عزيزي الدكتور/ أحمد عبد الله..
بعد السلام عليكم ورحمه الله وبركاته أود أن أشارك في الرد على رسالة الأخ/ مسلم المعنونة العفة المستحيلة: أمتنا في عام.. نقد ودفاع مشاركة1
وهذه مشاركتي الثالثة من خلال صفحتي المفضلة "استشارات مجانين"، وأتمنى أن تجد نصيبها من الاهتمام.. وإن لم يحدث.. فلن يثنيني ذلك بإذن الله عن المزيد من المشاركات مستقبلاً.
وأنا سعيدة جدًّا بظهور الأخ الكريم.. مرة أخرى.. وأتمنى أن يداوم على المشاركة لعل في كلماته ما يحيي موات الأمة.. ولو بعد حين.. ولي تعليق على ما جاء برسالته.. واسمح لي فإنني سوف أتناول أولا جانبا واحدا مما جاء بها حيث إن الدكتور/ أحمد تعرض تقريباً لكل الجوانب.. ولكن لم يعطِ الاهتمام الكافي لهذا الجانب الذي سوف أتناوله بإذن الله.
فالأخ الكريم يقول في رسالته:
"على صعيدي الشخصي: الحمد لله رب العالمين.. سبحانه وتعالى جربت المزيد والمزيد من الخطبة.. وما يزيدني العدد إلا زهدًا في النساء والعيش معهن وفي الزواج كله، وجدت الزواج سيبعدني دائما وبقوة عن الله والآخرة من أوله إلى منتهاه، ولا يفهم أحد أنني أقصد الزواج كزواج.. بل الزواج من بنات وأسر هذه الأيام القاحلة!".
ولا ألوم على الأخ زهده أو إعراضه عن النساء.. هذا شأنه.. ولكني ألوم عليه ما ارتآه وعممه على بنات حواء حين قال: وكذلك لم أزدد من كثرة عدد البنات التي أتقدم لهن سوى استهزاء بآباء هذه الأيام "غير المحترمين" -إلا فيما ندر- الذين لا يراعون "إتيكيتا" ولا أسلوبا ولا ذوقا ولا يراعون سنهم ولا شيبتهم ولا...! واكتشافا لمادية البنات -طبعا.. ممن يتعلمن؟ من الأب والأم! أساسا- حتى لو كانت من أهل الدين والحجاب والجلباب والنقاب! لا مانع أن تقول هكذا بصراحة ووقاحة للخاطبة/ الوسيطة: لا بد ألا أقل عن أختي.. يكون المهر عشرين ألفا.. والشبكة مثل ذلك!
أخي الكريم: هناك العديد والعديد من الفتيات اللاتي لا يسعين إلى المظاهر الكاذبة والخادعة واللاتي يؤمن ويوقن بأن الزواج تواد وتراحم وتآلف.. وليس مهرا وشبكة وأثاثا وأجهزة.. لعلك أخطأت الطريق.. فلم تهتدِ إلى من تقدر فيك دينك وخلقك وعلمك وفضلك.. ولكن ثق أنك سوف تجدها يوماً ما.. وأريد أن أناقش معك ومع الدكتور/ أحمد.. والقراء الأفاضل.. ماذا يريد الرجل من الفتاة التي يرغب في التقدم إليها؟ فنحن نرى الرجل يبحث عن كل شيء.. فهو يطلب الجميلة.. الغنية.. المتدينة.. المتعلمة.. المثقفة.. إلى آخره.. وهذا ليس عيباً في حد ذاته.. ولكن كل من لها هذه الصفات.. فهي تطلب دائماً الرجل الوسيم.. المتدين.. الغني.. المتعلم.. المثقف.. ذا المنصب والمكانة الاجتماعية العالية. فهي تستحق هذا الرجل؛ لأنها تمتلك من المواصفات التي تؤهلها للفوز به.
