السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأساتذة الكرام د.سحر طلعت ود.أحمد عبد الله حفظهما الله ورعاهما.
اطلعت على المشكلة التي سطرتها الأخت بعنوان أبتسم وقلبي يحترق.. وحيدة رغم الزحام!، ودعوني لأقول بأني أحسست كثيرا بها؛ لأنها تقريبا نفس الحياة التي عشتها وأعيشها مع فارق في جانب دون الآخر أوضحه خلال حديثي.
ولعل تقاربي في فهم مشكلتها ينبع من أنني أعيش في نفلس البلد الذي تعيش فيه؛ حيث يطلق علينا كعرب مغتربين لفظ "أجانب"، ولا يحق لك التعليم إلا في حدود معينة تنحصر بالتعليم الأساسي فقط. أما الجامعي فممنوع منعا باتا، ولم يسمح لنا إلا في السنة الحالية بشرط عدم مجانية التعليم، وفي تخصصات أدبية وليست علمية أو عملية.
أنا أكتب وأنا أعيش في هذه اللحظة مرحلة عمرية متقدمة نوعا ما؛ فأنا على مشارف الثلاثين من العمر، ولكن الحياة لم تتغير بالنسبة لي؛ بل بالعكس زادت برودتها وقتامتها، وصرت أرى نفسي جبلا من العقد النفسية والعزلة الاجتماعية؛ فمع الحرمان من الحق في التعليم الجامعي وخوف الأهل ورفضهم من السفر للدراسة، وبعد سنتين من الانقطاع عن الدراسة بعد الثانوي؛ وهو ما كان له أكبر الأثر في نفسيتي رغم تفوقي العلمي.. درست بتوفيق الله تعالى بنظام الانتساب في إحدى الدول العربية بنظام الاختبار في سفارة الدولة.
وقد تخرجت بتفوق، وكنت الأولى في كل سنوات دراستي رغم أن مجال الدراسة كان بعيدا تماما عن طموحاتي ومجالي في الثانوية العامة؛ فأنا كنت في التخصص العلمي، واضطررت للانتساب لدراسة الأدب العربي، وتحملت ذلك لحبي للغة، واعتبرته قدرا أحمد لله عليه، ولا أتجزع منه، ولكن في نهاية المطاف لا عمل غير البيت لأني أجنبية.
وأنا هنا لا أشكو قدر الله، ولكني أعرض المشكلة في معنى أعمق، وأراها تتكرر حتى في أجيال جديدة بدؤوا حياتهم بالغربة في البلدان العربية، وهنا تكمن أول علامة استفهام في حياتي وحياة كل أبناء العرب المغتربين في الدول العربية؛ حيث يعامل فيها كأجنبي لا يحق له كل فرص التعليم ولا العمل ولا التملك ولا حتى الجنسية، رغم أنه من أبنائها، وهذا يوقفنا أمام لحظة مرارة تجاه قرار آبائنا في الغربة.. هل كان صوابا أم لا؟ وهنا أقع في وخز الضمير من العقوق، وأسأل نفسي: هل بعد تحملهم كل ما تحملوه في سنوات حياتهم نأتي لنقول لهم في نهاية المطاف: أنتم أخطأتم؟؟ بالطبع لا.
ولكن الأمر لا يقف فقط عند التعليم أو العمل مع حاجة الإنسان لهما، ولكن لهذه الغربة انعكاساتها النفسية تتمثل في العيش بشكل منعزل عن تفاعلات الحياة في المجتمع الذي نعيش فيه؛ فأنت لا تختلط بالمجتمع، ولا تعرف حق المدنية أو المواطنة، ولا يحق لك المطالبة بالحقوق، ونحن نسمع كلمات نحس أنفسنا أميّين في فهمها حين ترد في الإعلام أو على ألسنة أبناء الأوطان الأخرى مثل: حقوق الإنسان، المساواة، حق التكافل الاجتماعي، الحق في اختيار الحكم، رفض الاستبداد ولو من مدير في العمل أو مدرس في المدرسة.
ولا تدرون مدى التفرقة التي كنت ألمسها من قبل المدرسات بين الطالبات لاعتبارات دنيوية مما ترك أثره السلبي في عقلي ونفسي، ولم نستطع مواجهة هذه التفرقة للخوف بأننا ليس لنا الحق في إبداء الاعتراض.. هذه العقلية في أنك لا حق لك في أمر، ويكفي أن تعيش لتأكل وتنام، واترك عنك كلام الجزيرة وغيرها.. سيطرت علينا وعلى آبائنا حتى في تربيتهم لنا؛ فأي مطالبة بحق ولو على مستوى الأسرة ستؤدي حتما إلى الاصطدام، وينظر إلى صاحبها بنظرة العقوق والجحود ونكران الجميل.
