بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛
أود أولا أن أشكر لكم مجهودكم انطلاقًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسدى إليكم معروفا فكافئوه"، والحق أنكم أسديتم إلينا كثيرًا؛ فيكفينا أننا نتعرف على أمراضنا؛ فهذه أولى خطوات الشفاء، فبالله كيف يصل إلى العلاج من لا يعرف الداء، وأجد أعظم مكافأة ذلك الحديث: "من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة".
ولا أطيل عليكم، أنا طالب بكلية الهندسة جامعة القاهرة، وإن شاء الله السنة القادمة سأكون في البكالوريوس، والمشكلة يمكن أن تتضح بعد التخرج؛ إذ إنني لا أحب العمل في المجالات الهندسية، مع أني أحب الهندسة ودراستها "كعلم" كثيرا، وربما أحب أن أعمل مهندسا، ولكن للأسف في بلدنا مصر أرى أننا لا نعرف ما هي الهندسة أصلا.
وباختصار في مصر وجميع البلدان العربية الأخرى علم الهندسة غير مستغل بالمرة، ولا أدري أذلك لانحطاطنا وتخلفنا العلمي، أم أن ذلك سببه السياسة الغربية التي تجبرنا على أن نظل في ذيل الأمم دونما أن يتحرك لذلك حكامنا أو يصنعوا شيئا لدينهم وبلادهم؛ فالأفذاذ والمخترعون والعباقرة في بلادنا كثير، ولكن لا يجدون من يمد لهم يد العون والمساعدة.
والمهم نظرًا لضيق العمل في المجال الهندسي الذي يقتصر على أن أكون موظفا في شركة أو في مصنع، وطبعا هذا أمر صعب جدا يحتاج إلي شروط خاصة، من أهمها "الواسطة" وقدر محترم من المال، ثم بعد ذلك يفلس هذا المصنع أو هذه الشركة كما هو الحال في معظم شركاتنا ومصانعنا الآن.
ولقد أصبحت تراودني كثيرا فكرة أن أقدم أوراقي في الثانوية من جديد وأدخل القسم الطبي (علمي علوم)، وأتابع بعد ذلك الدراسة في كلية الطب أو الصيدلة، والمهم أنه بعد التخرج ستكون هناك أمامي فرص كافية للعمل الحر (فتح عيادة أو صيدلية، وأعرف أن ذلك سيحتاج قدرا محترما أيضا من المال، لكن سأدفعه لأكون بعد ذلك حرا في عملي إن شاء الله).
علما بأني سأتابع هذه السنة الأخيرة في الهندسة وأنا في الصف الأول الثانوي؛ لأني طبعا سأقدم في الثانوي بنظام "المنازل"، وهذا من ناحية الكثافة الدراسية أمر سهل إن شاء الله، ولكني كلما استطلعت الآراء في هذا الموضوع وجدت القليل يوافقني والكثير يعتبر ذلك ضربا من الجنون، فبالله عليكم أفيدوني، ما رأيكم؟
13/3/2023
رد المستشار
الابن الكريم، أشكر لك ثقتك بنا، وأنعم بها من مكافأة أن تذكرنا بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونرجو أن نكون ممن ينطبق عليه قوله حول تفريج كرب المؤمنين، فهذا يكفينا، اللهم استرنا بسترك الجميل، وفرج عنا كربات يوم العرض الأكبر.
طالما أنت من بلدي فدعني أنتقد على راحتي؛ لأنني أخشى عندما أنتقد غير مصر والمصريين أن أتهم بالتعصب والشعوبية، وأنا ما أمقت شيئا قدر مقتي للظلم، والشعوبية ظلم وتمييز على غير أساس منطقي عادل... أعاذنا الله منها.
نعم يا بني لا مكان للهندسة في محيط يستهلك فضلات التكنولوجيا الغربية، ونصيبه من الكعكة الاقتصادية أن يعمل سمسارًا لدى الهيئات والشركات عابرة القارات لترويج منتجاتها بغض النظر عن آثار ذلك وبغض النظر عن حاجتنا لهذا النوع من التقنية أو ذاك!
ولأن الواقع مزر هكذا فإن من يبقى محليًا ينعزل أو يعمل مقاولا أو ينسى أصلا أو يظل يعض على أصل شجرة محاولا التطوير قدر المتاح، معتبرًا أن هذه هي فسيلته التي يغرسها في انتظار إصلاح الأحوال أو قيام الساعة، ولا أدري أنا فعلا أيهما سيكون أقرب!
