في مستهل حديثي أبدأ بالحمد لله الذي ثبتني لأتخطى أياما بالغة المرارة والقسوة من طفولتي ومراهقتي فقد عانيت كثيرا من جفاء أقرب الأقربين في وقت كنت في أمس الحاجة فيه إلى الحب والحنان والتشجيع. ولكن رغم الكلمات الجارحة والانتقادات المجحفة فقد حققت نجاحات عديدة، فقد تفوقت في جميع مراحلي الدراسية، بل كنت أحصل على المركز الأول في معظم المراحل ومراكز متقدمة في حالات نادرة! فما يريد هؤلاء مني بعد؟ ما أفعل بطباعي التي ورثتها عنهم؟ .. عذرا أطلت عليكم ولكنني أردت أن أبين لكم أصل ما أعاني، فمن هنا كانت بدايتي مع الحزن والهم الذي لا يطاق.
شخصية مهزوزة رغم مواهبها، ويلفها الخجل والانطواء، لقد سمعت هذه الكلمات توجه لي منذ عمر 6 سنوات أذكرها تماما، إنها خجولة منطوية غير اجتماعية... فانغرست هذه الكلمات في الصميم وباتت كلماتهم وأحزاني تغذيها صباحا ومساء حتى أثرت على تصرفاتي فصرت أنسى كثيرا، وأخاف وأتردد من فعل أبسط الأشياء؛ لأنني أحذر أن أسمع كلمات الانتقاد، فوقعها على قلبي عظيم، وكبرت شيئا فشيئا، وكبرت همومي معي وكبر خوفي ... تصور ماذا تقول أمي عندما أصدمها بحصولي على المركز الأول في الصف الرابع –رغم أن أخواتي لم يحدث أنهن حصلن عليه أبدا رغم تفوقهن: "أنت تنجحين لأنك تحفظين وليس لأنك ذكية" .. "سامحك الله أبدا يا أمي".
إنها لا تعرف أن الذكاء مجالاته واسعة وعديدة؛ لأنها لم تتعلم مثلي، ولا أخفي عليكم كثرة النسيان الذي ابتليت به، وضعف الملاحظة لما يحيط بي، فأنا مشغولة بنفسي وبداخلي ولا أنام سعيدة إلا ما ندر أذكر أنني كنت أبكي دائما في فراشي كل مساء.. ويزيد الأمر مقارنتي بإحدى منافساتي في المدرسة، خاصة أنها من أقاربنا حتى بت أتجنبها إلى يومنا هذا –رغم أني راضية عنها الآن تماما- وما أدراك ما المقارنة؟! لذلك كنت أتمنى أن أموت، وأكره الحياة، ولكن إيماني بالله وتعلقي به مذ طفولتي الأولى، ويقيني بأنه لم يضيعني جعلني أغير مسار حياتي تماما.
فرغم أني دخلت الجامعة فإنني لم أدخلها سعيدة، بل كنت أقول لنفسي إنني لست مؤهلة لذلك، ودخلتها وبدأ صراع جديد من نوع آخر وبطعم آخر، وهنا ساق لي القدر أخا طيبا كان بعيدا عن البيت منذ زمان بعيد، وكان مشغولا بالدراسة؛ ولذلك ألفته وأحببته، فهو لا يعرف عن ماضي أخته شيئا... لقد درس علم النفس وتطوير الذات، وإذا به يصب خبراته علي، وإذا ببردها على قلبي كما وقع الماء على أرض جدباء، بدأت أقرأ كتبه، وأهتم بها وأحبها، وحضرت الدورات في تنمية الشخصية، وأحببت أخي حبا عظيما.. وكانت علاقتي به قوية جدا، وتغيرت كثيرا كثيرا، حتى إنه يقول إن شخصيتي تعجبه كثيرا، وإنني محظوظة من بين أفراد العائلة، وهو يقول: "أنت الوحيدة من بين أفراد عائلتنا لم تتلقي علاجا ضد الاكتئاب".
نعم لقد لعبت الوراثة دورا كبيرا في عائلتنا فأبي شخصيته ضعيفة تكاد تسيطر عليه أمي؛ لدرجة أنه فقد وظيفته مبكرا فهو يكره أن يفارق البيت، ولا ألوم أمي العصبية جدا عندما تصب عليه سهاما قوية محرقة، فقد مررنا بظروف مادية صعبة جدا لفترة طويلة، حتى عندما كبر إخواني وأخواتي، وتحسنت أحوالنا المادية كثيرا تحسنت أحوالنا وزادت علاقاتنا.