وإليكم هذه التجربة التي كنت قريبة منها، ففي إطار العائلة.. حدث أن أحد أقربائي وهو متدين وعلى خلق كان يرغب في خطبه فتاة تمتلك المواصفات السابقة بالإضافة إلى شرط أن تصغره على الأقل بـ 12 عاماً.. حتى يستطيع أن يشكلها كما يريد.. هذا حسب اعتقاده، وحدث أن تقدم إلى أكثر من واحدة.. ولكن لم يوفق.. ولكنه لم يتنازل عما يريده لنفسه.. بل فوجئت بأنه أضاف طلباً غريباً وهو ألا تكون قد ارتبطت بالخطبة مع أحد قبله.. متخيلاً أنه بذلك سيكون أول رجل في حياتها.. وعندما حاولت معرفة سبب هذا الطلب الغريب.. أجاب بأنه لا يدري ما قد يكون حدث بينها وبين الخطيب السابق.. وما أريد أن أظهره من القصة أن الرجل يطلب لنفسه أقصى الأشياء.. ويحزن عندما تطلب الفتاة أقصى الأشياء لنفسها.. ودائما هما الاثنان يطلبان أشياء مادية في البداية سواء من الجمال (بالنسبة للرجال) والمال (بالنسبة للفتيات).
وأن هناك بعض الرجال – من كثرة ما شاهدوه من ممارسات بعض الفتيات اللاتي التقوا بهن في المدارس والجامعات.. يتخيل أن كل الفتيات كذلك.. ومن هذا المنطلق يزهد في النساء.. مما يراه من بعضهن بالرغم من أننا كفتيات نرى كثيرا من الرجال يواعدن تلك وتلك.. ويوهمن تلك باسم الحب.. وتلك بالزواج.. وهذه مشاهد شبه يومية.. ولكن هذا لا يؤثر على نظرة الكثيرات للرجال.. فنحن كفتيات لا نقع في فخ التعميم الظالم ونعلم جيداً أن هناك دائماً الصالح والطالح، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.. ولعل المجتمع المحيط بنا يساهم في ذلك بنصيب وفير، حيث إنه يعتبر أن الرجل متعدد العلاقات النسائية لا شيء يعيبه مثل المرأة بل إنه وللأسف بعضهم يفتخر بتعدد علاقاته حتى أمام خطيبته أو زوجته كنوع من أنواع التميز والبراعة.
ولعلنا إذا عدنا إلى ديننا نجده لا يفرق في ذلك بين رجل وامرأة كلاهما سواء في الوقوف بين يدي الله يوم العرض عليه ولكل نفس ما كسبت لا فرق بين رجل وامرأة.. وعلى العموم هذا موضوع آخر يحتاج أيضا إلى جهد لتغيير المفاهيم الخاطئة في مجتمعاتنا العربية.. ولعلي يا أخي أهمس في أذنك ببعض الكلمات التي قد تكون قد غابت عنك في خضم بحثك عن نصفك الآخر فقد تنير لك الطريق.
- اختر يا أخي مــن تناسبــك في الســن فهي سـوف تكـون الأوفـق والأقرب لأفكارك ومعتقــداتك ولعلـها مثلك تنتظر من يأخذ بيدها لتبدأ حياتها الجديدة التي طالمــا حلمت بها كثيراً واستعدت لها بالتزود بالمعرفة في كيفية إسعاد الزوج وبعض الخبرات التي قد تكون اطلعت عليها من الأخريات اللاتي سبقنها إلى الزواج بالإضافة إلى أنها ترى الحياة الزوجية من منظورها الأشمل والأوسع بعدما اشتاقت إلى دخــول هذا العالم الجديد فتكون أكثر حرصاُ على السعادة وأكثر تفهماً للزوج بإذن الله.
- اختر يا أخي من تقاربك في المستوى الاجتماعي فإنها لا ترغب ألا تقل عن حياتها في بيت أبيها وتكون أكثر قناعة وقدرة على الكفاح والصبر والمشاركة معك في بناء عشكم الجديد، فلا تغالي في طلباتها وترضى بما تستطيعه إمكانياتك المادية إن شاء الله، ولعلي أهمس في إذن كل فتاة أن الحياة ليست فقط هي الماديات، ولكن هناك عامل كبير جدًّا في نجاح الحياة الزوجية يرجــع إلى العاطفة والتقبل للطرف الآخر والاستعداد للتضحية لإسعاده وهو بالمثل أيضا سوف يقدر لك ذلك ويسعى إلى إسعادك بكل السبل، فليس هناك أحلى من حياة هادئة ترفرف عليها السكينة والرحمة والحب بين طرفيها، وكل الظروف تتغيَّر بين لحظة وأخرى فالصبر وبالصبر ينال الطرفان كل ما يسعيان إليه من إمكانيات مادية ووقتها سوف يشعران بقيمتها؛ لأنها جاءت بعد تعب ومعاناة مشتركة.
