السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في البداية أشكر لكم جهودكم الطيبة في خدمة الإسلام وأهله، وأسأل الله أن يباركها لكم، ويجزيكم خير الجزاء.
ترددت كثيرا في الكتابة لكم عن مشكلتي؛ لأنني أظنها أعقد من أن تُحصر في سطور لكن ربما استطعت أن أوصلها لكم فاعذروني إن أطلت في رسالتي هذه. أنا طالب في كلية الهندسة السنة الثانية -20 عاما-، وأظن أن مشكلتي بدأت بالنمو منذ كنت في بداية الثانوية، حيث بدأت الانتفاضة وتوقف كثير من الناس عن العمل ومنهم والدي، إذ بدأ الوضع الاقتصادي لدينا بالتدهور حتى بلغت الديون حتى الآن مبلغا عظيما -وأظن أن هذا هو الطرف الأول للمشكلة- وبطبيعتي فأنا أفكر كثيرا بالحاضر والمستقبل ومنه أني أحسب ألف حساب لما هو آتٍ فبدأت نفسيتي تتعب كثيرا من التفكير في وضعنا ومن أين ننفق؟ وكيف سألتحق بالجامعة وأكمل دراستي؟ فحاولت أن أعمل ولكن هذه المحاولات لم يكتب لها الاستمرار، وما إن بلغت الثانوية حتى بدأت الأمور لدينا تتعقد كما كنت أخشى وبدأت تكثر المشاكل العائلية التي أثرت كثيرا فيّ، وكان لها بعض الأثر على تحصيلي الدراسي.
وهكذا صارت مجموعة هذه الأفكار -من وضع اقتصادي ومشاكل من كل الألوان بالإضافة إلى وضع الشعب الفلسطيني الذي يدمي القلب- صارت تسيطر على فكري فلم أعد أركز في دراستي، وبدأت أشعر بضعف في تحصيلي العلمي، وأحيانا بضعف في ذاكرتي، مما زاد في همي فقد كنت الأول دائما في مدرستي، وكنت أعد من المبدعين في مجالات عدة، وحصل ما كنت أخشاه فلم أجنِ التفوق الذي كنت أطمح إليه، إذ كانت العلامة محبطة لي ولكل من عرفني (حوالي 94 وأعشار)، وبدأت أشعر من حينها بعدم ثقة بنفسي.
وهكذا وبعد أن التحقت بالجامعة (وفتحت حسابا خاصا لديوني بالإضافة إلى ديون أبي) أمضيت سنة كاملة من الدراسة وأنا لا أشبه الطلاب أبداً، فقد كنت أعمل وأذهب للجامعة في المناسبات مما أدى إلى حصولي على أسوأ العلامات الجامعية (بين الجيد جدا والجيد).
كنت أظن أن هذه العلامات هي نتيجة طبيعية لعدم دراستي وعدم انتظامي في الدوام، وبعد بداية السنة الحالية لم أعد أجد عملا فرأيت أن أنتظم في دراستي، وأحاول أن أركز كما يفعل الطلاب، ولكن كانت المفاجأة أنني لم أعد أستطيع تحصيل علامات كما يفترض بي فجميعها بين الجيد والمقبول. صدقوني صرت أتمنى أن أرى تقدير (ممتاز) مع أنني كنت لا أعرف سواه.
ومن هنا بدأت الأمور لدي تسوء، فبعد أن كان الفشل دافعا لي للمحاولة من جديد، وكانت العزيمة تتغلب كل مرة على أفكار اليأس لدي، لم أعد أجد في ذلك أي جدوى، فقد سئمت من انتحال الأعذار لتبرير فشلي في كل مرة، وكان لا بد لي من مواجهة الحقيقة وهي أنني لم أعد ناجحا في شيء، فمن فشلي في الثانوية ثم فشلي في عملي. إلى آخر محطة بلغتها وهي دراستي الجامعية.