أكمل لكم عن تغير شخصيتي لقد حسدتني أخواتي، وإذا بهن اليوم يقلن إن شخصيتك قوية عكسنا تماما إنك محظوظة .. تصور أنني رغم أني أصغرهن فإنني أصبحت ولله الحمد مستودعا لأسرار كل أخوتي الإناث والذكور!! وشهد أمي وأبي على ذلك فلله الحمد من قبل ومن بعد، هذا عن بيتنا، أما عن عملي فأصبحت في مقدمة الركب فأنا محل ثقة رئيسي في العمل.. فأين المشكلة أعزائي، الحقيقة أن شبح الماضي المؤلم لا زال يلاحقني رغم ضعفه، يخادعني وأصدقه عند كل ظرف صعب أمر به.
ويزيد الأمر عندما أقابل أقاربي الذين لم يعايشوا تغيري فهو يحملون عن شخصيتي ما يحملون وأخص 3 و4 منهم تقول إحداهن بعد أن أعلمتها أمي عن مشواري السابق قبل أن نصل بيتهم: "عجبا إن كان لها صديقة تزورها" .. فوا إحراجاه!! أنا اليوم كبيرة أيها العالم تغيرت!! أنا لست طفلة الأمس، بماذا أرد؟ أصمت وتصمت أمي، وربما مع لوم نفسها، فمهما أحرجت اليوم لم يكن كإحراج الأمس أبدا، يوم أن تذكر أمي معها مساوئي المحرجة أمامي ولا تعلم أن طفلتها تكابد العذاب... وتبقى آثار الكلمات فترة تعذبني، وأعود إلى بيتنا وأسرتنا وبلدتنا الكل يعرفني ويعرف قدري، ويجلني ويحترمني، فقد ساعدت الكثير منهم، واستشارني البعض منهن في أمورهن الخاصة ياللثقة!!
لماذا تهتز أحيانا لأنسى كل سعادة، وأكون ضعيفة جدا، لا أكاد أنظر في عيون البعض، أم أن جذور الماضي قد تأصلت في أعماقي فلم أستطع اقتلاعها، سؤالي كيف ألغي الماضي من ذاكرتي؟ وماذا أفعل بنظرات بعض الأقارب لي؟ أم أنني لا زلت فعلا ضعيفة؟ ما أشد وقع هذه الكلمة! إنني أكرهها فلا أحد يحب صاحبها، حتى إن الله يحب المؤمن القوي أكثر من المؤمن الضعيف لقد باتت القوة دعائي وصلاتي في صبحي ومسائي.. إنني أدرك أن السعادة مقدور عليها، وليس معناها أن صاحبها لا يشقى أبدا، بل إنه يلقى ما يلقى، ولكن لديه يقينا وإحساسا عميقا بالقوة والثقة بالنصر لا الهزيمة كحال الأنبياء والرسل، وليس كمثل من يشعر بأنه مهزوم.
نعم لكي تستمتع بحياتك فأنت تحتاج إلى الثقة بكل معانيها، تصوروا أنني رددت أحدهم وكان أول وأفضل من تقدم لي؛ لأنني ترددت كثيرا وأدركت أنني لا زلت غير مؤهلة مع أنني أحببته فوق ما تتصورون، وتأملت شخصيته التي تجانست تماما مع شخصيتي فأين أنا؟ لقد تقدم لي الكثير والكثير بعده وإنني أحمد الله قد تعديت تلك المرحلة، ولكني أرفض هؤلاء؛ لأنني لا أريدهم، وأنا لا أبكي على شخص ماض وسابق، كما يبكين، بل إنني مدركة تماما بأن ما هو مقدر سيأتي، ولكنني أبكي على ضعفي من مواجهة شبح ضعيف يهدد حياتي شبح الطفولة والمراهقة الأليم؟!.
كيف أنسى؟ أم أنني لست مؤمنة قوية –وقد حفظت القرآن لأقوى- فهل سأقوى؟ إنني محتاجة إلى كلماتكم وتوجيهاتكم فبكم أقوى وأقوى حتى أعطي وأعطي. لدرجة أنني أحيانا لا أريد أن أظهر بشخصية الفتاة المتدينة؛ لكي لا أحمل صورة ضعيفة عن الملتزمات. ولم يبق إلا سؤال أخير لقد علمتني الحياة أن أعفو وأسامح مع قدرتي على الزجر، ولكنني أحب كثيرا أن أكون حنونة جدا لدرجة أن البعض يتهمني بالضعف؟! إن أروع ما في الحياة أن تكون مبتسما تحب الناس، ولا تحمل على أحد منهم، فكيف لا أحب وكيف لا أسامح وهو أيسر ما أستطيع أن أقوم به؟.
