إخواني الأعزاء في موقع مجانين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هاأنذا آتيكم سائلاً بعد أن كنت مشاركاً لمرات ومرات. مرت السنون وحان وقت الاستقرار و"إكمال نصف الدين"، وصار البحث عن شريكة الحياة أمراً مهماً يشغل البال والقلب، وقضية يسعى بها الأهل والمحبون. والمشكلة ليست هنا بطبيعة الحال -أعني البحث-ولكنها في بعض التصورات التي ترافق هذا الأمر وما يستتبعه من خلاف في وجهات النظر مع الأهل أو حتى لوم من الأصدقاء المقربين.
وجوهر سؤالي الذي سأفصله في السطور التالية: هل أنا من المغالين أو المتشددين في طلبي وفهمي للمسائل أم أنه معي الحق أو بعضه على الأقل؟!.. وكي أختصر الطريق وأريحكم من البداية، أقول لكم بأنني قرأت معظم أو ربما كل ما حواه موقعكم حول اختيار الزوجة، وقد استفدت من ذلك كثيراً، فجزاكم الله خيراً.
إذن ما الجديد الذي عندي؟.. هو سؤال حول "شرط التكافؤ" بين الشاب والفتاة التي يريدها، ما هو إطاره؟ وما هي حدوده الواقعية؟ ومتى يخرج عن حدود الاعتدال إلى التنطع والتشدد؟ وإذا رأى الشاب من نفسه همة وتميزاً أفلا يحق له أن يطلب في شريكة حياته أن تشابهه في تلك الصفات أو تقترب منها على الأقل؟
جميع استشاراتكم التي قرأتها حول قضية التكافؤ بين الزوجين والتأكيد على أهميته كانت تحكي قصة فتاة تفوق الشاب المتقدم لها علماً ودراسة ومالاً ... إلخ. وأريد منكم أن تنورونا برأيكم من الزاوية الأخرى، إذا سمحتم.
والله لا أدري إن كان وصفي لنفسي يفيدكم، ولكن أقول مستعيناً بالله: أحفظ ثلثي كتاب الله وأسعى لإتمامه في السنوات المقبلة، كما أحفظ قدراً لا بأس به من سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأسعى لتمثلها في حياتي، أحب المعرفة والثقافة حباً جماً وأمارس القراءة لما يزيد عن العشر سنوات، الأمر الذي جعلني أتميز كثيراً عن أقراني حتى صاروا يستشيرونني في أمورهم ومشاكلهم، كما أتقن لغتين وأسعى للبدء في الثالثة قريبا.
أما علمياً فأنا على أعتاب البدء بمرحلة الدكتوراه في تخصصي العلمي، وحالياً أستاذ جامعي يحبه تلاميذه وله قدره في المؤسسة التي يعمل بها. طموحي كبير وأحب مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، اجتماعي إلى حد ما ومعظم من يخالطني يحترمني ويمد جسور المودة بيني وبينه، وأرجو بأن يصلح الله بي بعضاً من أمر هذه الأمة، وأسأل الله أن يجعل علمي وعملي خالصاً لوجهه الكريم، وأعوذ من أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله حقيراً.
أساتذتي الأفاضل، أنتم آباء وأمهات وتعرفون كيف تجري مثل هذه الأمور -أعني البحث عن زوجة، حيث تتنقل الأم من منزل إلى آخر وتستشير صويحباتها في شأن فتاة لولدها الحبيب، وفي ذهنها الصافي وقلبها الحنون شرطان لا ثالث لهما: أن تكون البنت "حلوة وست بيت". ولا أدري ما الذي زرع في العقول أن المطلوب من الفتاة أن تكون مجرد طباخة وغسالة وفراخة (عذراً على التعبير) وأن ما سوى ذلك فإنما هو زيادة تستقيم الحياة بدونها ولا داعي للنظر فيها أو التشديد في شأنها!.
