بسم الله الرحمن الرحيم،
إلى من قد يهمه الأمر، فقد ضاقت بي السبل ولم يعد لي بالأرض بعد الله سواكم؛ فأنا بأشد الحاجة لمن ألقي بين ذراعيه رأسي لأبكي، لمن أبوح له بما يتعب قلبي المجروح، لمن أطلب عونه ونصيحته فيما يمر بي من ظروف، وأعدكم بأنني سأحاول جاهدة الإيجاز.
تكمن مشكلتي في أنني في داخلي ومن أعماقي، لا ألقي بلومي ولا عتابي على أحد؛ فقد عرفت بين صديقاتي منذ صغري بالدين ورجاحة العقل والحكمة، وكل هذا لم يمنعني من أن أكون فتاة تحمل في داخلها قلبا ينبض بالحب، ويشتاق إلى اليوم الذي يصادف فيه القلب الذي سيحتويه ويضمه مدى الحياة، كنت أحلم برجل ليس ككل الرجال، ليس كشباب اليوم، على خلق ودين، محب لدينه جدا، ذي وطنية عالية وذي علم وثقافة.
كنت أريده شاعرا أديبا رقيقا عطوفا، مرهف الحس، وكنت أدرك أن الكمال لله وحده وأنني سأرضى بمن يحقق لي القدر البسيط من رغباتي فيه.. لم أكن أبحث عنه هنا وهناك لأنني كنت –وما زلت- واثقة من أنه إذا حان الوقت سأصادفه بالرغم من كل شيء. في خلال هذه الأثناء كان يقيم في بيتنا ولمدة سنتين قريب لي، استطاع بخلقه الجيد أن يكسب حب أهلي لحسن أخلاقه وعلمه وعمله، ولم أكن أدري أنه قد أعجب بي ووضعني في باله، وفاتح أمي التي رحبت به فهو على قول إخواننا المصريين "عريس لقطة"، ولم يكن أبي ليرفض فمن نعرفه أحسن ممن لا نعرفه!!
وأنا!! صدمت.. وصدموا جميعا بردي ورفضي!! فلم يكن هذا الذي أريد، لم يكن ذا الدين والوطنية والثقافة الذي كنت أنتظره، لم يحقق حتى الحد الأدنى مما أريد، لم يعر أحدهم رأيي اهتماما ولم يقتنعوا به!! وبعد خلاف بيني وبين أسرتي استمر لأشهر (كانوا خلالها يقنعونني بشتى الطرق به لدرجة أنهم كانوا يقرءون قرآنا عليّ لظنهم أني محسودة) بدأت أدعو وأصلي وأبتهل أن يفك الله مشكلتي هذه فليس هناك أصعب من أن يختلف المرء مع ذويه، وبدأت علامات الشك أراها في أعينهم من احتمال أن أكون على علاقة بآخر، وأقسمت لهم ألا أحد في حياتي، ولكنه ليس ما أريد ولم أشعر بأحد منهم معي.
صارحت قريبي، ولكنه أيضا أصر على أن أعطيه فرصة كفترة الخطوبة ليثبت لي فيها صدق مشاعره، ومع أنني لم أكن بحاجة لها؛ إلا أنه لا يلبث أن يسمع ولو من بعيد أنني أتمنى شيئا إلا وأحضره لي (سيارة، موبايل، كمبيوتر محمول)، وكل ما قد يخطر لكم على بال... ولم أكن أسعد بهداياه التي لم أكن أستطيع أن أرفضها حتى لا أجرح مشاعره!!
وفي النهاية ومن التعب والنكد والكآبة التي أصابتني قررت أن أرضي الجميع ولو على حساب نفسي، قررت أن أحقق لأبي وأمي ما يريدان وأن أوافق.. وبدأت أقنع نفسي بأنني سأحبه مع الأيام.. وأنه ما من سبب سيمنع هذا؛ فهو طيب ويحبني. ووافقت! وغمرت السعادة بيتنا، لم نخطب بشكل رسمي، لكن والده كلم والدي واتفقا على أن تتم الخطوبة بالصيف والزواج بعد عام ونصف من الآن، قبل شهرين من اليوم كنت قد أعلنت لهم موافقتي وإلى اليوم وأنا أشعر أني أموت كل يوم ألف مرة، ليس هذا من أريد. طيب؟ أجل. حنون؟ أجل. كريم؟ جدا. يحبني وبشدة، لكن عقله ليس كعقلي وتفكيره ليس كتفكيري، لا يهون له أن أحزن وبالرغم من كثرة خلافنا فإنه لا يلبث أن يراضيني، لا أقدر أن أعامله بالمثل.
أتنمى من قلبي أن يفهمني أحدكم، لا أراه حبيبي كما يراني هو!! لا أستطيع بالبوح بهذا الكلام له ولا لغيره الآن، لقد سبق أن قلته ولم يسمعني أحد، ماذا أفعل لا أدري؟ يغرقني بهداياه وأبادله الهدايا لعلي ألين وأشعر بشيء بلا أمل، يشعر هو بأنني لا أحبه كما يحبني هو، ولا أدري إن كان راضيا أم ماذا.
أنا أحزن عليه فهو يستحق من تسعده أكثر، وأنا أحتاج من يكون صديقا وحبيبا وزوجا وشريك مشوار حياة، ولكن في كثير من الأحيان أشعر أني "ادبست" وأن "الفاس وقعت بالراس" فليس هناك من يقف معي سوى الله ملجأي الذي يعلم أنني وافقت لأرضي رغبة أهلي، وتنازلت عن حقي في الاختيار لأنني ظننت لبرهة أنه مستحيل أكون أنا صح وكل العالم خطأ، ولكن أشعر بكل يوم يمر أنني أريد الساعة أن تقف فقد فقدت متعتي بالحياة.
