السؤال الحائر: الحب وأشياء أخرى
بسم الله الرحمن الرحيم،
أحمد الله إليكم الذي وفقكم إلى ما تسدونه إلى جمهور الشباب من نصائح لا يجازيها شكر إلا من الكريم الشكور -سبحانه وتعالى- وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد: فمشكلتي تحتاج إلى شرح أحسب أن صدركم سيتسع له، وأجركم على الله ، وهي تتطلب ملخصًا عن حياتي؛ فإليكم ذلك:
تفتحت على الحياة طفلًا صغيرًا، أتلقى الدروس مع باقي الأطفال ذكورًا وإناثًا، أذكر أنني في الثامنة أو في التاسعة من عمري بدأت أميل إلى إحدى زميلاتي، وبدأت أذوب فيها لا سيما عيناها، كان حبًّا بريئًا طاهراً كالطفولة، كان الأطفال يهمسون بذلك فيما بينهم، وكانت تلك الزميلة تسمع، وكانت ترضى بذلك، وتستريح له، ولم أكن – بحكم التقاليد – يسمح لي أن أقول ذلك، بالرغم من أنني كنت ابن تسع سنين فحسب، ومرت الأيام، وشارفت المراهقة، وانفصلنا عن الإناث، ولم تزل في قلبي، وبلغتُ مبالغ الرجال، وقلَّبت أمري؛ فوجدت أن ظروفي الاجتماعية لا تسمح بشيء من أفكار الارتباط، وهي في مثل سني فلا بد إذن أن يعمد أهلها إلى تزويجها، وأصبحت في وجل، أنتظر ذلك الخبر، كما ينتظر أحد مصيبة ما، فكنت إذن في ألم وحسرة لا يعلم بهما إلا الله ، فما أملك أن أفعل وأنا طفل مراهق إلاّ أن أحاول توطين نفسي على الصبر إن وقع خبر زواجها، ثم وجدت أنني أستطيع، وكيف لا، والله – سبحانه وتعالى- يقول: "ادعوني أستجب لكم"، فربما اختليت بنفسي؛ فرفعت يداي إلى السماء بقلب يعصره الألم، وتغشاه السكينة والخشوع؛ فأتوسل إلى الله –عز وجل- وأدعوه ألا ييسرها زوجةً لغيري، فاستقرت نفسي لذلك، وعرفت أنني ما ادخرت جهداً، وما أويت إلاّ إلى ركن شديد.
ثم كبرت أكثر، ودخلت الجامعة، ولم أرها منذ افترقنا إلا مرة أو مرتين، وشيئاً فشيئاً نسيت، وهل يبقى حب دون وسيلة من نظرة أو كلمة لسنين تزيد على العشر؟! ثم قيل في أحاديث جانبية: إن فلانة – مَن أحب – قد سميت لقريبها فلان خطيبة له، ما أذكره من مشاعري آنذاك عدم اهتمام مشوب بضجر من ذلك الحديث، وكأن نفسي منه تنقبض، ثم بعد شهور علمت أن أمر خطبتها فشل، فسررت وقلت في معرض مناسب: إن ذلك خيرٌ لها بالطبع، فعسى أن يرزقها الله بخير منه – وكان قريبها ذلك غير معروف بدين أو خلق – شعرت وكأن شيئاً يزعجني، ثم انكشف عني ولله الحمد.
