بسم الله الرحمن الرحيم..
الأستاذة الفاضلة د. سحر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
أنا صاحب رسالة "بهدوء.. الزواج الثاني.. وحوار ساخن" أشكرك للرد على الرسالة رغم أنك تأخرت كثيرًا، ولكن أريد أن أشير إلى عدة نقاط:
أولاً: أنا لم أقرأ بانتقائية (كما أشرت حضرتك) .. ولكن يا سيدتي هذه هي فطرة الله، وهي الجبلة التي جبل عليها بنات آدم، فعدم رغبة المرأة أو رضاها عن زواج زوجها عليها أمر خارج عن إرادتها، ولكن منهن من ترضى بأمر الله وحكمه في إباحته (ولا أقول وجوبه أو لزومه كما أشرت حضرتك إلى ذلك في ردك عليّ) للرجل هذا الأمر مع شرط العدالة والمساواة التي تحدث فيه الفقهاء وفصلوه.. ومنهن من تجادل في هذا الأمر، ولها العذر.. ولكن أظن أنه بعد أمر الله فليس هناك أمر.
ثانيًا: قد أقررت أنك تركزين على السلبيات، ولكنك أوضحت لنا سبب ذلك، وأنا أقبل تعليلك قبولاً تامًّا، لكن مضافًا إليه أيضًا ما مر في "أولاً".
ثالثًا: الرجل لا ينكر -غالبًا- حقيقة دوافعه في هذا الأمر، ولماذا ينكرها وقد أباح الله له ذلك؟!.. ومع ذلك فطريقتك في تذكير الرجل بهذه الدوافع طريقة فعلاً مستفزة، وهو ما دعاني لأن أكون حادًّا في الحوار السابق حتى تدركي وقع الأسلوب الساخر على النفس، وأرجو أن تسامحيني فأنا أكنّ لك وللعاملين في موقعكم كل التقدير والاحترام.
رابعًا: شممت رائحة العموم في إجاباتك التي أشرت إليها سابقًا، وهذا ما دعاني للرد، ولو كنت أعلم أنك لا تقصدين فعلاً التعميم ما كلفت نفسي عناء الرد والحوار، ولعلي فهمت كلامك فهمًا خاطئًا فسامحيني. ومع ذلك -سيدتي- أرجو أن تركزي في الألفاظ حتى لا يفهم منها العموم مرة أخرى.
خامسًا: رؤيتك لبعض الحالات غير الناجحة في تجربتها في الزواج الثاني جعلتك تتوجسين خيفة من ظلم كل الرجال، وأظن أن الحالات الناجحة الكثيرة كانت أولى بأن تجعلنا نحسن الظن بالرجال.
سادسًا: أعجبني أن رأيت الزواج الثاني نوعًا من أنواع العلاج لمشكلة الأرامل والمطلقات والعوانس.
وأخيرًا.. سيدتي ما دفعني إلى ما كتبته سابقًا سوى خوفي من هوس تقليد الغرب (الذي له عاداته وتقاليده التي لا تتفق معنا نحن المسلمين)، وما أنموذج بعض الدول العربية منا ببعيد، فقد تعدوا على الحلال وما أباح الله، وخشيت أن نسلك نفس الطريق. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، ولما فيه خير الإسلام والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأشكركم للرد
17/9/2023
رد المستشار
الأخ الكريم "سمير" صديقنا صاحب الحوار الهادئ.. من جديد
أهلاً ومرحبًا بك مجددًا في صفحتنا،
أرجو أن تتقبل عذري لتأخري في الرد عليك، فالإنسان عادة ما يصاب بالملل إذا كرر الحديث أو الكتابة حول موضوع واحد مرات متعددة ومتقاربة.. ولقد احتجت بعض الوقت حتى أتمكن من الكتابة ثانية حول نفس الموضوع، والمهم أن الرسائل والمشاركات قد انهالت علينا منذ أن نشرت رسالتك السابقة وردي عليها.
المهم أنني تابعت تلك المشاركات، وهممت أن أتدخل عدة مرات بالرد والتوضيح وكتبت بالفعل ردي، ولكنني أحجمت عن إدخاله في آخر لحظة، وذلك لتردي أسلوب الحوار في تلك المشاركات، فمعظم القراء لا هم لهم إلا الانتصار لآرائهم وقناعاتهم الشخصية حتى لو كان هذا بتجريح الآخرين وكيل الاتهامات لهم.. فأين نحن من قول الإمام الشافعي رحمه الله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" .. وهذه الضجة أثارت في نفسي تساؤلات متعددة حول طبيعة وماهية والأهداف من ساحات الحوار عبر الإنترنت؟ هل هي ساحات لتضييع الوقت والجهد والمال أم أن الهدف منها هو تعميق الفهم والوعي حول القضية محل النقاش؟ هل نحن نتحاور لنفهم ونزداد وعيًا وتحليلاً للقضية محل النقاش أم أن هدفنا من ساحات الحوار أن نسقط في براثن الجدال المكروه (الجدال بالتي هي أسوأ).