وقد اقترح د.أحمد عبد الله على السائلة أن تمضي وقتا في الإنترنت كنوع من العلاج، ولكن حتى هذه ليست حلا جذريا، إنما هو فقط تسلية وقت وراحة من أفكار ما تلبث أن تملأ العقل والنفس بالكمد فهي لا تغير الواقع.
والقول بأن الإنترنت قد تكون مجال عمل وأنها سفينة النجاة للشباب أعتقد أن هذا كلام أسطوري في حق الشباب العرب، وهو لا يطبق على كل البيئات؛ فمساحة الحرية في التعامل تختلف من بلد لآخر، ونحن ما زلنا متخلفين كشعوب في التعاطي مع الإنترنت والمعلومات كما يقرر ذلك تقارير الأمم المتحدة العربية والعالمية. وقد حاولت مرارا ما ذكرت ولم أنجح، وما زلت أحاول، ولكني تعبت؛ لأن ذلك كلفني الكثير من شراء بطاقات الإنترنت وفواتير الهاتف التي شكلت مشاكل مع عائلتي مع عدم وجود عائد مادي ثابت أو مقابل، فضلا عن أن كل مواقع الإنترنت -وهذا من حقها- تطلب مواطنين يتمكنون من السفر والترحال والحيوية؛ حيث يعيشون، وهذا ما لا يتوفر لنا كأبناء عرب في غير بلدانهم أولا وأكثر من ذلك كفتيات عربيات مسلمات، قد لا تستطيع القيام بالعمل المطلوب لاعتبارات بيئية وتقاليد اجتماعية. وحتى عندما أغفلت العنصر المادي، وطلبت العمل بشكل متطوع كنوع من العلاج النفسي كنت بحاجة إليه مع مواقع عدة، ومن ضمنها موقع "مجانين.كوم" لم أواجه بالرد إلا على سبيل الانتظار الذي يقرب من 9 أشهر دون تكليف بعمل أو نحو ذلك.
وهناك ثانيا:
الفتيات العربيات المسلمات اللاتي عشن في بيئات ترفض التعامل بين الرجال والنساء؛ مما رسخ في خلدي خطأ الدول العربية التي أقرت الاختلاط، وخصوصا ما نراه ونسمعه عن مشكلات مجتمعاتها وحركات تحرير المرأة المزعومة، ولكن هذا الأمر سبب لنا اليوم التناقض المرير؛ فقد تربينا على فكر تحريم الاختلاط العمر كله، وفجأة ومع الضغوط الغربية على الدول المحافظة في إفساح المجال أمام المرأة صرنا بين أمرين:
الأول: هل نرفض الرأي الديني الذي عشنا عليه في عدم جواز الاختلاط.
الثاني: أم نرفض المجتمع وننعزل ونتمسك بما تربينا عليه العمر كله؟
خصوصا مع ضعف السلطات الدينية ودخولها في أزمة الإرهاب مع دولها والعالم كله، وصار المطلب هو الحفاظ على ماء الوجه، وعدم الظهور بمظهر المتشدد أو المتطرف في الدين، ومنها الموقف من مسألة المرأة عموما!
والسائلة في مشكلتها واضح أنها تعمل، وهذا يعني أنها تغلبت على مشكلة الأجانب في العمل، ولكنها قالت بأن طبيعة عملها مع رجال ولو بالهاتف، وهذا لا يكون إلا في طبقة خاصة من القطاع الخاص قد لا يوافق عليها كل الأهل في أن تعمل بناتهن في هذه المجالات لعدم وجود الطمأنينة أصلا في النظرة إلى الرجل المتعامل مع المرأة، فضلا عن المرأة المتعاملة مع الرجال، وربما خوفا من الوقوع فيما حصل للسائلة من حب المدير وسير الأمور إلى ما لا تحمد عقباها، لا قدر الله.