ثم كبرت أكثر فأكثر وتخرجت في الجامعة، وعملت، وبدأت أفكر بالارتباط كما يفكر الشباب؛ لتستقر بلابلي وتهدأ نفسي، فنظرت أمامي وورائي؛ فلم أجد في الفترة الجامعية غير بدايات حب انتهت هي من تلقاء نفسها، أو أجهزت أنا عليها لأسباب وجيهة أهمها عدم الاستعداد المادي للارتباط، فوجدت في مخزون ذاكرتي بقايا ذلك الحب الذي خَفَتَ كثيراً للبعد الذي قطع عنه شريان الحياة، إلا ما غذّاه الفكر من تصورات، وغذته الذاكرة من استرجاعات لصور مرت، وخلفت في القلب والعقل أثراً، أي أنني بدأت أراجع قصة فتاتي تلك، أتصلح لي زوجة وهي لم تكمل تعليمها حتى الثانوي؟ والأهم من ذلك أنني أنظر إلى إخوتها وأقاربها؛ فأجدهم جميعًا هم وإياها نتاج بيئة التخلف التي تطلق العنان للذكور ليفعلوا ما يشاءون من خير أو شر لا فرق، بل يتباهون بخطاياهم على مبدأ أن الرجل لا يعيبه شيء؟! وفي نفس الوقت تفرض تلك البيئة على الإناث أقسى أنواع القيود من الكبت والتضييق، وحتى حرمانهن من إكمال التعليم – لا سيما الجامعي منه – بدعوى المحافظة على الدين والخلق؟! فأنتج ذلك رجالًا هملاً مستهترين وإناثًا ضعيفات الشخصية والقدرة على التعامل مع المجتمع ، فهل من حسن النظر إلى أبنائي أن أختار لهم أخوالًا وخالات كهؤلاء . ولكن ألم أعاهد الله أن أتزوجها إذْ دعوته ألا ييسرها زوجة لغيري، فهل يجب علي شرعًا الوفاء بذلك العهد؟
ومن ناحية أخرى إنني أسمع عنها من قريبات لي حديثا يفهم منه أنها على قدر وفير من الجمال، فيختلط ذلك بذكرياتي التي أسلفت شرحها فأرى نوعًا من الحنين إليها يزداد إذا قادتني قدماي لحيها الذي تسكن، وربما يخفت بعد ذلك، ثم لداعٍ ما يعاود ذلك الحنين الظهور، فهل هذا شيء من الحب، فبالله عليكم ما هو الحب؟ فأنا لا أستطيع أن أحدده، وما أسلفت الإشارة إليه من بدايات للحب في الجامعة، إنما هي راحة وسرور برؤية شخص ما وشوق إلى رؤيته إن غاب لا أكثر، ولست على يقين من صحة أنه بدايات حب ، فالحقيقة أنني الآن أنتظر منكم تحديدًا لمعنى الحب، حتى تعلقي بفتاتي وأنا صغير، لا أدري أهو الحب أم ماذا؟! فهل الحب ينبت في ظل الطفولة التي لا تعرف عن علاقة الجنسين بعضهما ببعض شيئًا؟؟ وبصورة أخرى ما هي علاقة الحب بالجنس؟؟
وألخص مشكلتي بسؤالين:
1. هل ما دعوت به الله هو عهد واجب التنفيذ؟
2. هل ما أحسست به هو الحب، فما الحب؟ فأنا في حيرة من حقيقة مشاعري تجاهها. وأضيف أخيراً إنني تمنيت لو أنني أرى تلك الفتاة؛ لأحدد حقيقة شعوري، ولكن لم يحدث ذلك إلى الآن، وطبيعة البيئة التي تعيش فيها تلك الفتاة تعقد هذه المسألة.
ولا شك في أن أكثر ما يؤرقني هو الجانب الشرعي من مشكلتي، فأريحوني بالجواب؛ أراحكم الله.
مع خالص الشكر والتحية والاعتذار عن الإطالة.
24/3/2023
رد المستشار
أخي العزيز، حملت سؤالك أو أسئلتك معي في عقلي، وفي حقيبتي، أقلب فيها الفكر والنظر، فأنت تثير مجموعة من القضايا العاطفية والنفسية والاجتماعية "دفعة واحدة"، وسأحاول ألا أستطرد في الإجابة عنها.
أخي الفاضل، أعجبني عقلك وتدبيرك لأمورك، فأنت تملك زمام نفسك – إلى حد كبير – تصرفها عن الأمر الذي لا تستطيعه، وتقودها إلى حيث ينبغي أن تسير في الوقت المناسب لذلك، وهذه نعمة ينبغي أن تشكر الله –سبحانه- عليها، فكم من إنسان تقوده نفسه تورده المهالك، وهو عاجز عن التصرف أو التحكم.
تسألني عن الحب، وذلك مبحث طويل، وسؤال شهير أجاب عليه الإمام ابن حزم في كتاب قيم اسمه "طوق الحمامة" رد به على من سأله هذا السؤال، واختصر لك جدًّا: الحب ميل قلبي وروحي يحدث تجاه المرأة، وأنت تسأل عن الحب بين الرجل والمرأة لا مطلق الحب، وهو على درجات عددها ابن القيم في "الطب النبوي" وغيره، وغالباً ما يقترن في درجاته الوسطى والعليا بالاشتهاء الجنسي، فهذا الاشتهاء يكون بمثابة الاكتمال والإشباع لتلك العاطفة "المعنوية"؛ لأن الإنسان ليس روحاً ولا عاطفة فقط، وإنما هو مادة وجسد أيضاً؛ ولذلك نقرأ في الأثر كنا على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا نرى للمتحابين أفضل من الزواج. وهكذا؛ لأن الزواج سيكون سبيلاً لقضاء الوطر في الحلال.