وكم كنت أتمنى في ساحة الحوار هذه أن أقرأ مقترحات تعيننا على نشر ثقافة التعدد، وكم كنت أتمنى أن أستمع لمن تعبر عن مشاعر المرأة التي يتزوج عليها زوجها.. وذلك حتى يمكننا أن نتعلم ونعلم غيرها من النساء كيف يتعايشن مع هذه المشاعر، وأن نعلم الرجال كيف يمكنهم تخطي مرحلة الرفض الأولية، وكم كنت أود أن أستمع لصوت الرجل وهو يشرح دوافعه ليعدد، ولنتناقش سويًّا في الكيفية التي يقوم بها قدرته على العدل وعلى القيام بمسئوليات أكثر من أسرة.. كنت أتمنى أن أستمع لتجارب حقيقية من أرض الواقع، ولا يكفيني في هذا الإطار أن يأتي أحدهم ويقول: أنا تزوجت للمرة الثانية منذ شهر وسعيد بحياتي..، ولكن ما كان يهمني أكثر هو: كيف حقق السعادة؟ كيف تعامل مع غضب زوجته الأولى؟ وكيف يتعامل مع غيرة زوجتيه؟ ما الوسيلة التي مكنته أن يقيم قدراته ويتأكد أنه قادر على القيام بتبعات الزواج الثاني؟ وهناك الكثير والكثير مما كان يمكننا أن نتناقش فيه بدلاً من الاكتفاء بالتجريح وكيل الاتهامات، وذلك لمزيد من تفعيل دور ساحات الحوار المختلفة في نمو وعينا وإدراكنا وقدرتنا على التحاور البنّاء.
أما بالنسبة لرسالتك الجديدة فلن أعلق عليها كثيرًا، ولكنني بداية أحب أن أشكرك عليها، كما أحب أن أنوّه -ردًّا على النقطة الأولى من رسالتك- إلى أن موقعكم هذا يعتبرني مستشارة، والمستشار مؤتمن.. وهذا يدفعني دفعًا لإخماد صوت الأنثى بداخلي والانصياع لرأي الشرع عمومًا.. مع تحكيم العقل والمنطق لضبط الواقع، وهذا ما فعله أيضًا كل مستشار رجل تعامل مع قضية التعدد، ولقد راجعت كلماتي مرات ومرات علّني أشم أي رائحة للاستهزاء بالرجل، وأنا أحاول أن أذكره بدوافعه للتعدد فلم أجد.. فقد قلت بالحرف الواحد:
"وليعترف زوجك لنفسه صراحة أنه يريد الزواج من أجل التغيير والتجديد والتنوع أو من أجل مزيد من المتعة، على أن يكون مدركًا لتبعات هذه المتعة (وكما يقولون في المثل الشعبي المصري: ما فيش حلاوة من غير نار)"، فهل في كلماتي ما يشين الرجل؟ وعمومًا معذرة لكل الرجال إن وجدوا في كلماتي ما يضايقهم أو يسيء إليهم.
أما بالنسبة لقصة التعميم هذه فالمفترض أنني أرد على مشاكل القراء في صفحة استشارات مجانين، والمفترض أن الرد هنا يعتبر فتوى اجتماعية.. تنطبق على هذه الحالة بعينها وعلى الحالات المشابهة لها في الظروف والملابسات، وأعتقد أنك أكثر مني قدرة -وأنت دارس للعلوم الشرعية- على تفهم الفارق بين من يكتب رأيًا فقهيًّا عامًّا للجمهور وبين من يقدم فتوى خاصة بحالة معينة، فهذه هي سياسة صفحتنا المعلنة منذ بدايتها.. نحن نقدم حلولاً لمشاكل القراء يمكننا أن نعتبرها فتوى اجتماعية تنطبق على حالة السائل صاحب الاستشارة وعلى من لهم نفس ملابسات قصته، ولا نحتاج أن نذكر بهذا الأمر في كل استشارة.