فكم وقفت وقفات تأمل في نفسي لأعرف ما جرى لي، فحينا أقول هو عدم التركيز، وحينا أقول هي الهموم تفعل فعلها، وحينا أقول ربما كنت أحاسب على ذنوب لم أنتبه لها، وحينا أظن أن الضعف بدأ ينهش ذاكرتي فلم أعد الإنسان الذي يستحق أن يعيش لهدف، أو أن يتميز في الحياة، الأمر الوحيد الذي أعرفه أن الحال الذي وصلت إليه ليس هو وضعي الطبيعي، لم أعد كما كنت أبدا، لقد أصبح يسكن في داخلي شخص آخر (أو شيء آخر)، وقد أوشك أن ينتهي شخصي القديم.
صدقوني دخلت تخصص الحاسوب؛ لأنني كنت أعد مرجعا في هذا المجال في المدرسة، فقد أتقنت البرمجة بعدة لغات بدون معلم، وأتقنت الصيانة، والتصميم بأنواعه، وتمديد شبكات الحاسوب، وعملت كمدرس في معهد للحاسوب. نعم أتقنت ذلك وأكثر منه وأبدعت بشكل مبهر (بشهادة الجميع) كل هذا كان في خلال سنتين من اقتنائي للحاسوب وقبل الثانوية، لدرجة أن المدرسين كان يأتون لسؤالي في هذا المجال ويثقون في إجابتي، وقد قال مدرس الحاسوب مرة إنني قد سبقته في علمه.
والآن أقف وقفة العاجز، وأكاد أفقد آخر أمل لي في حياتي وهو دراستي... عندما أفكر في نفسي لا أجد غير البكاء المر.. نعم أبكي على ذلك الشاب الصغير المتميز الذي كان موضع انبهار كل من عرفه... يا ترى أين ضاع وأي المسالك سلك، أين عصفت به ريح الزمان وغيبته؟ هل سينتهي أمري وأنا أعاين نفسي فلا أعرف ما مصابها؟
حاولت أن أبحث عن حلول، لجأت إلى الدعاء بإلحاح، اتبعت طرقا عدة للدراسة، عملت على السيطرة على مشاكلي التي عرضت عليكم بعضاً منها، قمت بذلك بعزيمة وإصرار.. لكن لم أنجح حتى الآن بتحقيق أي تقدم.. لا أرى سوى التراجع المستمر في تحصيلي وفي عقلي، وموت بطيء لقلبي. بعض زملائي قال لي إنك لا تركز في دراستك، وبعضهم يقول: إنك ترغب في عمل كل شيء في وقت واحد، وأمي تقول دائما: إنك منذ صغرك أنت تحاول احتضان الدنيا وحمل كل مشاكلها... ربما كنت كما قالوا أو لم أكن... ولكن هل هذا يجعلني أسوأ طلاب القسم، وهل أنا الوحيد الذي يعاني من مشاكل؟ في الحقيقة لا أدري أين وكيف أجد العقدة؟
أحيانا تراودني أفكار بأني ربما لم يكتب لي التوفيق أصلا، فمن أين آتي به؟ وأحيانا أخرى أتخيل أن عقلي وصل إلى حد ربما لم يعد قادراً فيه على مواكبة الحياة العلمية، أو ربما بدأ يضعف لمرض قد يصيبه. أرجو المعذرة إن كان في ما رويت بعض التخبط أو إن كنت قد بالغت في عرضي، فإنما هو لشدة اضطرابي، وانهيار أعصابي، فإني والله أكتب لكم الآن ولا أملك الدمع والأحزان تملكني، أحس أن الدنيا تضيق في وجهي، أرى مستقبلي يتدمر، وأحلامي تتبخر، وآمالي العريضة بدأت تخيب.. لقد كنت إنسانا طموحاً لأبعد الحدود، كان كل همي -رغم كل شيء- أن أتعلم وأبدع وأتفوق لأسخر كل ذلك في خدمة الإسلام وأهله، فكم من الأفكار العظيمة كنت قد وضعتها نصب عيني وسخرت لها نفسي، وكنت شديد الثقة أنني سأوفق في تحقيقها وصنع الكثير، وأنني سأترك بصمة في صفحات تاريخنا المجيد، كنت أرى نفسي أحد جنود الإسلام الفاعلين المفكرين والعاملين، كنت أعيش لهدف سام وأرى نفسي هناك مع العظماء الذين عز بهم الإسلام وأعزهم، لمَ لا وقد منحني الله تلك المواهب بالإضافة إلى ذكاءٍ ووعي ووضوح في الرؤية وسموٍ في الهدف وعزيمة صلبة، نعم هكذا كنت وهكذا أريد أن أكون.