آسفة لإطالتي، وبانتظار ردكم على أحر من الجمر،
والسلام عليكم ورحمة الله.
20/8/2023
رد المستشار
بنيتي الغالية،
سعدت برسالتك وتمنيت أن تزال كل الحواجز المكانية التي تفصل بيني وبينك؛ لألتقي بك... أحادثك.. أحنو عليك.. فرسالتك مثلها في ذلك مثل رسائل من هن بمثل سنك تحملني إلى عالم حالم ودنيا خطت رتوشها بأجمل وأزهى الألوان.. إلى حدائق غناء.. حيث أتابع فتيات في رقة الفراشات حلمهن أن يرشفن أحلى رحيق للحياة.
وبين هذا العالم الحالم والعالم الموجود على أرض الواقع فروق جوهرية؛ وهذه الفروق ترسم وتحدد ملامح مشكلتك مع نفسك ومع من هم حولك، وإيماني الشديد بحرية كل إنسان -كائنا من كان- في اختيار الطريق الذي يسير فيه وحقه في رسم ملامح حياته؛ هذا الإيمان يوشك أن يجعلني أسألك ألا تتمي مشروع ارتباطك بخطيبك، وما يمنعني فعليا من الإقدام على هذا الطلب أمران أعتقد أننا لا بد أن نثيرهما ونتناقش معا حولهما وذلك قبل الإقدام على أي خطوة غير محسوبة العواقب.
وبإثارتنا لهذه النقاط أدعوك لأن تتفكري جيدا وتنظري لأمورك بعين العقل قبل أن تتسرعي في اتخاذ قرارك، وفي كل الأحوال لست معك في أن ترضي الجميع على حساب نفسك، ولست معك في أن ترتبطي بهذا الإنسان الخلوق وأنت غير راضية أو راغبة؛ لأن في الارتباط بهذا الشكل ظلم لك وله أربأ بك عنه.
والمهم أنه من حديثك وقصتك يمكنني أن ألحظ العوامل الآتية التي قد تتسبب في حجب الرؤية السليمة عن عينيك:
• وأول هذه العوامل هو كما قلت لك مسبقا الفارق بين الحلم والواقع، الفارق بين الصورة الوردية التي تحلمين بها والصورة الواقعية بكل ما فيها من مناطق جمال وقصور، الفارق بين جوهر وحقيقة التدين.. الوطنية.. الرومانسية وبين الشكل المرسوم في مخيلتنا لهذه المعاني، تريدين الرجل الذي يحب دينه؛ فهل حب الدين شعارات وكلمات؟!! أم أن لحب الدين آفاقا تتجاوز الشعارات والكلمات بحيث يسري حب الدين بين العظام واللحم، وبحيث يخالط كيان الإنسان فيصبغ عمله وخلقه تعاملاته ونجده مختلطا في كل حركة وكل سكنة من سكنات صاحب الدين.
هذا هو ما أفهمه عن التدين، وهذا هو التدين الأكثر إيجابية والأكثر نفعا والأكثر ديمومة، ومن جوهر وحقيقة التدين ننطلق لحقيقة وجوهر الوطنية الحقة.
ومعك أتساءل هل الوطنية الحقة كلمات مرتبة وخطب وشعارات رنانة وبراقة؟ ألا يمكننا أن نعتبر أن حب العمل وحب إتقانه من أوجب مظاهر الوطنية الحقة، ومن الوطنية ننتقل للرومانسية، وكل الفتيات مثلك يتصورون أن الرومانسية كلمات تقال وأبيات من الشعر ينطقها اللسان، وسرعان ما يملها الإنسان ويزهد فيها أو لا يتحرك بها القلب والجوارح، وقناعتي أن للرومانسية والحب من المعاني ما هو أعمق من هذه المعاني السطحية والساذجة؛ فالحب بذل وعطاء.. الحب إحساس بالمسؤولية.. الحب رقي في التعامل.
ومن هذه المنطلقات أدعوك أن تكفي عن المقارنة الظالمة بين الصورة الوردية المرسومة في خيالك لمن تريدينه زوجا لك -والتي أعتقد أن معظم رتوشها شكلية ومظهرية- وبين خطيبك الذي يتسم بالكثير من الصفات الراقية.. زنيه على المعيار الحق للتدين والوطنية والرومانسية، تناسي أنه مفروض عليك أو أنه لم يكن على الصورة التي ترضيك.. أعيدي اكتشافه والتعرف على جوانب الجمال في شخصيته.. في تصرفاته.. وفي أخلاقه.
• ومن المؤكد أن إحساسك القاهر أن هذا الإنسان قد فرض عليك فرضا من قبل أهلك يعيق تواصلك السوي معه ويمنعك من محاولة اكتشافه، والأولى بك وأنت في مرحلة الحسم هذه بين الخيارات المختلفة أن تضعي جانبا قصة أنه فرض عليك أو أنه اختيار الأهل، وغياب شعور القهر هذا يعينك على اكتشاف جوانب الجمال في شخصيته.
والمهم أنه بعد هذه الخطوات وبعد أن تعطي لنفسك الفرصة اللازمة لاكتشاف حقيقة خطيبك ستجدين أن قدميك تقوداك إلى أحد طريقين؛ طريق تجدين فيه أنك قد أصبحت أكثر تقبلا لفكرة الارتباط بهذا الإنسان؛ فتوكلي على الله واسأليه أن يبارك لكما وعليكما، وإن كانت الأخرى ووجدت أنك ما زلت على رفضك له وكرهك لعشرته فلا تترددي في أن تنهي الارتباط، وفي كل الأحوال لا تنسي أن تستعيني بالمولى عز وجل وأن تستخيريه في كل شأنك.