وكيف أقنع نفسي بأني شخصية مستقلة، فقد قلت صديقاتي ولا أستطيع أن أتخذ من كثير ممن حولي من الزميلات صديقات، وهن مختلفات عني في التفكير والاتجاه والهوايات، ولكنني أبقيت عليهن زميلات للتزاور وللتشاور؛ للخروج لكن ليس لكل شيء.. علموني كيف أتغلب على أحاسيسي ومشاعري التي تقض مشاعري-عندما يحدثوني عن فلانة– منافسة الماضي والحاضر وقد فعلت ما فعلت رغم أنني موقنة بأن لدي طاقات أكبر وأكبر؛ لأني تغلبت على صعوبات كثيرة، وليس النجاح في المكان الذي وصلت إليه، بل بقدر الصعوبات التي تغلبت عليها لتصل إلى ذلك المكان.
ساعدوني فأنا موقنة بطاقاتي ومواهبي ورحمة ربي، ولكنني بحاجة إلى عونكم (ملاحظة: إن كلامي عن عائلتي لا يعني أني أكرههم، بل يعلم الله إخلاصي وحبي لهم، بل إن علاقتي بكل منهم قوية جدا، وقد رق قلبي لعلاقتي القوية بالله والحمد لله) .. ولكم جزيل شكري وخالص دعائي لاستماعكم لي رغم إطالتي.
29/07/2023
رد المستشار
شكرا على مراسلتك الموقع.
لا يوجد في استشارتك ما يوحي للموقع بأنك تعانين من اضطراب عقلي أو اضطراب الشخصية. الرسالة كذلك مزدحمة بالتناقضات حول مشاعرك تجاه العائلة وتقييمك لقدراتك وموقعك في الحياة بالإضافة إلى تفاعلك مع من حولك. الملاحظة الأخيرة ليست انتقاداً بل على العكس ظاهرة طبيعية جداً يمر بها الإنسان في مراحل بناء شخصيته وتطوير سماته الشخصية. هذا البناء يبدأ في منتصف أعوام المراهقة ويستمر لفترة طويلة إلى بداية العقد الرابع من العمر. مع عملية البناء يراجع الإنسان سلوكه ومشاعره.
عملية بناء الشخصية أو الكيان الذاتي تستند على مراجعة
ذكريات الماضي٬ والإنسان دوماً يمارس التحيز المعرفي في استرجاع البعض من الذكريات وغض النظر عن البعض الآخر. بالإضافة ذلك يجب أن يدرك الإنسان بأن الذكريات لا تستند على فقط على مراجعة مستندات مكتوبة في النصف الأيسر وإنما هناك ذكريات مشاعر يحرص الإنسان على خزنها في فصه الأيمن. حين تتحدثين عن ذكريات الماضي في رسالتك فالحديث يدور حول مشاعرك وهذا ليس بالغير طبيعي. مع مرور الوقت واستمرار عملية البناء الذاتي يضعف زخم المشاعر التي تم خزنها في الفص الايمن ولكن الحقائق تبقى كما هي في الفص الأيسر من الدماغ٬ و حين ذاك لا يبالي الإنسان بذكريات الماضي ويمضي قدماً لمواجهة تحديات المستقبل.
مرحلة البناء وبالذات بعد منتصف أعوام المراهقة يصاحبها مواجهة التحديات الوجودية التي يسعى الإنسان لحسمها. يصارع الإنسان فراقه من كائنات تعلق بها بصورة أو بأخرى وفي نفس الوقت يحاول أن يتجنب العزلة. تعلقك مع الوالدين تعلق غير آمن بل هش. بكل معنى الكلمة فهو مشحون بالمرارة من الوالدة وكيان والدك كيانٌ ضعيف لا يثير إعجابك. هذا التعلق الغير آمن ترك بصماته عليك ولم تنجحي إلى الآن في بناء تعلق آمن٬ ومحاولاتك الروحية لم تعوض عن غياب هذا التعلق ولم تفلحي إلى الآن في بناء علاقة عاطفية. رغم تعثر مواجهتك لتحديات الفراق والعزلة ولكنك ناجحة في التحلي بالمسؤولية رغم شعورك بالحرية في داخلك. مع مرور الوقت ستخرجين من موقعك الانعزالي الانطوائي وتتواصلين بصورة سليمة مع من حولك والدخول في علاقة عاطفية تسد احتياجاتك المختلفة.
الطريق الذي أنت فيه لا يحتاج إلى إرشادات من الآخرين وإنما ستتكشفين بنفسك ما الذي يجب عمله وتتعاملين بسلام وهدوء مع الحياة وتعثرين على السعادة. لا تحتاجين إلى من يقول لك عليك بشخصية أخرى فهذه هي شخصيتك الآن ولكنها ستتغير.
وفقك الله.
واقرئي أيضًا:
الثقة بالنفس واحترام الذات
إعادة بناء الذات