وفي النهاية.. أود أن ألخص رأيي في مسألة تعدد الزوجات انطلاقًا من فهمي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. فالرسول صلى الله عليه وسلم بداية جعل شرط الزواج استطاعة الباءة؛ والباءة هنا لا تقتصر على القدرة المادية كما يتصور البعض، ولكنها تنصرف للقدرات المعنوية والنفسية والجنسية، وتشمل فيما تشمل النضج اللازم لإدارة حياة زوجية واستيعاب وفهم طبيعة شريك الحياة والقدرة على التعامل مع هذه الطبيعة، والجدير بالذكر أن الكثيرين منا نساء ورجالاً يتزوجون الزيجة الأولى وهم لا يملكون مقومات الباءة بمعناها الأشمل، فإذا كانت استطاعة الباءة شرطًا للزواج الأول فإنها بالطبع تنسحب كشرط لازم وضروري عند الزواج الثاني والثالث والرابع.. وهنا يبرز التساؤل الحائر؟ كيف يمكننا قياس القدرة على الباءة؟ وما هي المناهج والسبل التي تمكننا من اكتساب مقومات الباءة؟
وإذا كانت الباءة شرطًا للزواج فإن القدرة على العدل شرط للتعدد.. فهل كل الرجال يطيقون العدل ويقدرون على تبعاته؟ الواضح من الآية الكريمة -والواقع يصدق هذا- أن العدل لا يقدر عليه كل رجل، ومن لا يجد في نفسه هذه القدرة على العدل مأمور بنص الآية الكريمة بالاكتفاء بواحدة، وخلاصة ما أود أن أهمس به في أذن كل رجل.. من حقك أن تتزوج الثانية والثالثة والرابعة، ولكن لا تتسرع.. تروَّ وادرسْ الموقف جيدًا، وتأكد من أنك قادر على تحمل تبعاته ومسئولياته، ولا تتخذ قرارًا فرديًّا جريًا وراء نزوة عابرة، ولكن استشر وتخير أهل الحكمة وضع بين أيديهم قصتك وملابساتها، ولا تختر من تعلم أنهم سيوافقونك على رأيك بدون دراسة للأمر وبدون قيد أو شرط واستخر كثيرًا.
وتأكد من قدرتك على القيام بحق أهلك جميعًا (زوجات وأبناء) فأنت راعٍ ومسؤول عن رعيتك.. وكفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول.
وكما أن هوس تقليد الغرب آفة ابتليت بها مجتمعاتنا.. فإن رد فعلنا النابع من رفضنا لهذا الهوس يعتبر أيضًا آفة وطامة كبرى، فلا يجب أن يمنعنا خوفنا من الوقوع في تقليد الغرب لرفض مراجعة ما عندنا من ممارسات خاطئة، ولا يعني رفضنا مثلاً لنموذج المرأة الغربية المتحررة أن نرضى بنموذج المرأة في عصر الحريم.. المرأة التي لا تتعلم وليس لها حق في أن ترى زوجها قبل الزواج، فضلاً عن أن توافق عليه أو تختاره، ونفس هذه المعضلة وقع فيها المعارضون لقاسم أمين قديمًا، فقاسم أمين كان مطلعًا على أحوال المرأة في المجتمعات العربية في عصره، واطلاعه على أحوال المرأة في المجتمعات الغربية جعله يراجع ما عندنا من أوضاع ويقيمها على مقياس الشرع، وعندما وجد أن أوضاع المرأة العربية والظلم الواقع عليها يتنافى مع ما جاء به الشرع الحنيف.. كتب كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديد"، وقوبلت آراؤه بالرفض الشديد ممن يحملون لواء الإسلام ويرفضون تقليد الغرب على الإطلاق، وكان الأولى بهم أن يفكروا بعقلانية وأن يدركوا أن الإسلام ينادي بالوسطية "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا"، وأن التطرف في أي اتجاه يتنافى مع ما جاء به الشرع الحنيف، وللأسف فقد تركنا هذا الفكر ليستثمره من ابتعد به تمامًا عن نهج ووسطية الإسلام.
وخلاصة ما أريد أن أقوله أن نتجنب الوقوع في فخ الخوف من هوس تقليد الغرب فنرفض كل ما عندهم... فالله سبحانه بفضله وضع لنا معيارًا نعاير به ما عند غيرنا.. لنأخذ منه ما يناسبنا ويصلح أحوالنا ونضع عنا ما لا يناسبنا أو ما يتعارض مع شرعنا، وبتطبيق نفس النموذج على مسألة التعدد.. لا أرى أنه من الحكمة أن يدفعنا رفضنا لمسلك الغرب في منع تعدد الزوجات مع السماح بتعدد العلاقات غير الشرعية لجعل التعدد حقًّا لكل رجل بدون قيد أو شرط، واتهام كل من يحاول أن يعيد الأمور إلى وسطية الإسلام بأنه واقع في هوس تقليد الغرب، والأولى بنا أن نتحاور سويًّا حول وضع أسس وضوابط مجتمعية تضمن ألا يتم التعدد إلا في إطار يضمن حسن تطبيقه، بحيث لا يتسبب سوء التطبيق في الإساءة للإسلام أو في وقوع الضرر على الأسرة الأولى، ولا يكفيني في هذا الصدد حسن الظن بالرجال، فالواقع يبين لنا أن الكثير من الرجال -ومثلهم الكثيرات من النساء كما قلت مسبقًا- لا يقدرون على تحمل تبعات زوجة واحدة بأولادها، فهم لا يقدرون على تحمل التبعات النفسية والعاطفية والتربوية للأسرة الأولى؛ فهل نسمح لهؤلاء بالتعدد على الإطلاق خوفًا من الوقوع في هوس تقليد الغرب؟!!
أخي الكريم:
أشكرك مرة أخرى على إيجابيتك، وأسأل الله سبحانه أن يرزقنا حسن الفهم وحسن العمل.
ويتبع>>>: حافية القدمين.. شوك البراءة وألغام الحنين مشاركة