السادة الأساتذة والأستاذات في هذا الصرح الطيب..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فهذه معضلتي أبثها إليكم، لعل وعسى أن أجد فيكم الناصح الأمين والواعظ الكريم في شأن أمانة عظيمة كلفنا بها.. قصتي تبدأ منذ أن كنت ابنة الخامسة.. فمنذ ذلك الحين انقطعت علاقتي بأبي، كنت ولا زلت الابنة الوحيدة في الأسرة، وكان لي عنده حظ من الدلال لا بأس به، ومكانة في الحب كبيرة، إلى أن وصل بي العمر إلى السادسة والتحقت بالصفوف الأولى في المدرسة، عندها بدأت العلاقة في الانتكاس، لكني لم ألحظ ذلك لصغر سني بالطبع ولقربي الشديد من والدتي، حتى إنها عوضت حرماني من الأخت وكانت خير صديقة لي على مدى سني العقدين من عمري، وكانت علاقتي حينئذ بأبي من خلال هذا الحنان الدفاق والتفهم والتقاسم لكل المشاعر والأحاسيس بيني وبين أمي.
مرت الأيام وكبرتُ وزادت المسافة بيني وبين أبي، لا أشاركه إلا بعض المزحات أو المواقف العامة حينما يكون في مزاج حسن، ولما نمت عندي بعض الهوايات كان هو المرجع الذي آخذ منه الخطوط العريضة لاهتماماتي، لا لشيء سوى أنه في نفس مجال تخصصه ودراسته، باختصار: كانت علاقتي معه سطحية رسمية، لا قاسم مشترك بيني وبينه سوى اهتمامنا بنفس الفرع في إحدى العلوم، في حين كانت علاقتي الجيدة مع أمي آخذة في الحميمية حتى نضجت هي الأخرى وتحددت معالمها، وأصبحت صديقة الأمس الأم التي ما زالت تخاف وتخشى على ابنتها من كل شيء، كأنها لا تفهمها كما كانت من قبل حين كانت صديقتها الوحيدة.
منذ أكثر من عامين بدأت الخلافات تأخذ حيزا كبيرا في علاقة أمي وأبي، وتدهورت لدرجة الخطورة، حتى وصلا لانفصال كامل فعلي، واتصال شكلي بوجودهما في نفس المنزل فقط ومع نفس الأبناء، ولكل واحد منهما حياته الخاصة.
كانت أمي هي الحبل الذي يصلني بأبي، والآن انقطع هذا الحبل بيني وبينه، فلم تعد لأمي علاقة به، ووجدت نفسي في العراء وحدي، بينما يزداد أبي ابتعادا عني حتى لا أكاد أراه في أفق ناظري.
أبي يعاني من الاكتئاب منذ الطفولة، وكانت أمي مصدر أمان كبير له، وهو الآن متدهور نفسيا لنضوب هذا المصدر، وهذا ما يزيد الطين بلة، فلا بقي الحبل الذي يصلني به، ولا تغير شيء فيه ليبني عرى جديدة أستطيع تكوينها وحدي معه، لأرتبط معه في قالب من صداقة أو حتى أبوة.. أنا أرقة وقلقة لحد كبير.. بالطبع هذه الأحداث أثرت على كثيرا، وتركت حزنا وهما أحملهما معي دوما، لكني لا آبه لكل هذا، فقد نضجت وآن الأوان لأقابل امتحانات الدهر وأخوض غمارها.. لكن ما يؤرقني لدرجة الخوف هو شيء واحد؛ خوفي من عقوق الوالدين، وبالطبع أقصد هنا عقوق أبي، فلا زالت علاقتي ممتازة بأمي، لكن الحبل الذي كان بيني وبين أبي قد انقطع.. وبدأت أشعر بأني أقصر كثيرا في حق أبي.
