بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد.. إلى الأستاذ الفاضل أحمد، والأب الروحي بالنسبة لي، قد تذكرني أو ربما لا تذكرني، كانت لدي مشاركتان في صفحتكم العزيزة هما "نحبها وتكرهنا : فلسطين.. آمال وآلام" "لم تعد تكرهنا: فلسطين.. حديث الساعة" بحيث كنت أكتب لكم عن شعوري ومشاكلي، بالنسبة لفلسطين ما الذي حدث في هذه السنة التي لم أكتب فيها لكم.
حدثت الكثير من الأمور التي غيرت حياتي وكانت رعاية الله عز وجل لي أولا وصفحتكم هي من أسباب هذا التغير المفاجئ لحياتي؛ لذلك قررت الكتابة لكم. تركت دراستي في هذه الفترة لسببين: الأول هو أنني التزمت بالنقاب، وكنت أجد الكثير من الإذلال على الحواجز العسكرية، ناهيك عن الخوف والرعب الكبير الذي أشعر به أو القلق الذي يعانيه أهلي علي خوفا على حياتي.
السبب الآخر أن الظروف الاقتصادية لم تعد تسمح كالسابق بإكمال دراستي؛ حيث إنني لا أريد أن أثقل على والدي بهذا الأمر؛ لأنه يعاني حاليا من الأوضاع الاقتصادية الصعبة. وأيضا لرغبتي بإفساح المجال لأخوي الاثنين بإكمال دراستهما بالجامعة؛ لأني على يقين أنهما بحاجة للعمل والوظيفة أكثر مني بالمستقبل؛ لأن المسؤولية أكبر عليهما. وأصبحت وحيدة في البيت، ولك أن تتخيل الوضع؛ فتاة اعتادت على النشاط الاجتماعي وأصبحت أسيرة أربعة جدران، لا أدري ماذا أفعل أو من أين أبدأ، كانت أياما واجهت فيها نفسي، وأتاحت لي هذه الوحدة التعرف على نفسي أكثر وأكثر، وكانت صفحتكم بمثابة أنيس لي، حيث كنت أطلع عليها متى أتاحت لي الفرصة ذلك، وأجد متعة في قراءتها، وأجد نفسي أحاول أن أجد الحلول معكم أو أضحك على مشكلة معينة أو أحزن على صاحب مشكلة أخرى.
ساعدتني كثيرا صفحتكم في التغلب على كثير من المشاكل التي أعانيها سواء كانت بالمنزل أو بخارجه. لنرجع الآن إلى الوحدة التي كنت أمر بها فلا دراسة ولا جامعة ولا اختلاط بالناس لم يعجبني هذا الحال، خصوصا أني بدأت أشعر أنني تغيرت أصبحت أكثر صمتا وحزنا وكآبة، أقبل على النوم أو على الأكل ودماغي برأسي يشتعل من التفكير، وهو يردد ماذا بعد يا فتاة، كان المستقبل المجهول يرعبني، لم أيأس، حاولت أن أفعل شيئا لأسلي به وحدتي، حاولت التفكير بأن أقوم ببعض النشاطات التطوعية، لم أستطع، كان النقاب هو جوهر القضية، أهلي يخافون أن أتعرض لمشاكل بسببه فتركت التفكير بهذا الأمر محتسبة أمري عند الله.
وضعت برنامجا منزليا لي فساعة أقرأ كتابا، وساعة لدراسة القرآن، وساعة لتعلم اللغة الإنجليزية، وساعة قررت فيها تعلم اللغة العبرية، وساعة للتلفزيون، وساعة للترفيه، ومارست الرياضة وهوايتي التي أعشقها الرسم، لم تكن هذه الساعات وراء بعضها البعض، ولكن كان لا يمر أي يوم إلا أقوم بهذه الأمور. وطبعا لن أنسى أنني كنت أخصص كل أسبوع جلسة خاصة لصفحتكم، حيث تابعت كل مشكلة فيها، وحاولت أن أضع بعض الحلول لمشاكل تطرح عندكم حتى أحرك دماغي قليلا ولا أستفيد وحتى لا أفقد صلتي بالعالم الخارجي، وقد استفدت كثيرا، والحمد لله تطلب هذا الأمر الكثير من الصبر والصبر والصبر، فتارة تقول لي نفسي بأن ما أفعله هو الفشل ولا شيء، وأن الحياة الحقيقية هي هناك في الخارج مع الناس وليست وراء أربعة جدران.