وتفكيرك في تغيير مجال دراستك وعملك من بعده هو تفكير وارد منطقيًا، ولكن السؤال هو: هل هذا التفكير الأنسب والأمثل بالنسبة لمن هو مثلك، وإذا صح أن مصر هي أم الدنيا فهل هي كل الدنيا أو آخر الدنيا!! لا أدري هل أنت قارئ قديم لصفحتنا أم ماذا؟
لقد رددت من قبل على شاب مهندس خرج في بعثة ليدرس الدكتوراة في الهندسة ثم هو يوشك أن ينتهي، ويؤرقه السؤال: هل يعود فيصبح موظفًا كما الأغلبية الساحقة من أساتذة الجامعة عندنا... أم يظل هناك فيبقي ترسًا في آلة التقدم الغربي؟
صاحب مشكلة "يفعلون ولا نفعل : محنة الإسلام.. في تخلف المسلمين"، وعلاقة سؤاله بحالتك أنك تملك خيارًا آخر يا بني، وهو البحث عن منحة للدراسة بالخارج في مجال تخصصك، وهو أمر ليس سهلا ولكنه ليس مستحيلا، وعندها يمكنك أن تدرس ما تحب وتعمل ما تحب، وعندما تطرح على نفسك السؤال الذي طرحه أخونا الذي أروي عنه، سأجيبك كما أجبته، وأضيف:
1 – من قال بأن الغرب ما زال حكرًا على الأوربيين؟!
لقد أصبحت الأقليات الإثنية والعرقية الأخرى جزءًا من نسيجه حتى قالوا بأن فرنسا بعد عشر سنوات ينبغي أن تتوقع أغلبية سكانية ملونة، وبالتالي رئيس جمهورية ملونًا بعد سنوات تالية؟ في ظل العولمة أصبح العالم مفتوحًا، والفرصة والثروة والسلطة هي ملك لمن يعمل لها بالتنسيق مع آخرين، وآن للمسلمين خارج العالم الإسلامي أن يكفوا عن التعامل بنفسية الهارب المغترب، وأن يعملوا بذهنية المواطن صاحب البيت والأرض والحقوق، والإسلام لا يعرف انغلاقًا في حدود جغرافية، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والهوية هي كائن حي مركب ومتعدد ودينامي، والتفاعل لا يعني الذوبان.
2- من قال بأننا سنظل هكذا غارقين في التخلف والفوضى وقلة العقل والدين؟!
إن جهودًا كبيرة مؤهلة للتضافر والتطوير بغية تحقيق إقلاعنا الحضاري، ويمكن أن يحدث هذا في خلال عقدين شريطة أن ينتبه محبو الإصلاح، ويكفوا عن تبديد طاقاتهم في معارك مذهبية أو عرقية أو ثقافية أو فقهية تافهة، وأن يفهموا الدين والدنيا أكثر فيعرفون أن فرصتنا في النهضة كبيرة، وما بيننا وبينها إلا سوء الإدراك والتعامل، والعجز عن تطوير الأفكار والبرامج بشأن تغيير النفس والأوضاع، وهذا كله ممكن جدًا إذا فكرنا بطريقة مختلفة غير تلك التي أوردتنا المهالك التي نعيشها.
3- من قال بأن البداية صعبة؟!
لقد دعوت -في إجابتي السابقة- إلى شبكة للمهندسين العرب والمسلمين، وجسرًا يربط بين المقيمين منهم والمغتربين لتوفير فرص دراسة بالخارج، وإقامة مشاريع محلية، ومحاضن للأفكار والمبادرات، والتنسيق مع العقلاء في الجامعات والأجهزة التنفيذية ولا يخلو مكان من "فلتة" يفهم، ويمكن أن يتحرك، ولكنه يفتقد الدافع و"الونس".
ونستطيع أيضًا أن نفعل هذا في كل التخصصات: أطباء - باحثون في العلوم الإنسانية... إلخ، ولدينا بنية تحتية محلية معقولة في مصر وغيرها. وبالمناسبة هناك دول عربية تقدمت في ناحية الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي، ومحاولات التطوير التقني، وأرض الله واسعة، وآن للمصريين أن يفكروا في دور جديد أوسع من بلدهم، وأن يعرفوا أن إمكاناتهم وقدراتهم هي ملك للأمة كلها، وأن جذورهم التي تضرب في أعماق الأرض الخصبة حول النيل ينبغي أن تطلق الفروع والأغصان في كل حدب وصوب، وأن هذه هي الاستجابة الطبيعية للموقع الوسيط الذي وضعهم الله، فيه حين جعلهم القلب النابض الكبير -أو هكذا ينبغي- والجبهة المتقدمة الثرية في وجه الشمال المتوسطي والأوربي، والمعدة الهاضمة القادرة على إنجاز المعادلة الصعبة للجمع بين الأصالة والمعاصرة، الجذور والتحديث، والدين والدنيا، وهذا حديث ذو شجون.
هذا هو دورنا يا بني لا ندعيه ولا نعتبره شرفًا، ولكن ينبغي ألا نهرب منه أو ننوء بحمله، وأن نفهمه ونقوم به بدأب وصمت جنودًا في سبيل الله والحق والعدل للعرب والمسلمين والإنسانية كلها، والله الموفق.
ابدأ بمراسلة الجامعات والأصدقاء في الخارج، ورسالتك منشورة لمن يستطيع مساعدتك في هذا المسعى أو غيره، والصبح قريب فلا تناموا ولا تستعجلوا... اللهم عجل بالفرج.
ويتبع >>>>>: في مصر وغيرها: الواقع والأمل مشاركتان