أما الآن.. وقد بدأ الوهَن يرمي بي بعيدا إلى شواطئ الخيبة.. فإني أتمنى أن أفارق الحياة قبل أن أرى نفسي ملقى في هامشها.. صدقوني أتمنى الموت من كل قلبي على (أن أمر بلا عِداد).
أرجوكم إن كنت قد عرضت ما يكفي من أمري فأخبروني ماذا تقرءون فيه، وإلا فأنا مستعد لتوضيح أي نقاط غامضة، فما أريده منكم -جزاكم الله خيرا- تقييم أمري وعرض الحلول الممكنة، أنا أعرف أن معظم جوانب مشكلتي ليس لها حل -إلا أن يشاء الله- مثل الأزمة الاقتصادية التي قد تؤدي إلى توقفي المؤقت أو غير المحدود عن الجامعة، والمشاكل العائلية، بالإضافة إلى ذلك المستوى من الإحباط واليأس الذي أصبح بعضا من كياني، لكن ربما يكون لكم نظرة أخرى فأدركوني قبل أن تفقدوني.
أرجو أن تحاولوا الرد على هذه الرسالة حتى لو لم تعرضوا الحل فقد يكون في ذلك ما يشفي وإن كان لا يجدي،
وجزاكم الله كل خير. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
5/1/2024
رد المستشار
الأخ الكريم، مشكلتك شغلتني كثيرًا، وفتحت أمامي أبواب التأمل في حالك وأحوال أمتنا المسكينة المصابة في عقلها بخلل، وفي مشاعرها بالإحباط، والملل، وفي إدراكها لدينها وذاتها وموضعها في العالم حاليًا بتشويش كبير، والله هو الشافي.
يا أخي حالتك واضحة مثل الشمس لا تحتاج إلى دليل أو تفصيل أو كثير تخمين أو حيرة، فأنت يا كريم تعاني من ضغوط هائلة على المستوى الخاص والعائلي والعام، وضغوطك وهمومك متداخلة يسلمك كل منها إلى الآخر، وتتكاثر عليك يوما بعد يوم فتتأخر دراسيًّا، ومن ثم تتضاعف معاناتك، وضغوطك.
ومن أسخف ما نعيشه بحياتنا هذا الجهل الفادح بأبسط بديهيات العلم فيما يخص الصحة النفسية، فمع الضغوط الهائلة التي تتعرضون لها في فلسطين لا نجد الانتباه الكافي من بقية العرب والمسلمين إلى أهمية دعم جهود نشر الخدمات الصحية النفسية لتكون في متناول الجميع من أهلنا عندك في أرض الرباط، ولعل معظم أموال الدعم تنصرف في مجال الخدمات الإعاشية والجهد العسكري والتسليحي "ربما"، ولأننا بدائيون -لم نزل- في توجيه دعمنا وإدارة شؤوننا في مواجهة أعدائنا تأتي جهودنا في مجال الصحة النفسية أقل من المطلوب بكثير.
أقول هذا وأنا أعرف الكثير من إخواني وأخواتي العاملين في هذا الحقل على أرضنا بفلسطين، وجهودهم مباركة ومشكورة، وجزاهم الله خير الجزاء، ولكنها تحتاج إلى دعم مضاعف ماديًّا وفنيًّا، ولا أعتبر نفسي فيما أقوله هنا مبالغا بدليل شاب متميز مثلك لم تصله معلومة واحدة صحيحة عن مرض الاكتئاب، أو ضللته الدعاية الجوفاء التي تطبق لها أجهزة الشحن المعنوي والإعلامي المسماة بالفضائيات العربية وغيرها من الأجهزة التي تحرق طاقات أهلنا في فلسطين حين تعرض لنا صور الصمود والمعانات، ولكنها لا تقوم بالمطلوب منها في عرض خلفية هذا الصمود، وفي عرض الحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية لشعبنا البطل، والمعاناة التي أقصدها والحالة التي أعينها أكبر وأعمق وأوسع من هدم بيت أو فقدان عائل لأسرة أو إصابة أو مصرع شاب أو طفل.