كنت أشتاق بشدة للدراسة، ولكن الأمر ليس بيدي، فدعوت الله عز وجل أن يثبتني، وكنت أتذكر الشهداء من زملائي، وكيف أنهم تركوا كل الدنيا ليقدموا كل ما يملكون في سبيل الله ولم يهتموا بالشهادة أو غيرها، فقررت أن أكون مثلهم ولكن شهيدة حية في بيتي ومجاهدة لنفسي ورغباتي، وكان علي أن أموت كل يوم مرات، ولكن كنت أجد لذة في هذا الأمر وشعورا رائعا بالسكينة، والحمد لله رب العالمين. أتاحت لي هذه الوحدة في البيت إلى متابعة نفسي وما يدور بحولي بعمق، درست القرآن الكريم حرفا حرفا، وذهلت لأنني اكتشفت أنه كتاب رائع فيه كل شيء، وكان أنيسا لي بوحدتي وسببا في تغير نظرتي لمن حولي، أخذت بالبحث عن الحقيقة الكامنة وراء كل شيء وأصبح كل نفس بجسمي بمثابة اكتشاف لذاتي، وأصبح الموت أكثر الأمور التي تشدني بحيث أن تذكره كان يخفف عني؛ لأن بالموت أدركت أن الحياة الحقيقية تبدأ من هناك، وأن كل ما أمر به الآن هو مجرد حلم سينتهي قريبا بلا شك، ولكن يحتاج الأمر إلى الصبر والدعاء، بدأت بالبحث عن عيوب نفسي وإصلاحها بصبر بحيث تغيرت وأصبحت أشعر أني إنسانة جديدة تماما. حاولت تحسين علاقتي بأهلي، والحمد لله صحيح أنه توجد بعض المشاكل، ولكن حاولت بقدر ما أستطيع أن أغير نفسي، وقد لمس أهلي هذا التغير في، وزاد ذلك من احترامهم لي بعد ذلك، كان لا بد أن أثبت لمن حولي أن الفتاة المنتقبة المتدينة هي فتاة ذات شخصية قوية وساحرة لا بد أن تثبت وجودها بالحياة بكل قوة.
وبما أنني لم أقدر على إيصال هذا الأمر خارج البيت إلا قليلا لمعارفي أو من يزورنا في البيت لجأت إلى الإنترنت، شاركت بالكثير من المنتديات، وشاركت بأفكاري، ونقلت للكل أمور فلسطين، وكنت أوجه من أراهم، وكان الكل يشهد بمدى إبداعي، ولله الحمد طرحت دروسا في اللغة العبرية في بعض المنتديات، وقد لاقت صدى واسعا، لكن هذا لم يكفني لأني أريد أن أخوض بالعالم الحقيقي وليس عالم الإنترنت. دخل الشيطان مرة أخرى في حياتي، ضعفت وتركت كل هذه الأمور لاعتقادي أنني أخدع نفسي، تطلب الأمر مني إرادة كبيرة لأن أرجع على حالي التي كنت عليها، كنت أستشعر أن الله عز وجل يمد إلى يد رحمته في كل دمعة وفي كل حالة يأس لتمدني بالقوة الكافية لأن أمضي بحياتي. وكانت صور الشهداء بين اللحظة والأخرى بمثابة دافع آخر للتغلب على أمري، وكنت أتذكر أن هذا الأمر لا يحدث لي بل للكثير من أمثالي من الشباب الذين فقدوا دراستهم أو تخلوا عن أحلامهم ليحملوا هم أمة.
فشكرت ربي لأنه بجانبي واستمرت أيامي صعبة وبحاجة للإرادة للمضي فيها، وكنت أحاول أن أتجنب الفراغ حتى لا أدخل الشيطان إلى حياتي. أتقنت اللغة الإنجليزية في هذا الوقت، وقرأت الكثير من الكتب الفكرية، وأتقنت اللغة العبرية، وختمت القرآن الكريم مرات ومرات.
