهم المريضة، لكن رغم كل شيء فإن هذا جعلني أقترب من الله فكانت هذه الحسنة الوحيدة التي فعلها بي فلا تمر لحظة أنسى فيها ذكر الله، ولا تمر صلاة إلا وأدعو الله أن يأخذ لي بثأري ممن خدعوني، فيا ألله أرني ثأري فيمن ظلمني، وقر بذلك عيني، وحسبي الله ونعم الوكيل، لا ينسى الله عباده أبدا، ولا يرد دعوة مظلوم أبدا؛ فهو وحده يعلم ما في قلوبنا، لا تنتظر كلمة تطيب خاطرك من صديق أو قريب، اقرأ في كتاب الله يهتدي قلبك، واترك دموعك تشكو لله سبحانه كاشف الغم.
سيدي.. لا تلقي العتاب علينا -نحن الفتيات- ونحن لا نلقي عليكم اللوم -أنتم الفتيان-، لكنه القدر وظروف المعيشة الصعبة والناس الذين لا يرحمون، الجأ إلى الله فهو منقذك ولا إله إلا هو سبحانه، وثق أن من ظلمك ليس ببعيد عن انتقام الله، قال تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"، وقال تعالى: "إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ"،
فلا تنس الدعاء لك ولنا وليعيننا وإياك على الهم إن شاء الله،
ولا تنسونا من دعائكم.
13/2/2023
رد المستشار
لا أحد يمتلك النسيان "بضغطة إصبع" يا ابنتي... ولكن كلما كان الإنسان "متوازنًا ومعتدلا" في أفكاره ومشاعره كان قادرًا على تجاوز أزماته، في حين أنه كلما كان "متطرفًا" أو "مندفعًا" كان أقل قدرة على السيطرة على أحزانه وآلامه، وكان أكثر عرضة للفشل في علاقاته الإنسانية عمومًا، إلا إذا حاول من جديد أن يعيد ترتيب الأمور ليضعها في مكانها وحجمها المناسبين.. وهذا هو ما ذكرناه لأخينا الكريم -صاحب المشكلة- ونؤكده لك أنت أيضًا.
ودعيني أعتبر أننا قد أصبحنا أصدقاء -بعد السطور القليلة السابقة- لذلك اسمحي لي من باب الصداقة والعشم، أن أقول لك يا ابنتي: يبدو أنك متطرفة ومندفعة!!
أنت قد بالغت وتطرفت في كل شيء تقريبا يا ابنتي:
* أنت تطرفت في "حبك" لهذا الشاب.. تقولين "هو بالنسبة لي أنفاسي وأحلامي" ـ "لا يشغلني شيء في الحياة إلا هل هو سعيد" ـ "لم يفارقني في عقلي أبدًا".
* ونتيجة لهذا التطرف الأول في الحب جاء التطرف الثاني في "الحزن" عند الفراق.. تقولين "كنت أكره نور الصباح كل يوم جديد يأتي بدونه" ـ "لأنه كان دنيتي، فغابت معه دنيتي".
• ثم نتيجة هذا وذاك جاء التطرف الثالث في الغضب منه تقولين "نحن ضحايا لهم، وهم ضحايا لتقولهم المريضة" ـ لا صلاة إلا وأدعو الله أن يأخذ لي بثأري!! تطرف في الحب والحزن والغضب!!
أنا أعلم أن هذا التطرف والاندفاع والمبالغة لم تصدر عنك بإرادتك، وإنما كانت تلقائية ولا إرادية ربما لطبيعتك العاطفية الرومانسية، أو ربما لسنك التي لم تتجاوز العشرين، كما وضحت في بياناتك، أو ربما لأن هذه هي التجربة الأولى لك مع الجنس الآخر، ولأن هذا هو الفارس الأول الذي يدخل حياتك العذرية المتعطشة للحب.
على أية حال، فإن هذا "التطرف" مهما كانت دوافعه بريئة ونبيلة فهو يحتاج إلى ضبط وترشيد، وأول خطوة لتحقيق ذلك هي ألا تنظري إلى هذا التطرف في المشاعر على أنه ميزة عظيمة، وألا تعتبري نفسك ضحية أو أن كل من لا يقدر طبيعتك تلك هو جانٍ وظالم!!
أنا لا أدعوك لقتل مشاعرك، فما أجمل أن تكون الأنثى رومانسية عطوفة محبة، ولكن ما أدعوك إليه هو "ترشيد" هذه المشاعر وضبطها.. ينبغي ألا يكون أي شخص -مهما كان- هو وحده أنفاسك وأحلامك، ولم يقل شرع أو دين أبدًا إن الزوجة الوفية هي التي تترك كل شيء لتتفرغ لتعلم الطهي!!
الزوجة لا بد أن تحافظ على نفسها حتى تستطيع الحفاظ على بيتها وزوجها وأولادها. وأقصد بحفاظها على نفسها أن تقوي بناءها الداخلي، وأن تكون شخصيتها متماسكة ومتوازنة، وأن تكون تصورًا ناضجًا لحياتها، وذاتها وأهدافها.. ويأتي بيتها ليكون في قلب هذا البناء ويحتل فيه المكان اللائق العظيم.
التوسط والاعتدال زينة كل شيء، ونحن لنا في الحياة أدوار متعددة ينبغي أن نوازن بينها جميعا دون إفراط أو تفريط.
أختم كلامي بكلمة أخيرة:
إن كنت أرفض الاندفاع في الحب والحزن والغضب، فإن هناك اندفاعا رابعا رفضي له أشد، وهو: الاندفاع نحو الله تعالى هربا من الحياة ومن الناس!!
فإن الإنسان سيظل في حاجة للحب البشري دومًا، وسينتظر هذا الحب من هؤلاء البشر -أمثاله- الذين قد يعطون أو يبخلون، وقد يصيبون أو يخطئون، ويظل يبحث عن هذا الحب البشري والعلاقات الإنسانية بكل مميزاته أو عيوبها، بكل أفراحها أو أحزانها؛ لأنه بشر ولا يستطيع الحياة السوية بغير هذا الحب.. وهذا لا يتعارض أبدًا مع قربه دومًا من الله، يفر إليه في السراء والضراء، ويلجأ إليه لجوء العبد لربه القريب المجيب، ويحتاج إلى عطائه الإلهي الدائم الفياض الذي لا يشوبه بخل أو خطأ أن نسيان. لذلك فإنا لا أريد نصيحتك لصديقنا حيث تقولين:
"لا تنتظر كلمة تطيب خاطرك من صديق أو قريب، اقرأ في كتاب الله يهتدي قلبك"، بل أقول له:
"ابحث دومًا عن الصديق والقريب، وانتظر منه الكلمة التي تطيب خاطرك، قد تأتي حينا ولا تأتي حينا آخر.. وهذه هي الحياة.. وهؤلاء هم البشر.. وهذا هو الحب الإنساني الذي لا نستطيع العيش بدونه رغم نقائضه.. وفي الوقت نفسه اقرأ في كتاب الله في السراء والضراء يهتدي قلبك".
أختنا الكريمة، أشكرك على مشاركتك، وأهلا بك.