لماذا تندر الفتيات المتميزات أو ذوات الاهتمام الفكري أو الثقافي، أو هذا انطباعي على الأقل! هل هن السبب، أم لعل الأمر يعود إلى تربيتهن والنموذج الغالب أمامهن لأمهات لا تكاد الواحدة منهن تفرق بين الصبح والمساء بل ويستوي عندها اليوم والبارحة وغداً لكثرة الأشغال المنزلية ورتابتها وعدم تعاون زوجها في التخفيف عنها؟! أو لعله نموذج الأم التي تلقي أعباء المنزل على خادمتها وتذهب لتقضي صباحها في زيارة صديقاتها، فإذا جاء المساء خرجت للتسوق والتنزه؟!
لا أبحث عن ملاك معصوم فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب وأذنب وأتوب، ولا أبحث عن حسناء غانية فما نفع الجمال إن كانت صاحبته في واد وزوجها في واد آخر، إنما أبحث عن الملتزمات المثقفات والمتميزات، وقليل ما هن! فهل أنا من المبالغين؟ أنا لا أشترط أو أبحث عن "نسخة طبق الأصل" مني، ولكن أليس من حقي أن أبحث عن "نصف الأصل" أو ثلثه أو حتى ربعه! أريد من تستطيع مواكبتي أو مجاراتي في همي وفهمي وطموحي وحلمي..! فهل أنا من المغالين؟
أنا لا أريد الشعور بأني تزوجت من فلانة "مضطراً"، فإذا كانت أقل مني وعياً وأضيق أفقاً أحسست بأني ظلمت نفسي فأظلمها معي! أقف أحياناً متأملاً ومتأسفاً لحال بعض أقراني المتميزين الذين تزوجوا ممن لا تكافئنهم تحت ضغط الأهل أو ضغط الشهوة وخوف الفتنة أو حتى ضغط اليأس من العثور على المطلوب كما هو الحال في كثير من الأحيان، وبعض من حولي يطرحون فكرة أراها جديرة بالنقاش، وهي أنه ليس من الضروري أن تجد من تشاركك تميزك وطموحك كله، ولكن يكفي أن تجد فتاة صالحة "تؤمن بزوجها" –كما يقولون- وتقدر تميزه وتحرص على توفير البيئة المناسبة له لتحقيق المزيد من النجاحات، لأن نجاحه ساعتئذ سيكون نجاحاً لها في نفس الوقت.
ولا أدري إذا ما كان سؤالي سيثير قريحة أستاذنا الدكتور أحمد عبد الله -كما عودني في التعليق على مشاركاتي- وعلى كل فأنا أقدر انشغالاته الكثيرة وما أريد أن أشق عليه. فأفتوني في أمري يا إخواني، إني أراكم من المحسنين. ولا تنسوني من دعوة صالحة بظهر الغيب، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم.
11/6/2023
رد المستشار
الأخ الكريم، أهلاً بك، وشكراً على ثقتك.
سؤالك يلفت النظر إلى مسألة هامة للغاية أو عدة مسائل في الحقيقة تتلامس مع الطريقة التي نفكر ونعيش بها، وقد دخلت في تفاصيل كثيرة أحسب أنها تكشف عن غموض أو غياب في تحديد المشكلة في ذهنك، وهذا شائع.. إذ ليست المسألة هي في حق الإنسان صاحب الهمة والتميز أن يبحث عن نفس صاحبة المواصفات، وليست المسألة تكمن في والدتك وصويحباتها "ولا أدري علة أو هدف التصغير هنا؟!"، المسألة ليست في أنهن يبحثن عن زوجة جميلة و"ست بيت"، وليست المشكلة أيضاً هي في ندرة الفتيات المتميزات، أو ذوات الاهتمام، إلا إذا كنت تعني بلاء عاماً يشمل الشباب والفتيات معاً، وفي الأجيال الجديدة خاصة.
