السلام عليكم
مَرّ علي أكثر من شهور توالت رسائلها؛ قلقةً، متسائلةً، مستغيثةً، وهي صديقة دائمة لصفحتنا، فأحببت أن أعرض قصتها بالكامل، لا كما أرسلتها قطعة قطعة، وقد اختارت لنفسها اسما رمزيًا هو "تي تي"، وهي تقول:
أنا فتاة تخطيت العشرين بقليل، ومن أبسط حقوقي أن أختار، بل من واجبي أن أحدد طريقي، ولكن مجتمعي الخليجي لا يحترم هذا الحق، ولا يتيح أمامي - وغيري من الفتيات - العيش الذي فيه اختيار واحترام لرغبة البنت.
لذلك قررت أن أتزوج من أي إنسان عربي أو مسلم، طالما توافرت فيه الصفات المطلوبة من حيث الالتزام الديني، والأخلاق الطيبة، وأبي يرفض هذا، ويماطل ويتهرب، ويعدني ويعلقني؛ فمثلاً وعدني بالدراسة الجامعية خارج بلدي، ولم ينفذ وعده، وقد تقدم لي شاب عربي صادق ومؤمن، ورفضه أبي لأسباب دنيوية، وأنا أريد هذا الفتى بشدة، وهو يريدني، ولكن أبي يريد تزويجي لأحد أقاربه رغمًا عني ليتخلص مني، فأصبحت أكره أبي رغم أنني أحترمه، وهو يراني قليلة الحياء لمجرد أنني أطالب بحقي الطبيعي البسيط في الاختيار!!
أنا لا أريد أن أكمل بقية حياتي في نفس المجتمع الذي نشأت فيه؛ لأنه يتصف بالتعصب، وعموم الفساد، والذل للفتيات.. ولا أريد أن أواجه أبي في المحاكم، ولا أعتقد أن المحكمة أصلاً ستقف في صفي، وإذا ذهبت للتحكيم فسيقتلني أبي.
أحيانًا أشعر وكأنني مصابة بمرض نفسي؛ لأنني لا أتوافق اجتماعيًا مع من حولي، ولا أحب مجتمعي، وتدور في رأسي أفكار كثيرة، أغلبها عن الرجال الذين يحتقرون النساء، وأكره المرأة التي ترضى بالظلم، وتبرره تحت أي دعوى كانت.
وإنني أتساءل: ما حدود تدخل الأب في حياة ابنته؟ هل يمكنني الزواج بولاية إخواني رغم وجود والدي على قيد الحياة؟
هل تنصحونني بالزواج عبر الإنترنت، رغم أنني متدينة وأرغب في متدين من خارج مجتمعي؟
وهل الإنترنت وسيلة جيدة لمن هن في مثل ظروفي؟ وهل خروجي من بلدي بالزواج فيه راحة لي، أم إنني سأخرج من مشاكل إلى مشاكل أخرى؟!
إنني أشعر بالظلم؛ فإخواني الذكور يتمتعون بكل ما يحرمني منه أبي والمجتمع الذي أعيش فيه، وأنا لا أريد الخروج من هذا الضيق والتضييق لأتبع الهوى، بل لأشعر بنفسي وقيمتي وإنجازاتي، وأتعامل مع بشر يحترمون الإنسان، وهم في مجتمعي قلة نادرة.
أنا تائهة، وأريد أن يتم عرض رسالتي على كل من يستطيع مساعدتي؛ فأنا في محنة قاسية، وعذاب نفسي مستمر،..
وشكرًا لكم.
2/7/2023
رد المستشار
الأخت المرسلة، أنا أحمد لك دأبك في التواصل معنا، الذي استمر لشهور سابقة، تبادلتِ فيها معنا الرسائل ما بين إجابات ظهر بعضها على الصفحة، وحجبنا بعضها ليكون خاصًا لك.
اليوم نعرض حالتك التي نعتقد أنها تحكي ظروف فتيات كثيرات في الخليج، وغيره.
ونحن يا أختي لا نستطيع التدخل بين أب وابنته، أو زوج وزوجته؛ فالبيوت أسرار وحرمات، ولا بد أن نستمع من الطرف الآخر لتكتمل الصورة قبل أن نصدر حكمًا، أو نوصي بفعل ما.