ثم بعد ذلك تفاجأت بعمي يطرح علي فكرة الذهاب معه إلى العمرة كهدية منه لي، لم أصدق نفسي، تذكرت فجأة أنني سأخوض تجربة مثيرة ستغير حياتي، ذهبت معه وحرصت على قضاء كل لحظة هناك بعقل متفتح، ها أنا أزور دولة عربية وسأزور المدينة والكعبة المشرفة. لن أصف لك شعوري كان شعور فرحة ورهبة، تعلقت روحي بمكة المكرمة أول ما رأيت الكعبة، جاء في خاطري المسجد الأقصى، أنت على الحق يا فتاة، كانت نفسي تهتف بي مرددة كانت رؤية الكعبة والمسجد النبوي بمثابة أمن على نفسي. جاء في خاطري أن الرسول صلى الله عليه وسلم عانى وصحابته الكثير والكثير لإعلاء راية الدين والدفاع عن الإسلام، والنتيجة هذا الأمن الذي تتمتع به مكة والمدينة، ها أنا أقرأ الفاتحة لهم وأحمد الله على نعمة الإسلام وأتذكر عظمتهم وأرى المسجد الحرام وفيه شعوب العالم تركع وتعلن خضوعها لله عز وجل، وغدا ستأتي الشعوب للأقصى لتصلي هناك وستتذكر الشباب الذي ضحى بدمائه وشبابه وأحلامه ليعز ويرفع رأس أمة كاملة سيتذكروننا بلا شك. وجال بخاطري كيف ستكون ساحات الأقصى مليئة من كل الجنسيات هكذا كلها ستركع وتعبد الله عز وجل وحده لا شريك له، سيتذكر هؤلاء عظمتنا وجيلا مسلما شابا ضحى بكل ما يملك في سبيل الله ليطهروا فلسطين والمسجد الأقصى من نجس اليهود، قد يكون هذا الأمر بعيدا جدا، ولكن رؤية الكعبة كانت بمثابة رسالة إليّ وهي يا فتاة اصبري أنت على الحق إن وعد الله قريب، افخري أنك من الشباب الفلسطيني المسلم، افخري بأنك ممن حملوا هم أمة كاملة، افخري بأنك تعيشين في فلسطين. بكيت ودعوت وزادت قوتي وعزمي لأن أكون بإذن الله من المتميزين لإسلامي وأمتي، سأحقق حريتي وأحلامي وحتى ولو كنت بين أربعة جدران.
لم أنس كلامك هناك عندما أخبرتني مرة كيف العرب يتألمون لحالنا وكانت فرصة للتحدث مع جنسيات مختلفة. لن أنسى ذلك الشيخ المغربي الذي ما إن سمع أني من فلسطين حتى بكى وبدأ بالدعاء، ولن أنسى تلك المرأة اليمنية التي كانت بعمر أمي، ولكن كادت أن تقبل يدي والدموع تكاد أن تنهمر من عينيها لأني من فلسطين، صليت معها في الحرم وكانت بسيطة جدا ولم تكف لحظة عن الدعاء، ولن أنسى الكثير ممن رأيتهم هناك بالحرم من مصر ومن السودان وغيرهم كانوا بسطاء، في قلوبهم الكثير من الألم والحرقة على فلسطين. وقابلت أختا من السعودية رحبت بي وأحببتها جدا وتعرفت من خلالها على الشعب السعودي، كانت لدي رغبة في معرفة كل وجه عربي هناك، كان تأمل كل وجه هناك في الأسواق أو في الشوارع بمثابة مغامرة جميلة لتفكر بما يدور في هذه النفوس، وجدت نفوسا حائرة لا هدف لها ولا تدرك مقدار النعمة العظيمة التي هي فيها (الأمن والسكينة)،
ولكن النفوس مضطربة، ملذات الدنيا قد أغوتها بشكل رهيب، إذن أنا أعيش في جنة في فلسطين رغم الاحتلال ولله الحمد. رجعت إلى فلسطين، ولكن قلبي معلق في بلاد الحرمين، ولكن رجعت معلنة أنني قد انتصرت أخيرا، لا أستطيع أن أقول لك بأنني تغلبت على كل مشاكلي وهمومي؛ فالمعركة قد أصبحت أصعب الآن، ولكن أصبحت حريصة على أن أكون متميزة بكل شيء إن شاء الله، ولا بد أن أصبر فإنني على ثقة أنني سأقدم شيئا يوما لبلدي وأمتي. عذرا قد يكون كلامي غير منسق أو مرتب، ولكن قررت أن أكتب لك بما يجول بخاطري ومن القلب حتى أشكرك وأبين لك كم ساهمت في تغير حياتي؛ فلا تنسوني من دعائكم وملاحظاتكم،
أرجوكم حبذا ألا تنشر رسالتي على الملأ إلا إذا رأيتم فيها مصلحة معينة؛
لأنها رسالة شكر خاصة لكم مع تحياتي.