المعاناة اليومية لأهلنا في فلسطين هي الثمن الفادح لشعور البعض منا بالفخر والاعتزاز، والكرامة والاحترام للذات، وأغلبنا يحصل على هذه المشاعر الإيجابية دون أن يدفع الفاتورة إلا ببعض الصراخ والدموع، وأحيانًا الدعوات في الصلاة، والمطلوب أكبر من ذلك بكثير.
المطلوب حلول عملية لمشكلات واقعية عندما نغض الطرف عنها نصبح أقسى على أهلنا من أعدائنا الصهاينة فيرددون مع الشاعر "يا جيرة الحي جرح الخصم يكفينا". إذا لم تهبُّ الأمة كلها لتقديم دعم حقيقي مدروس ويغطي جوانب المعاناة ويتعامل مع المشكلات، فيصبح دور الفلسطيني هو مجرد المواجهة -وهي كثير- بينما يطمئن على بيته وعياله، أو دراسته وأسرته... إلخ، إذا لم نفعل ذلك فلنكف عن الصراخ الأجوف، وزخرفة القول عن الجهاد والمجاهدين؛ لأن للجهاد فقها يتضمن شروط من يريد أن يكون غازيًا، ويتضمن دورًا هامًّا وأساسيًّا لمن يخلفه في أهله وشؤونه وتجهيزه، والشعارات والكلمات الجوفاء لا تطعم جائعًا، ولا تعالج مريضًا.
أعود لحالتك لأقول لك يا أخي الكريم، إن هموم حياتك قد نالت منك بما أوصلك إلى حالة مرضية تختلط فيها أمراض القلق مع الاكتئاب، وهذا شيء متوقع لمن هو في مثل ظروفك، ودع عنك ما تسمعه من كلمات جوفاء لا علاقة لها بالعلم أو العقل أو صحيح الدين، فالمؤمن يمرض نفسيا، كما يمرض عضويا وهو في الحالتين مطالب بأن يأخذ بالأسباب، ويتعاطى العلاج اللازم لحالته، ولو أنك قرأت لنا ما كتبناه على صفحتنا كثيرًا فيما يتعلق بالاكتئاب وأعراضه وعلاجاته لعرفت أنه مرض مثل كل الأمراض له أعراضه وطرق السيطرة عليها، وهو يصيب المؤمن والكافر، الذكي والغبي، الفلسطيني والأمريكي.
أرجو ألا تعتبر كلامي هذا بمثابة تشخيص لحالتك فنحن لا نفعل هذا على صفحتنا؛ لأنه غير صحيح علميًّا، ولكن يلزمك العرض على الطبيب المتخصص، والانتظام في العلاج بالعقاقير التي يصفها لك لفترة قد تمتد لشهور، وأحسب أن النتائج ستكون ممتازة بإذن الله، فتستعيد نشاطك وتركيزك، وربما تلوح أمامك فرصة لتدارك ما فاتك دراسيًّا بمنحة في الخارج أو نحو ذلك، وإذا حدث هذا أرجو ألا تتردد، ولا تعتبرها هروبا من المواجهة، فالرباط من أجل فلسطين، وخدمة شؤون المسلمين لا تتحيز في مكان ولا زمان، ولكن معركتنا هذه ممتدة -لمن يريد الاندراج فيها- حتى ننتصر بعون الله، وسننتصر حين نفيق ونستطيع التفكير السليم، والتخطيط السليم، والعمل الدقيق بوعي واستمرار، وأنا أدعو الله لك، وأنتظر منك الكثير بعقلك المتميز، وقدراتك المتعددة، وفقك الله، وتابعنا بأخبارك
ويتبع>>>>>>>: ثمن الصمود الفلسطيني: مشاركات ومقترحات