وليست المشكلة هي وجود نمط تربية محدد للفتاة العربية يخرجها مجرد طباخها وغسالة وفراخة، إلا إذا كنت تشير إلى "اللانمط، واللامنهاج، واللامنطق" في تربيتنا للأبناء والبنات، وشيوع التشويش والتضارب في نهج من يربي بنتاً أو ولداً، وبالتالي فإنها تخرج وتكبر، كما الشاب، دون هدف واضح أو كفاءات أو قدرات إنسانية ونفسية واجتماعية هي أساسية أو بديهية. ولكنها لدينا غائبة غالبا!! أين تكمن المشكلة إذن يا أخي الكريم؟! لعلك تتساءل وأنا أجتهد أن أجيبك في السطور التالية، والله الموفق.
المشكلة -يا فاضل- أنه في غمرة هذه الفوضى، وانعدام الكفاءات من ناحية، ومع وجود أصل النقص الإنساني العام، فلا كمال إلا لله وحده، في هذا الوضع ينبغي للمرء تحديد أولوياته في خطة حياته واختياراته.
قرأت مثلا أو مقولة أعجبتني، وهي منقولة من الثقافة الغربية، وأنا هنا أترجم لك المعني: "كل رجل يريد أن يتزوج امرأة ذكية ونشيطة وجميلة ومدبرة ورومانسية، ولكن القانون للأسف لا يسمح إلا بزوجة واحدة!" وتستطيع أن تقول الشيء نفسه بالنسبة لاختيار المرأة لزوجها!! إذن لا بأس عليك أن تبحث عن أولوياتك فيمن تود الارتباط بها، ولكن سيكون عليك في الوقت نفسه احتمال جوانب العيوب والقصور والتعايش معها بعد القبول بها.. وعندي فإن كل إنسان فيه عيوب فادحة، ومزايا عظيمة، وإن لم تظهر العيوب أو المزايا فهذا لا يعني أنها غائبة، وهكذا خلق الله الإنسان. إذن من نواحي الخلل في تفكيرنا بشأن مسألة الاختيار للزواج أن يغيب عنا هذا الفهم فنغرق في وضع قائمة المواصفات القياسية للشريك، ونبحث عما يرغبنا فيه فحسب، وننسى غالباً البحث في عيوبه ونقائصه... ونصطدم بهذه العيوب حين نعيش معه تحت سقف واحد، ونزعم عندها أن في الأمر خدعة أو كذبا، وأن الشريك أخفى هذا العيب أو ذلك، أو وعدنا وأخلف، بينما الحقيقة هي أننا نحن الذين خدعنا أنفسنا حين اقتصرت نظرتنا قبل الزواج وعند الاختيار على فحص المميزات والمواصفات التي نبحث عنها، ونعتبرها الأهم لدينا، بينما يغيب تقريباً فحصنا للعيوب، للتأكد من أننا نعرفها، وأننا قادرون على تحملها والتأقلم عليها والتطبيع معها!.
ووفق ما سبق، لو جلست حضرتك مع أي شاب مقدم على الزواج فستجد الواعي منهم –وأكرر الواعي– على دراية بالمواصفات التي يريد، خيالية كانت أو واقعية، ولكنه يجهل تماما العيوب التي يمكن أن يتحملها، وتلك التي لا يستطيع تحملها بالمقابل!! ولو جلست مع خاطب قبل زفافه وسألته عن زوجته المستقبلية فستجده يمتدحها بجمالها أو أدبها أو عقلها.. إلخ، ولو سألته: وما هي عيوبها بالضبط؟! فستلمع عيناه، أو يتدلى لسانه لأنه تقريباً لم يبحث أو لم يفكر في الأمر من الأساس، أو سيقول لك كلاماً عاماً فارغاً لا وزن له ولا أثر!.. إذن اسمح لي أن أقول لك: إنك والسيدة الوالدة وصويحباتها جميعكم تفكرون بنفس الطريقة: أسلوب البحث عن المواصفات!! الوالدة تبحث عن الجمال وشغل البيت، وحضرتك تبحث عن التميز الفكري والشخصي، وتشغل تفكيرك بما تعتقد أنه نقص في الكفاءات تعاني منه الأمة!! بينما لم يخطر ببالك، ولا بال الوالدة، ولا صويحباتها السؤال الأهم: ما هي العيوب التي لا ترضاها أنت تحديدا في زوجة المستقبل؟!. مثلا ما رأيك في زوجة متميزة العقل والقدرات، ولكن بطيئة الحركة، وبدينة، أو قصيرة القامة، أو سريعة الغضب؟! أو مسرفة في الإنفاق أو باردة المشاعر؟!