10/4/2023
رد المستشار
أحيانًا أستخدم الشات مع بعض من يحتاجون دعمًا عاجلاً أو الأصدقاء خارج مصر، وتعرفين أن ضمن إمكانيات غرف الشات توجد علامات تحاول نقل المشاعر عبر صور محددة ومتنوعة، وهناك علامة تعني أن واضعها يقلب النظر والتفكير فيما سمعه أو قرأه، ولو كانت هذه العلامة ممكنة ضمن نص إجابتي هذه لوضعتها فورًا.
رسالتك نموذجية يا ابنتي الكريمة لتصوير أحوالنا ليس في فلسطين وحدها، ولكن بامتداد خريطتنا، وهي مثالية في تصوير حالة فتاة رائعة ومتحمسة، ولكنها قليلة الخبرة تتحسس العالم ببراءة ونقاء... اللهم لا حسد.
ومثلك عشرات الآلاف، بل ربما أكثر من فتيات رائعات يجاهدن يوميًا في شئون بعضها نافع، وبعضها مجرد تبديد جهد في الميدان الخطأ "في رأيي"؛ ولذلك ينبغي أن أشكرك على فتحك لهذا الملف. ما أروعك وأنت تصفين لنا حركة نفسك، وتداعيات أفكارك فتكملين لنا بعضًا من العالم الداخلي لحواء العربية، وأنا أشكرك على هذا، واستنادًا إلى الثقة التي تضعينها بشخصي الفقير... أقول لك: من قال لك يا فتاة الإسلام بأن لزوم بيتك، وتغطية وجهك، وانسحابك من التعليم هو ذروة جهادك، أو الأنسب لمن هي في مثل حالتك؟!
لن أدخل في تفاصيل الخلاف حول النقاب وحكمه، ولكن أسألك هل هو أولوية في حالتك؟! أعتقد أنه في مثل ظروفكم ليس سوى قيد وحصار تضيفه صاحبته على نفسها فتتعطل فروض كثيرة منها طلب العلم، ومنها معاونة الناس، ومنها غير ذلك، وكل هذا يضيع منك مقابل القيام بفضيلة النقاب، وهو في اعتقادي فضيلة لا أكثر، مع احترامي لكل المنتقبات. الأحكام الفقهية والفتاوى يا ابنتي لها مكان وزمان، وإن وسع المسلمة في أي مكان على الأرض أن تغطي وجهها، وتلزم بيتها، فلا أحسب أن هذا يسع الفلسطينية إلا إن كان هذا يريحك شخصيًا، وعندها نتحدث عن الراحة والتعب لا عن العزيمة والجهاد!! ثم إنك تركت التعليم فهلا سألت والدك بصراحة إن كان يضيق بخروجك، ومصاريف دراستك أم لا؟!!