وأقولها بصدق:
إني شخصيا تجاوزت هذا الأمر، وعملت في مؤسسة تحتوي على أقسام منفصلة للرجال والنساء رغم التعامل بينهما، ولكن الفكر المتخلف الذي تحكم طويلا في علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع المحافظ لم يستطع أن يرسخ العفة في نفوس الجنسين حتى ذوي التدين منهم، من أخذوا الدين مسيرة معاش دنيوي لا خلقا يعيشون به دنيا وأخرى؛ فوقعت بسذاجتي في منحة ما زلت إلى الآن أعاني منها وتصيبني بالهزيمة أمام مبادئي وديني؛ وهو ما لا أرجو أن تقع فيه السائلة. فنحن يا أختاه ضعيفات في مجال التعامل مع الرجال حتى لو كان أسلوب تعاملك صارما معهم، وكنت مثلك في ذلك؛ لأننا ما تربينا على كيفية التفريق بين الرجال، والرجل في حياتنا منزه لا يرفض، ففوجئنا في الحياة بأنهم كالنساء يحكم عليهم ولا يحكمون على غيرهم.
أعرف أني أطلت.. ولكن نقطة أخيرة؛ فقد طلب الدكتور أحمد عبد الله منها أن تغير من أسرتها، وتتقرب من أهلها. وحقيقة يا دكتور فلقد جربت ما قلته، ولكن النتيجة لم تكن متوقعة؛ فقد تحولت إلى "مفرغة آلام" لعائلتي، وكان علي أن أقدم الغير على نفسي؛ وهو ما أصابني بعقدة فقد الاعتبار لذاتي؛ حيث إنني صرت العاقلة التي تقدم الخير للغير؛ فكيف لها أن تظهر بصورة المطالبة أو المحتاجة؟ وهو ما أثر علي في تعاملي مع الناس؛ وهو ما أوقعني في منحتي التي لم أجد أحدا يستمع إليّ خلالها؛ فإن "العاقلة لا تخطئ".
هناك شجون كثيرة وتبعات أعمق؛ لمجرد أن تكون الحالة فردية، وأنها مشكلة وسط العائلة فحسب.. بل إنها مشكلة أفراد عاشوا على هامش الإحساس بالحياة.
وبهذه المناسبة أود من موقع "مجانين.كوم" ألا يكون مثاليا في عرض حلول المشكلات قبل التعرف على بلد الشخص والبيئة العائلية، وأن يؤخذ بعين الاعتبار أوضاع العرب في البلدان العربية المغتربين منهم؛ لأننا ثمار مجتمعاتنا وتراكماتها، ولسنا مقتطفات جزئية فحسب؛ فأنا أخيرا أعرض عليكم مكامن التناقضات التي نعيشها اليوم كجيل عربي مسلم:
1. عدم التمتع الكامل بحقوق المواطنة.
2. الخوف من العقوق للوالدين.
3. عدم معرفة كيف نطالب بحقوقنا، وهل لنا حقوق أصلا؟ وما هي؟
4. الفكر الديني الجامد، والقطرية في الخطاب الديني.
5. ما نواجهه بعد فورة الإعلام الحديث من الاطلاع على أفكار ومجتمعات لم نعرفها، وصادَم الصواب لديها كثيرا من معتقداتنا القديمة.
6. العلاقة بين الرجل والمرأة.
7. حالة فقدان القدرة على الاختيارات لعدم وجود هذه الخيارات أمامنا؛ فليس سوى الواقع ولو كان ضد المواهب والطموحات.
8. القفزة في المجتمعات العربية دون نظر إلى تراكمات التعليم والفكر المجتمعي نتيجة الضغوط الغربية.
9. عدم الاعتراف بنظام التعليم بالانتساب عند المحافل العلمية وعند ذوي العلم كما سمعت من أكثر من واحد منهم، واعتباره نوعا من شراء الشهادات، وليس لنا حل غيره أمام الفُرقة التي يعيشها العرب والمسلمون.
10. الصمت في البيوت؛ فليس هناك حوار بين أفراد العائلة الواحدة، ولا أجد لذلك علاجا ناجعا.
وأخيرا.. عذرا للإطالة،
ولكن أعتقد أن الموضوع يحتاج إلى مزيد معالجة متعمقة.