- لا تبحث يا أخي عن الجمال أولا وتجعله عنوانك لمن ترغبها زوجة لك وما يأتي بعدها من مواصفات ترغب فيها فتحدث نفسك أنك تستطيع أن تتنازل عن بعضها أمام سلاح الجمال أو تستطيع أن تتغلب عليها في حياتك المستقبلية، بل اجعل للجمال نصيبا من بحثك ولكن في إطاره المحدود بمعنى ألا تعتقد أن السعادة كلها في أن تحصل على زوجة جميلة بنسبة كبيرة والشروط الأخرى مثل الدين والأخلاق والثقافة سوف تتغلب على نقصها في زوجتك برفعك من مستواها وبذلك الجهد تجعلها كما تحلم أن تكون.. فاحذر.. فإن من أصعب الأشياء محاولة تغيير الآخرين ليوافقوا رغباتنا فرغم عدم استحالة ذلك فإنه يحتــاج إلى رغــبة أكيدة وجهد كبير من الطرف الآخر.. وبعد ذلك النتيجة غير مضمونة دائماً.
أنا لا أطلب منك ألا تتزوج من الجميلة، ولكن أريدك ألا تنساق وراء الجمال على حساب أشياء أخرى هي أهم وأولى بالبحث عنها وتحريها، ولعل الجميلة تكون أمامها الكثير من الفرص وتهافت الخطاب ولعل ولي أمرها (أباها أو أخاها) يراها سلعه رائجة؛ وبالتالي يعطيها لمن يدفــع أكثر ويقــدر البضاعة كأنه في مزاد وليس في علاقة زواج وأسرة.
ولا يغيب علينا أن كثيرا من الإخوة الملتزمين يرون أن زواجهم بالجميلة له أسبابه الدينية وهو تحصينهم وإبعادهم عن الخطيئة.. وهذا الكلام مردود عليه؛ لأن من يفكر في هذا الطريق لا تملأ عينه زوجته الجميلة، ولكنه بعد مرور فترة من الزواج قد يراها أقل جمالاً مما قبل بحكم التعود، ويعود يدور في نفس الحلقة.. ركز جهودك أخي على أن تتحرى عن من تريد الارتباط بها، ولا يمنعك التزامك وتدينك من أن تجالسها في وجود أحد محارمها لتستطلع أفكارها وعقلها واهتماماتها وتعطيها هي فرصة أيضا في أن تتعرف عليك وترتبط بك بقلبها قبل عقلها.
وأشكرك على إصغائك أخي، وأتمنى أن تفيدك كلماتي المتواضعة وأن تصل بك إلى ما ترغب وتريد، ولا تنسني أنت والقراء الأعزاء بالدعاء أن يوفقني الله أنا أيضا للزوج الصالح بإذنه تعالى فهو نعم المولى ونعم النصير.
وفى النهاية أود أن أشير أنني معك في مشروعك للزواج المبكر بالرغم من معارضتي للفكرة واستهجانها في البداية إلا أنني بعد عرض مشروعك مفصلاً أحسست أنه فيه الخير الكثير بإذن الله للشباب وللأمة الإسلامية لو تفهمناه على وجهه الصحيح ولو تكاتفنا لنشره بيننا كفكرة مبدئيًّا وبعد أن تجد حظها من التأييد نبدأ في العمل على اتخاذ السبل لإنجاحها، ولكني أود أن أؤكد أنني اتفق مع د/ أحمد فيما ارتآه من أن مشروعنا ليس بالسهل ولا بالهين على استيعاب الجمهور له، ويحتاج إلى جهد وعمل يفوق ما قد نظنه بكثير؛ وبالتالي فعلينا أن نبدأ أولا في عرض الفكرة ومزاياها وفوائدها بكل الطرق المتاحة لنشرها في أوساط الجمهور، وعندما يتم لنا ذلك -أظنه سوف يستغرق وقت طويل- علينا بالانتقال إلى المرحلة الأخرى وهى اتخاذ التدابير والوسائل التي تؤدي إلى خروج الفكرة إلى حيز التنفيذ على أرض الواقع، وأظن أن جيلنا سوف يكون له الباع الطويل في تنفيذ الفكرة في الدعوة إليها أولا وفي تطبيقها على أولاده وبناته مستقبلاً بإذن الله.