طبعًا هو لن يجبرك على الخروج والدراسة، وأفهم أنه قد يحبذ بقاءك في البيت خوفًا عليك، وأفهم أنا أن تتنحي تاركة الفرصة لأخويك "إن كانت تلك هي الحالة فعلاً"، بمعنى أن يكون الاختيار إما أن تتعلمي أنت أو هما، أما إن كان هناك إمكانية -ولو بصعوبة- أن يتعلم" الجميع فلا أجد لك مبررًا شرعيًّا أو عقليًّا للتوقف عن الدراسة، بل واعتبار هذا من الجهاد الصالح النافع!! لا أستطيع التصفيق لهذا باعتباره جهادًا، وأنا لا أراه كذلك، ولا أستطيع التصفيق له بوصفه حرية شخصية؛ لأنك تقولين إنه غير ذلك، ولأنك تثقين بي، والمستشار مؤتمن، ولكنني فقط أصفق لبراءتك ونقائك، وأحرص على أن تكتسبي الخبرة والتجربة، وتفهمي معي أنت ومثيلاتك من بناتي الفضليات واجب الوقت وميادين الجهاد. أصبح "النقاب" جوهر القضية كما تقولين، تصوري أنه أصبحت لدينا "قضية" بسبب سوء ترتيبك للأولويات، وتقديم الفضائل على الفرائض، ومبارزة طواحين الهواء، والصراع مع أشباح وهمية بوصفها الشيطان، ومسكين هذا الشيطان الذي نلومه كثيرًا ونتهمه رغم أن العيب يكون فينا، دون أن يكون هذا دفاعًا عن الشيطان
طبعًا... أبتسم. وأراك تخلطين بين فوائد العزلة، وهو مبحث شغل فقهاء السلف كثيرًا حين دخلوا في المفاضلة بين فضائل العزلة مقابل فوائد الاختلاط بالناس، ويبدو أن الإسلام يقيم معادلة توازن "كعادته" بين هذا وذاك، فهو مثلاً يأمر بصلاة الجماعة، ويحض على الاجتماع بالناس للتعاون على البر والتقوى، ودفع المنكرات بأنواعها، ورعاية شئون الخلق، والقيام بحقوق الله سبحانه في عمارة الأرض، وهداية البشر، ولكنه أيضا يرفع من شأن قيام الليل حين يخلو المرء بربه يناجيه ويبكي بين يديه، ويقترب من أعتابه، ويقف على بابه، وكل هذا في يوم وليلة: اجتماع بالناس، ثم اعتزال لهم... خوض في الحياة بالحق ورسالته، ثم استراحة السكينة الهادئة المتأملة، وكل من العزلة والاختلاط مثل الشهيق والزفير فهما معا حركات التنفس، وإذا جاء أحدهما أو تكرر أو زاد على حساب الآخر يكون الإنسان مريضًا ومحتاجًا للعلاج، ولذلك فإن سؤال أيهما أفضل للمرء أو للمرأة: أن تجلس في بيتها أم تخرج في خدمة أمتها؟!
هذا السؤال مغلوط وملغوم فهي لا تقوم بمقتضيات الإيمان والانتماء لهذا الدين، وتلك الأمة إلا إذا اعتزلت لتشحن بطاريتها، وتطعم صغارها إن وجدوا، ثم أيضا تطير في الآفاق تبني وتجاهد، وقد تقصر طاقتها أحيانًا عن الجمع بين هذا وذاك لسبب أو لآخر، وعندها لا جناح عليها أن تختار بين الداخل والخارج حتى تزول أسباب الصعوبة والاقتصار، وينبغي أن نحترم إنسانيتها وقدراتها واختيارها في هذه الحالة، ولكن الخطأ أن نعتقد أن هذا الاختيار أو ذاك هو الأصل وحده فقط أو الجهاد المطلوب فحسب، أو النهج المنشود المنتظر من "كل" مسلمة!!! أنا سعيد إذن من أجلك لأنك في عزلتك قد اكتشفت أبعادًا كثيرة في نفسك وفي كتاب الله سبحانه، وتعلمت أيضا أشياءً مفيدة، وقد تختارين أن تظلي هكذا لفترة، ولكنني أريدك أن تتذكري دائمًا أنه لا عزيمة في القعود، ولا جريمة في الخروج، بل كلاهما مطلوب بالتبادل في نفس اليوم والليلة، ولكل وجه فوائده التي لا غنى عنها. وخبرتك هنا تصلح لمن تحولت إقامتهن في بيوتهن إلى صداع دائم وملل قاتل لأنهن غير قادرات على اكتشاف فوائد الخلوة بالنفس وبالله، ولا يجدن أنفسهن إلا في الاختلاط بالناس وحركة الحياة، وهذا واجب كما أسلفت، ولكنه وحده يصير ناقصًا قاصرًا عن الإحاطة بالمطلوب، والله أعلم. إذن لم يكتب عليك أحد أن يصبح التحدي أو السؤال هو: "سأحقق حريتي وأحلامي، حتى لو كنت بين أربعة جدران"!!