13/1/2024
رد المستشار
يا ألله.. كم هزتني رسالتك، حتى لقد تحجرت دموعي في عيوني، وأبت أن تتدفق كما تفعل أحيانًا، ولعلها تجمدت؛ لأن "المستشار لا يبكي" على غرار "العاقلة لا تخطئ"، والحقيقة أن المستشار يمكن أن يبكي، ويمكن أن يخطئ أيضًا لأنه بشر، والعاقلة يمكن أن تخطئ، وأن تحتاج للشكوى؛ لأنها ليست ملاكًا وليست صخرًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هزتني رسالتك لأنها مؤثرة في أسلوبها، جديدة في موضوعها، قاسية في واقعتها، وتذكرت إخواننا الذين يتهمونني حين كتبت عن "الجهاد المدني" بأنني أهرب من الجهاد القتالي، ولو عرفوا ما أعرف لفهموا أن "المدني" أشد وأعتى في متطلباته وعدته ومراراته. فما صعوبة أن يواجه المؤمن الملتزم عدوًّا ظاهرًا لا خلاف على عدواته في معركة واضحة معلنة محددة الميادين والأسلحة، مضمونة العواقب والنتائج؛ فإما النصر وإما الشهادة، رزقنا الله إياها.
ما صعوبة أن يجتاز فتنة الموت الذي يحاصره، ويصبر على مخاوف فقد الدنيا -التافهة أصلا- وهو يسارع إلى لقاء ربه، مؤثرًا لقاءه على البقاء في حياة هي إلى الموت المعنوي أقرب في ظل التخلف والفساد والاستبداد، وبقية هذه المنظومة البائسة التي نعيشها؟!
أسأل الله العافية، وأنا أرى أن من يتصدى للجهاد المدني قد وضع نفسه في متاهة أعتى، وضغوط أكبر، ومعارك أشد، وفتن كقطع الليل الطويل المظلم، وأشفقت على نفسي وعلى إخواني وأخواتي، وعلى كل مجاهد مدني اختار هذا الطريق. يحصل شهيد معارك القتال مع الأعداء على الحمد في الدنيا والآخرة، إن كان مخلصًا، ولكن المجاهد المدني حسبه أن ينجو من اللوم؛ فالكل يتربص به: الأمريكان يطمعون فيه، وهم يرونه يتكلم عن الحرية وعن حقوق الإنسان، وعن المجتمع المدني والديمقراطية؛ فيحسبون أنه معهم، مبشرًا بإلحاق أهله بالإمبراطورية التعسة التي يحاولون إقامتها، وأهله لا يفقهون كثيرًا مما يقول، ومن غفلتهم وطول تخلفهم يحسبون أن عقله مستلب، وجهده منصرف، وضميره غائب أو مبيع للأعداء!!
وحسبه الله ونعم الوكيل.
وما عرفوا أن صحيح الإسلام يدعو إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وكرامته، وكل الفضائل والنظم التي تكفل للناس حياة أفضل في الدنيا، وأن تلك هي الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده الصالحين ما استقاموا على طريقته، والتزموا صبغته في الدنيا قبل الآخرة، ما عرفوا أن البشرية إنما تعلمت هذا من الإسلام وتاريخه، وما تحررت من استبداد الحكام والكهان، وسلطة الدين الفاسد والسلطان الجائر والخرافة الحمقاء إلا بروح الإسلام في تحرره من كل سلطان أرضي، وأصبحت المفارقة المذهلة أن أصول حضارة الغرب الحديثة نهضت على روح الإسلام بينما عدنا نحن إلى جاهلية فكرية واجتماعية أشد من جاهلية أبي جهل وأبي لهب: يضرب بعضنا رقاب بعض، وندفن الإناث بالحياة أو الحياء المصطنع "الكاذب"، وحصادنا من علم الدنيا والدين ألقاب وشهادات وهيئات ومناظر!!
يا ألله كم هزتني رسالتك؛ لأنها أشعرتني أن ما نقوم به على هذه الصفحة -وقد نستكثره أحيانًا- ليس سوى شعاع ضوء خافت في ليل حالك بهيم، وفوضى عارمة شاب عليها الصغير، وأن الطريق طويل، ووجدتني أسأل نفسي: هل أنا مصمم وإخواني وأخواتي في هذا السبيل على المضي قدمًا رغم النقد والأهوال، والمحاذير والصعوبات؟! والحمد لله.. بدأت دموعي تسيل.. ماذا أقول لك غير أن الأمل كبير في وجه الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، ويفصل بيننا يوم القيامة، أسأله جل وعلا أن يجعلنا على قدم حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم خير من جاهد وعلم، وأن يستعملنا ولا يستبدل بنا، وأن يضعنا حيث يريد لنا، وأن يدعمنا ويرضينا سواء كنا في الساقة أو في المقدمة، وأن يتقبل عملنا البسيط، ويطهره من أدران وأخلاط وشبهات الغموض والرياء، أو مداهنة الأعداء.. نبرأ إليه منهم، وندرأ به في نحورهم، ونعوذ به من شرورهم.