والله لا يرضى بالظلم. وإهانة المرأة وتحقير شأنها هو إرث فاسد تضافرت في تثقيل موازينه جذور الجاهلية الأولى قبل الإسلام، مع ضغوط الجاهلية المعاصرة بروافدها الوثنية وتصوراتها التي تحط من شأن المرأة، حتى وهي تقول في العلن غير ذلك.
ولعلنا قد نبهنا قبل ذلك أن للصبر حدودًا، وأن التغافل والتغاضي يمكن أن ينقلب إلى الضد، ويمكن أن نرى بعض الحوادث الأخيرة الفجة التي حدثت من فتيات خليجيات، يمكن أن نرى هذه الحوادث مجرد فرقعات متفرقة معزولة، ولا يقاس عليها، كما يحلو للأغلبية أن تتصور، ويمكن أيضًا أن نراها نذير سيل منهمر من الفضائح التي هي رد فعل عنيف وفاسد على وضع ظالم وقاتم، تضيع فيه أبسط الحقوق التي قررها الشرع الحنيف للمرأة في المجتمع.
ليس أمامنا سوى التحذير العام من أن عاقبة التخلف عن الالتزام بأصول الشرع ومقاصده وما أمر به من عدل وإنصاف ستكون قاسية، ونؤكد أن عواقب هذا التخلف وشيكة ووخيمة، وستكون أكبر وأعمق مما يتصور البدائيون من حراس هذا التخلف، الذين يخرقون سفينة المجتمع، ويحرسون هذا الخرق، متصورين أنهم وكلاء عن الله، وإذا لم يأخذ الجميع على أيديهم فسنغرق جميعًا، كما في الحديث الشريف.. ونقولها للتاريخ: إن المظالم المتراكمة سياسيًا واجتماعيًا توشك أن تنفجر.
إن قضيتك ليست مجرد قصة لفتاة فارغة الذهن والقلب، مدللة تطلب ترفًا زائدًا، بل هي صرخة استغاثة في مناخ اعتاد على تجاهل الصرخات، في مجتمع أصم لا يستيقظ إلا ليتألم وينزف حين وقع الانفجارات والكوارث ثم يعود للبلادة والصمت.
ولا نقصد بنشر رسالتك أن نشجعك على ارتكاب أية حماقة لدفع الظلم الذي تعيشين فيه؛ لأنك أول من سيدفع ثمن هذه الحماقة.
فالزواج مثلاً ليس هو المهرب من المشكلات، أو الجنة الموعودة للفتاة المحبوسة في بيت أهلها؛ إنما هو مسؤولية من أوله إلى آخره، وإذا كان والدك متعسفًا في استخدام مكانته وسلطاته كأب فإن استقلالك بالاختيار يعني أن تدفعي ثمنه وحدك في نهاية المطاف.
أنا أخشى أن تردّي على الظلم والتخلف برعونة ترشحك لها سنك الصغيرة، وتجربتك البسيطة في الحياة، ورغبتك في الانعتاق بأي ثمن، فإذا بالثمن يكون بقية حياتك!!
مبدئيًا لن يستطيع والدك تزويجك رغمًا عنك، وأرى أنك محتاجة لشيء من طول النفس، وعدم التسرع؛ فما زلت تدرسين بالجامعة، ولا أعتقد أن استمرار إظهار التضجر والكراهية لمن حولك هو المناخ الأمثل نفسيًا واجتماعيًا.
وإذا كنت قد حسمت خيارك بعدم العيش في مجتمعك؛ فهذا حقك، ولكنه يحتاج إلى خطة، أولها أن تجتهدي في دراستك، وتتعلمي الصبر، والحكمة في إدارة أمورك.
إذا كان والدك يراهن على النسيان؛ فلماذا لا تراهنين أنت على كسب وده، ولو بدرجة "عدم الممانعة"؟ وهذه تتحقق ببذل الحب، وليس بإظهار العداء، وأعرف فتاة خليجية ظلت متمسكة بمن تريد عشر سنوات؛ حتى ظفرت بعون إخوانها جميعًا، وعدم ممانعة الوالد، رغم أنه أصرّ على عدم حضور زواجها، ولكنه سكت أمام ضغط الأغلبية.
ونحن ننشر رسالتك، ونطرح حالتك للنقاش والمشاركة، وستصل صرختك بأشكال مختلفة.
ويتبع >>>>>>: تي تي تطمئنكم: الصبر مفتاح الفرج م