فهي عبارة قد نفهمها من سجين وضعوه في زنزانة انفرادية؛ فهو يقول: "سجني خلوة"، ولن تستطيعوا تقييد روحي، أما أن يضع المرء نفسه بين أربعة جدران، ويقول إن هذا هو الجهاد في سبيل الحق، أو إن هذا هو المناخ أو الإطار للجهاد المطلوب، فهذا يا ابنتي اختيار غريب ومشوش، وأشفق عليك من مصير اللائي سبقنك إليه، وقد تعجبت كثيرًا عندما كانت إحداهن تروي لي قصة مرضها النفساني على الهاتف أمس، وكان مما قالته أنها استمعت إلى شرائط دينية فأحست بحرارة الإيمان تتصاعد بداخلها، والرغبة في فعل الخير بأنواعه تندفع في عروقها، والاندفاع المتحمس لإرضاء الله سبحانه... أتدرين ماذا فعلت تعبيرًا عن هذا كله، وتتويجًا له؟!! ارتدت النقاب!!! لا أدري من أين جاء المسلمون بهذا الفهم للدين فصاروا يخدمونه ويجاهدون في سبيله أساسًا بإطالة ملابسهم أو لحاهم؟! هل مساحة الحركة الأساسية لهذا الدين هي مساحة الجسد فيصلي الملتزم أو يصوم أو يرسل لحيته أو يغض بصره ويحفظ لسانه... فقط!!! هل هذا هو "الدين"؟! أو أهم ما في ديننا؟! أخشى أن أقول إنه إذا كان هذا هو فهمنا للإسلام فإنه سيمر وقت طويل جدًّا للأسف قبل أن ننتصر على أعدائنا، وأحسب أن عدونا الأول عندئذ هو: جهلنا... بالدين.
لا بد أن أتركك رغم استمتاعي بالأنس في صحبة ابنة بريئة طيبة ونقية تعيش في قلب القلب: فلسطين الحبيبة، وأقول لك إن رسالتك قد فتحت أمامي آفاقا كثيرة ومنها مثلاً أنك في حصارك "الاختياري"، ورحلتك الداخلية قد اكتشفت أو لنقل أعدت اكتشاف صفحتنا هذه بوصفها أكثر من مجرد سؤال وجواب، وأنها ليست مجرد حكايات مرسلة للتسلية وقضاء وقت الفراغ، رغم أنها تتضمن تسلية على نحو ما، وهي ممتعة ومفيدة كما تفضلت بالشرح. وقد أرسلت لي ابنة أخرى من فلسطين على منذ ما يقارب العقدين من هنا من موقع "مجانين" عن تعلق أسرتها ببرامج الواقع الحي مثل: ستار أكاديمي، وأجبت عليها تحت عنوان: ستار أكاديمي الفقرة الأخيرة علي شاشة الانتفاضة وأنت هنا تلفتين نظرنا إلى أن صفحتنا استشارات مجانين يمكن أن تكون نوعًا من البديل فهي عبارة عن واقع حي متدفق، ولكن عبر الحروف والكلمات، وليس "عبر الصور والأشكال"، ومن يداوم عليها فكأنما يعيش مع أصحاب الأسئلة والمشاركات، وكأننا سبقنا غيرنا في تقديم هذه اللقطات الواقعية الحية، فهنيئًا لكم ولنا، والحمد لله من قبل ومن بعد. هل يمكن أن نضع برنامجًا جماعيًّا منتظمًا نقوم عبره بنشر عنوان صفحتنا لتصل إلى كل من يقرأ العربية، ولا يعرف صفحتنا بعد؟! هل يمكن تطوير صفحتنا هذه لتكون بمثابة برنامج من برامج "الواقع الحي"، ولكن بشكل أكثر إمتاعًا وإفادة مما هو معروض على الناس في الفضائيات حاليًّا؟!!
أسئلة كثيرة دارت في ذهني، وأنا أقرأ رسالتك الكريمة، ولعل لديك ردٌّ أو لدي غيرك، وسأنتظر رسالتك ورسائلهم ... ودمتم سالمين.