لا أنوي اليوم أن أفتح ملف المغتربين في أوطانهم، وهو من الظلم المسكوت عنه حتى صار معتادًا، والقهر الذي أصبح عند الملايين طموحًا، "وحسب المنايا أن يكن أمانيا" كما يقول الشاعر!!
والمصريون يقولون: "ما الذي رماك على المر؟! قال: اللي أمر منه"، فحين خرجنا نحن وغيرنا من مصر والشام والعراق والمغرب العربي الكبير مهاجرين إلى دول الوفرة كانت تحدونا أحلام بحياة أفضل، وكانت وما تزال صرخات عبد الناصر عن "الوحدة العربية"، و"الوطن العربي الكبير" ترن في الآذان، وتملأ الآفاق، وكان التضامن العربي الذي لاحت أشعة نوره في حرب أكتوبر/تشرين يغري بالاستثمار والاستجابة، وخرج البعض هربا من الفقر أو الملاحقات البوليسية في بلاده، وخرج البعض ظنا منه أن "المهجر" العربي أفضل من متاهة وانحلال "الغربي"، وليس الإنصاف أن يقتصر تقييمنا للنتائج على القول بأن أحلام "عبد الناصر" لم تكن إلا كوابيس، أو أن تضامن العرب في تشرين/أكتوبر لم يكن سوى ومضة لم تتكرر، وربما لن تتكرر.. رغم أن بعض هذا واقع لا يمكن إنكاره، ولكن هذا جزء من الحقيقة القاسية، وبقيتها أن هناك حراكًا اجتماعيًّا، ونهضة حدثت -على نحو ما- واتصال طويل قد جرى ويجري بين العرب من المشرق والمغرب ومصر، وهذا الاحتكاك كانت له آثاره؛ منها السلبي، ومنها الإيجابي، ويبقى أن نتعلم من الدروس، ونستثمر الإمكانيات.
وتعرفين أنني لست مع النظرة القُطرية أو الشوفينية أي المتحيزة للذات الوطنية -ولو بالباطل- ولكنني أحسب أن تبادل الاتهامات بين من هاجروا أو اغتربوا، ومن آووا ولم ينصروا إلا قليلا، هذا التلاوم والتلاعن لا طائل من ورائه؛ لأن الكل مغتربون ومنفيون ومحرومون من حقوقهم، ولكن مع الفارق في الدرجة، و"الوطن العربي" من المحيط إلى الخليج هو سجن كبير، ومن عرف السجن يدرك أنه مستويات ودرجات، وأن المعاملة تختلف أحيانًا من سجن إلى سجن، بل ومن مبنى إلى مبنى!! ومن "مواطن" إلى "أجنبي"!!
ويبقى أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، مواطنًا كان أو أجنبيًّا، ويلفت النظر أن العرائض المطالبة الإصلاح في الخليج يتضمن بعضها بنودًا عن "إعادة النظر في نظام الكفيل" وما شابه، ورغم عدم ثقتي في المؤتمرات والاحتفاليات فإنني أتمنى أن تسفر مناقشات "الجنادرية" عن شيء إيجابي ومقترحات محددة في العنوان الذي اختاروه لملتقى هذا العام، وهو "إصلاح البيت العربي من الداخل"، والمعنى الضمني الواضح أن في بيتنا نواحي خلل تحتاج إلى تشخيص وعلاج؛ فما رأيك أن نوجه أنا وأنت إلى هذا المؤتمر رسالة مفتوحة نشارك بها في نقاشاته؟!