لكل منا طرق أو شخصيات أو أشياء لا تروق له في الحياة، ولا يستطيع التعامل معها، ويكاد يتنافر معها كما يتنافر القطبين المتماثلين.. هكذا كانت علاقتي بأبي على الدوام، وهكذا كنت بعيدة عنه طيلة حياتي، لا يبادر بطرح فكرة إلا وأجدها غريبة مخطأة لا منطقية، ولا أبادر بإلقاء جملة إلا ويجدها مهاجمة مستفزة منفرة، وأحيانا نتصادم فأهرب جاهشة بالبكاء على سريري.. كل منطقه وأفكاره وعباراته مستفزة بالنسبة لي، والعكس صحيح؛ فهو يجد مني نفس ما أجد منه.. ما زالت الهوة تتسع أو تبقى كما هي على الأقل.. لكن خوفي باق؛ فمهما أحاول أن أتفهم أبي وأن أرضيه أجد نفسي بعيدة كل البعد عنه، ويكبر خوفي وقلقي من عقوقه.. فهل أنا عاقة له بشكل هذه العلاقة؟
أنا بالتأكيد أحب أبي وأحزن عليه كثيرا لمرضه وضعفه. لكن يقابل ذلك الكثير من الغضب على بعض تصرفاته -البعيدة عن كل الضعف- تجاه أمي أو أقاربي أو إخوتي.. أعذره لدوافعها (المرض) لكن لا تزال تلك المشاعر تبعدني عنه وتعمق خلافي معه.. فهل أنا عاقة له؟
أرجوكم.. أريد أن أنال بر أمي وأبي كليهما، وأن يكون سببا في رضا الله عني جل وعلا. أنا أبحث عن طريقة أقصر بها المسافة بيني وبينه، وأعمق بري له وإحساني، فهل تساعدونني؟
أعتذر فقد أثقلت عليكم بطول سطوري، لكني أرى أنها مسألة أخروية تترتب عليها سعادتي الأبدية، وأجد العذر في إطالتي هذه التي أرجو أن تكون قد أوضحت لكم صورة ما أكابده.
جزاكم الله خير الجزاء، وأثقل موازينكم بكل ما تنصحون وتعينون.
19/12/2023
رد المستشار
ما أعظم هذا الدين الذي يربط بين الدنيا والآخرة، وبينهما وبين العلاقات بين الناس، فلا نجاة في الآخرة إلا بحسن معاملة الناس في الدنيا، والأقربون أولى بالمعروف.
تقولين إنك قد نضجت يا ابنتي، والإنسان الناضج يستطيع -دون غيره- ألا يربط علاقته بالناس -والمثال هنا والدك- بمواقفهم أو آرائهم، فمن يبني مواقفه أو علاقته بأبيه على مجرد تصرفات هذا الأب، أو آرائه أو كلماته أو هجومه، فإن فعله تجاهه يكون مجرد "رد فعل" على ما يقوم به هذا الشخص أو مجرد نتيجة لتراكمات سابقة أو حديثة، هذا الوضع -وسامحيني- لا يعبر عن أي درجة من درجات النضج!!
الناضج في علاقته بالناس -خاصة بوالديه- هو الذي يصدر عن موقف ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر بغض النظر عما يفعله الطرف الآخر به.
غاية ما ينبغي عليك فعله تجاه ما ترين أنه خطأ يرتكبه والدك في حقوق الآخرين -وليس مجرد الاختلاف المقبول في وجهات النظر- أن تشيري إلى أن هذه الأفعال من بعيد، ومن آن لآخر، دون لوم أو تقريع، لعله يتفكر أو يخشى.
ثم من قبل ومن بعد عليك أن تنطلقي في إكرامه بالاستماع إليه، والاقتراب منه، ورعاية شئونه، وتوفري على نفسك وعليه الصدام حول الطرق والأشخاص والأشياء التي تروق لك أو له في الحياة، فهذا الأسلوب من تجاوز الأمور البسيطة وحسن المعاملة هو جوهر البر الذي يختلف بطبيعته عن المعاملة بندية، أو المعاملة بالمثل، أو ما يقترب منها.
تراجعني الآن زوجة تعاني من اكتئاب متوسط، ومن صفحات حياتها أنها لم تنتبه إلى نقاط كثيرة مضيئة كانت في والدها إلا قبيل وفاته، بسبب مواقف والدتها منه خلال خلافاتهما سويا، ولا أحب لك أن تقعي في مثل شعورها الحالي بالذنب.
اجلسي إلى والدك مصغية متأملة لا مناقشة أو مجادلة، ولا نقادة أو ناظرة إلى الخطأ متحفزة لاصطياد الاختلافات، وستجدين الكثير من النقاط التي يمكنك الدخول إليه منها والتواصل معه فيها.
ولنا إجابات سابقة عن العلاقة بالوالد وتحسينها أرجو ألا تترددي في مراجعتها ففيها الكثير مما يفيدك، وبالمناسبة أرجو في المرة القادمة أن تستكملي ملء بياناتك، وشكرا لك.
واقرأ أيضًا:
أنا وأبي مطارق وقواقع وصخور!
علاقتي بأبي وأمي بدون مشاعر!
أنا وأبي واحترامه، وتأنيب الضمير!