وأنت تسأل عن مشاعرك تجاه تلك الفتاة: هل هي الحب؟! وأجيبك إنما كانت بدايات ميل طفولي للجنس الآخر – لم يتطور بحكم تطور الظروف – ولسبب أو لآخر حافظت أنت عليها في ذاكرتك تستعيدها كل حين؛ ربما لأنها مرتبطة بزمن البراءة، والحنين إليه يستمر طيلة العمر؛ وربما لأنك أنزلتها منزل المثال أو النموذج لما تريده من عالم النساء "على الأقل حين ملت إليها في حينه" .. ولكن يا أخي، جرى في النهر ماء كثير، فلم تصبح تلك الفتاة هي الطفلة التي كانت، ولا صرت أنت نفس الطفل الذي كان، ولأنك جاد ومتزن بدأت تطرح المسألة بعقلانية ووضوح، هل هذه الفتاة تصلح زوجة لي؟!
وذهبت تستعيد وعداً قديماً أخذته على نفسك في اندفاعة مراهق، وهو بينك وبين الله سبحانه: أنت وحدك تعرفه وتحترمه، وتوقن فيه، وتعتقد أن الله سبحانه قد استبقاها لك فضلاً منه ونعمة، فهل تستطيع أن تجزم أن الله قد فعل لمجرد أن خطبة لها قد فشلت، وهي لا تزال في بدايات العشرينيات من عمرها؟! أنا أيضاً لا أستطيع أن أجزم بهذا، وعلى كل حال تستطيع أن تحل نفسك من هذا الوعد إن شئت.
يبقى أن تدرس وضع تلك الفتاة مثل أية فتاة أخرى مطروحة للزواج: فيها إيجابيات، ولديها سلبيات، فترصد في خانة الإيجابيات ذلك الميل الطفولي الذي ما زالت تحتفظ به، وذلك الجمال الوفير الذي سمعت عنه، وهو الذي يعوضها الله سبحانه به عن قلة التعليم، وما تذكره عن أسرتها، وهي سلبيات لا شك فيها... تستطيع التغلب على بعضها فتتيح لها أن تستكمل تعليمها – إن كانت لديها الرغبة – كما تتيح لها التدرب التدريجي على التعامل مع المجتمع؛ فتقوى شخصيتها معك، وفي أحضانك تنمو وتنضج أو لنقل تستكمل نضجها، ونموها النفسي والعقلي.
ولكن الذي لا تستطيع شيئاً حياله هو التركيبة الذهنية والاجتماعية لأسرتها، وعليك أن تحسم أمرك: هل تستطيع تحييد هذه التركيبة، وتخفيف آثارها على أسرتك المنشودة بسفر إلى خارج البلاد لبعض الوقت مثلاً، أو بغير ذلك؟!
وإلى أي مدى سيكون لديك الاستعداد للتطور والتفهم المتبادل رغم الفارق المبدئي في درجة التعليم.
الأمر سيعتمد على جهدك وتفهمك، وقبولك بالعيوب، وتعاملك معها إلى جانب تمتعك بالمميزات، وشكرك لله عليها. تأمل في الأمر بعمق، فإذا استقام لك أن تبدأ في استكشافه فأرسل من قريباتك حكيمة كبيرة السن تأتيك بالخبر اليقين عما يستغلق عليك من شئون الفتاة، حدد ما تريد أن تعرفه ومن خلال إجاباتها، حدد خطوتك التالية بأن تطلب الجلوس إليها، وهذا حق شرعي، واستكمل في هذه الجلسة ما تريد أن تستكمله؛ لتصبح أمامك الصورة واضحة ومتكاملة سلباً وإيجابياً، وقرر عندها.. وفقك الله.
وليتك تخبرنا بخطوتك وأخبارك، واجعل من الاستخارة لك منارة هادية دوماً في كل شأن.. والسلام.
واقرأ أيضًا:
سيكولوجية الحب: كان غيرك أشطر!
ويتبع>>>>>: الخطبة وعقد القران، تساؤلات في المبدأ م