أحسب أنني وكل الفريق قد تناولنا مسألة العلاقة بين الرجال والنساء بما فيه الكفاية، وأعتقد أن تجربة الانفصال الكامل بين الجنسين التي حاولت بعض الأقطار تطبيقها قد وصلت إلى نهايتها، ودون الدخول في تفاصيل معروفة نقول بأنها كانت تجربة فاشلة بكل المقاييس، وأن صيغة الفصل التام المؤبدة، لا أصل لها من الناحية الشرعية، ولا يمكن تطبيقها بحذافيرها من الناحية العملية، وآثارها النفسية والاجتماعية هي كما نرى وهي ضد كل عقل ونقل، ولا نتردد أبدًا في نقد النقيض الذي تجربه أقطار أخرى، ونرى الإسلام في هدية مختلفًا عن هذه وتلك، ولا نرى نظافة في هذه الناحية طالما يستعصي على الفهم، أو مستحيلا في التطبيق، والحق أحق أن يتبع، ولا أمل للجميع إلا أن يعودوا صاغرين -إن لم نشأ أن نعود طائعين- لهدي الله ورسوله، ونقول سمعنا وأطعنا، ونقول "ربنا ظلمنا أنفسنا..".
ولكن أرجو أن تفهمي -وكذلك الجميع- أن محض تواجد الرجال والنساء معا في المجال العام كما يهدي الشرع والعقل ليس كفيلا بذاته في ترقية الأخلاق، ولا في حل مشكلة هشاشة التكوين الشخصي والنفسي والاجتماعي للرجال والنساء، وسيكون مطلوبًا أن تنشط برامج البناء الذاتي المعرفي والثقافي والمهاراتي في البيئة الإسلامية الطبيعية المنشودة؛ حيث الجميع -نساء ورجالا- في المجال العام معًا بمراعاة ضوابط الشرع في التعامل بين الجنسين، وينبغي ألا تكون حركتنا مجرد صدى أجوف أو رد فعل سقيم لضغوط المتشددين في الداخل أو الأمريكان وأشياعهم في الداخل والخارج، إنما نتبع الحق إذا تبين لنا، ضاربين بآراء هؤلاء وأولئك عرض الحائط؛ فنحن مطالبون بتحري الصواب ومقصود الله من البشر، ولو كره الناس من أهلنا أو من أعدائنا.
ويبقى أن أذكر أن صفحتنا تقدم خدمة هامة بفتح الأفق أمام تلاقي الأفكار من أجل البحث عن حلول، وكذلك فتح الآذان والأسماع للإنصات إلى أنين المجروحين الذين انقطع بهم السبيل، ولسنا نزعم أن لدينا لكل مشكلة حلا، ولا ندعي أننا نملك عصا سحرية، ولا نملك أن نقول للشيء "كن فيكون".. سبحان الله وتعالى عما يصفون.
إنما نقترح أمرًا على سبيل الحل فيأتي تعقيب أو اقتراح بحل آخر من واقع تجريب أو من محض خيال "خصب أو تفكير عميق، ولسان حالنا يقول دائمًا: هذا ما لدينا؛ فمن وجد أفضل منه فليرشدنا إليه فنستفيد أجمعين".
والحلول التي نقدمها تأتي على 3 مستويات الأول:
حل فردي يختلف من حالة إلى حالة، وفيه كلام عما يناسب الظروف المحيطة والبيئة والتفاصيل الخاصة. والمستوى الثاني هو مقترحات عامة تصلح لكل الحالات المتشابهة التي يجمعها خيط محدد أو قاسم مشترك معين.
أما الأهم فهو المستوى الثالث في الحقيقة، وهو تأكيدنا المتكرر وإصرارنا المستميت في الإرشاد إلى أن نمط حياتنا الاجتماعية والثقافية لا يصلح بتاتًا، والثورة عليه لتغييره بكل الطرق المشروعة فريضة الوقت التي لا عذر فيها لقاعد، ونحاول أن نتدارس معكم دائمًا سبل إحداث هذا التغيير الذي لا مفر منه، وكل الحلول دونه مجرد تلفيق أو ترقيع، أو هي جزئية مؤقتة قد تصلح حينا وتفشل أحيانًا.
مطلبنا هو الإسلام؛ وهو يعني عندنا الحرية والكرامة والعقل والرقي والتراحم والتعاون، والشورى من المنزل إلى قصر الحكم، والشفافية في المحاسبة، والحوار للوصول للحق، وإعمار الدنيا بالدين، واليقظة من التيه الذي نتخبط به باسم الدين أو باسم التقدم المزيف، ونعرف أن معركتنا صعبة، ولكننا لن نخدع أنفسنا أو نخدعكم لنقول: إن هناك دونها من بديل.
إن دعوتنا لانطلاق "الجهاد المدني" تعني أن أمامنا طريقا طويلا وصعبا في منازلنا ومدارسنا وكل دوائر حياتنا، ونستبشر بوجودك أنت وأمثالك.. فتابعينا بالأفكار والحوار.