وأنا أختلف معك أخي / مسلم فيما تراه من أن شبابنا قد أصابه الهرم مبكراً في مشاعره وآماله وقدراته على أن يكون حياة زوجية سعيدة، وترى أن الأمل هو في إنقاذ الجيل الصغير بمشروعك للزواج المبكر قبل أن يقضى عليه مثل جيلنا، فيا أخي نحن ما زلنا في سن العطاء ومن حقنا أن نحلم لأنفسنا كما نحلم للآخرين، وأن نتفادى ما وقع فيه آباؤنا من أخطاء قد وجدت تأثيرها علينا وحماية الأجيال التي تأتي من بعدنا من مكابدة ما تكبدناه نحن.. وهذا واجبنا ودورنا.. وأنت تحاول من جهتك أن تقوم به خير قيام من خلال طرحك لمشروعك ولكن.. ذلك لا يعني أن نتخلى نحن عن أحلامنا في سننا هذه سن الشباب والعطاء المنوط بها التغيير، فكما أشار د/ أحمد أن الحرية تنتزع ولا تطلب، وأن الآمال الكبيرة لا بد لها من أعمال كبيرة مثلها فهل استعددنا نحن للجهاد.
فيجب أن يمشي مشروعك جنباً إلى جنب مع مشروع آخر يتبنى إعفاف الشباب ممن بلغوا سن الزواج وانتهوا من دراستهم وبدءوا حياتهم العملية من خلال إرشادهم وتوجيههم ومساعدتهم بكل الطرق للوصول إلى الزوجة الصالحة والزوج الصالح، وقد تكون هذه الطرق تشتمل مساعدات مالية، ولكني أرى أن الأهم والأفيد هو تغيير الأفكار وعودة لما بدأت به حديثي وهو التنازل عن بعض المظاهر المادية والشروط الشكلية والبدء بأبسط الأشياء ثم تنمو بتوفيق المولى مستقبلاً، فنحن نريد أن نغير مفاهيم الشباب والشابات حول الحياة الزوجية والزواج بصفة عامة.. وأنتم أقدر مني على الحديث في هذه الأشياء.. فارتفاع نسبة العنوسة والزواج المتأخر بالنسبة لشبابنا في الوطن العربي ليس بالأمر الهين ولا السهل ويستوجب منا البحث عن الأسباب التي أظنها أن ليست كلها مادية، ولكنْ هناك أسباب أخرى عديدة، فنحن نعرف أنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجد المجتمع القرشي الكافر غضاضة في زواجه صلى الله عليه وسلم ممن تكبره بخمسة عشر عاماً، ولم تر أم المؤمنين السيدة خديجة عيباً في أن تسعى هي لاتخاذ الخطوة الأولى للزواج من أشرف الخلق أجمعين، وفي سنها هذه، فلَمْ يقل عنها إنها كذا وكذا – كما يحدث الآن في مجتمعاتنا لمن يموت عنها زوجها وترغب في الزواج مرة أخرى بالرغم من وجود أطفال وما بالك! وأن هذا الزوج يصغرها في العمر أيضا، وأيضا لم يُنتقد صلى الله عليه وسلم عندما تزوج من السيدة عائشة رضي الله عنها وهي ما زالت بنت العشر سنوات وهو قد تعدى الخمسين عاماً، ولم يستحي سيدنا عمر رضي الله عنه أن يعرض أم المؤمنين حفصة على أصحابه كزوجة.
أعتقد أن تفسير هذا أنهم أكثر منا رقيًّا في النظر إلى الزواج على أنه حاجة بشرية لا ترتبط بسن أو ظروف، فالزواج والطلاق في حالة عدم إصابة التوفيق كان يتم بمنتهى السهولة بدون إثارة الضجة حوله.. فهل نحلم في يوم تتغير فيه مفاهيمنا لتصبح أكثر عدلاً وصراحةً أمام الله وأمام أنفسنا.. أتمنى ذلك.