انظر إلى نضج المسلمين الأوائل –في مجتمع بدوي– حين يسأل الرسول صلي الله عليه وسلم: أيكون المسلم جبانا؟! أيكون المسلم بخيلاً؟! وبقية الحديث معروفة، أو هكذا أعتقد! إذن يمكن للمؤمن أن يكون صاحب عيب مزعج مثل البخل أو الجبن، ويمكن لصاحبة التميز، بل حتما سيصاحب تميزها عيب أو عدة عيوب، فأيها ستقبل، وأيها سترفض؟ ربما تقول إنك تبحث عن التميز من حيث المبدأ فإن وجدته فستبحث عن العيوب، وتقرر وقتها ما تقبله وما ترفضه منها، ولو أنك تفكر هكذا، أقول لك: عرفت فالزم!!
أما الناحية الثانية -يا فاضل- التي تنبه إليها رسالتك فهي ما يتعلق بتصورك عن الزواج بشكل عام، وعن زواجك أنت وعلاقتك بزوجتك بشكل خاص!! وفي الطريقة الشائعة عندنا، وأسميها "زواج المواصفات" يقوم الاختيار على انتقاء صفة أو أخرى ينتظر أو يفترض أو يتمسك الشريك بوجودها في شريكه، وسواء أكانت هذه الصفة موروثة مثل: لون البشرة، أو طول القامة، أو جمال تقاطيع الوجه، أو كانت صفة مكتسبة في الشخصية أو المال أو غير ذلك يأتي الخلل من أن هذه الصفة/الميزة قد لا تزيد، أو تفقد بعض قيمتها، وأحيانا تصبح بلا قيمة تقريباً في إطار بقية نواحي هذا الطرف أو ذاك!.. بل وأزيدك من الشعر بيتا، وأقول لك: إنك يمكن أن تقبل بالتنازل عن هذه الصفة أو تلك في مقابل بقية تجليات الحضور الإنساني للفتاة التي تقابلها، أي أن التنازل عن صفة، أو القبول بعيب، أو التمسك بميزة لا يكون هكذا بحسابات مادية مسبقة بعيدة عن نموذج بعينه ولحمه وشحمه، أي أن التميز له أنواع وأشكال ودرجات وأصناف وألوان ومذاقات لا بد أن تراها مع بقية التكوين الإنساني فتقبل أو ترفض.
ولذلك فإن نمو العلاقة بين طرفين تدريجياً، وانتقالها من الإطار العام للحياة والتعامل إلي الإطار والمجال الخاص على النحو الذي فصلته من قبل حتى مللت. هذا التدرج المحسوب والانتقال المنضبط وهذا النمو الطبيعي الإنساني، والغائب في واقعنا غالباً، في جملة ما يغيب، هذا النمو هو المقدمة، وهو المناخ للحكم على اختيار أو إدارته ليكون أدق وأحكم ما يكون.
ومع غياب الممارسة الشرعية السلمية وهدى الله سبحانه وتعالى في التفاعل والتعامل بين حركة الجنسين في العام والخاص، بين إفراط وتفريط، أو تشديد وانحلال، يبقى لدينا الزواج بالمواصفات، وهو من مقدمات تعاستنا الحالية بشكل يدعو إلى مراجعة الطريقة التي نفكر بها في الزواج ككل، وفي انتظار استكمال نقاشنا. ويمكنك الرجوع إلى ملف "اختيار شريك الحياة" الموجود على صفحتنا.