ولقد أطلت عليكم.. ولكن الموضوع يستحق ذلك، وأود أخيرا أن أطرح فكرة، وأرجو أن تجد منكم ومن القراء القبول، وهي عمل جماعة نشطة نطلق عليها "أصدقاء استشارات مجانين" تتولى فيما بينها العمل على نشر كل الأفكار الجديدة والمفيدة لنا كشباب وتأخذ على عاتقها بمساعدة مستشارينا بالطبع نشر هذه الأفكار ومناقشتها.. وقد يكون ذلك عن طريق عقد الاجتماعات بين الأعضاء في مقر الموقع أو في أي مقر آخر ترونه مع بحث التغلب على بعد الأماكن من خلال التفاعل عن طريق الإنترنت وتبادل البريد الإلكتروني بين الأعضاء الذين لا تسمح ظروفهم بالحضور.. ولعل الفكرة تحتاج إلى تنظيم وترتيب أكثر.. وتبادل للآراء بين قراء الصفحة وإعطاء مقترحات لتخرج كما نريد منها أن تكون دعماً مباشراً لنشر كل ما هو صحيح وإلغاء كل ما هو خطأ أو التقليل من حجمه على الأقل، وليكون الأخ الكريم "مسلم" من ضمن هذه الجماعة بالرغم من تأكيداته بأنه يستتر خلف حجاب الإنترنت إلا أني أرى أنه لا داعي لذلك حيث إنه ليس هناك ما يشينه ليستتر منه بل على العكس هو يعتبر من المجاهدين بأصعب أنواع الجهاد وهو جهاد النفس، وبالمناسبة لو كانت لدى الأخ الكريم بعض النصائح أو التجارب التي يود أن يكتب عنها بأسلوبه السهل الممتع ليستفيد بها الشباب حول موضوع جهاد النفس سوف تعم الفائدة بإذن الله.
أتمنى التوفيق للجميع.. وشكراً لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
8/1/2024
رد المستشار
الأخت الكريمة:
حملت رسالتك في حقيبتي –التي أصبحت شهيرة فيما أعتقد- وسافرت بها حول العالم ثم عدت، وسافرت وعدت، وكنت أجد لتأخير نشرها المبرر تلو المبرر، ولكن أهم هذه المبررات هو اهتمامي بنزولها بعد انتظام العام الدراسي حتى يطلع عليها الجمهور المعني بها أكثر من غيره، مما لا يكون متاحًا خلال الإجازة الصيفية، فمعذرة للتأخير.
ومن ضمن مبرراتي أيضًا أنني أعجبت برسالتك وأسلوبك، وحسن تعبيرك وتدبيرك حتى تذكرت وافدة النساء التي قامت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر النساء في ظل تفرغ أغلبهن لشئون البيت، وانقطاعن بالتالي عن الشأن العام، وقد تسنح الفرصة قريبًا للتعليق على هذه القصة الهامة لما لها من دلالات.
لم أشأ إذن أن يتحول ردي عليك إلى مجرد وصلة مديح، أو عبارات ثناء وشكر على سطورك التي أعدها –لولا بعض الأخطاء الإملائية البسيطة- من أفضل ما وصل صفحتنا شكلاً ومضمونًا.
نعم يا أختي ضللنا طريق الشرع، وضاع فينا العقل فأصبحنا نتخبط في ظلمة الجهل وسوء إدارة الحياة، فلا نحن ربحنا بالمقاييس المادية مثل الغربيين الذين اعتمدوا العقل وحده أساسًا ومرجعًا، ولا نحن استعدنا مجدنا وقيادتنا للعالم بتوازن العقل والروح، المادة والنفس، الدنيا والآخرة.
نحن طبعًا ننتج كلامًا يملأ الأسماع ضجيجًا عن التزامنا بالدين، وحرصنا على الدنيا وعمارتها، ولكن وضعنا العملي يدعو إلى الرثاء فلا دينًا نقيم ولا دنيا!!
والزواج مجرد مثال على أحوالنا فهو جزء من حياة متخبطة تائهة حائرة ومترددة فقدت الاتجاه والمعنى والجدوى –إلا قليلاً- وفقدنا بالتالي القدرة على النهضة من كبوتنا التي طالت. وغالبًا ما يفهم الناس مثل كلامي هذا على أنه محض تشاؤم، ويعلم الله أنه محض تحليل وتفسير، ومحاولة تشخيص لنضع أيدينا على الداء –ومن ثم الدواء- وننطلق فقد طال الركود.
والاختراق الحضاري، والتاريخي/الثقافي الذي حققه الإسلام في بواكيره وما زالت أصداؤه تتردد في حياة الإنسانية فتطرب الصديق المؤمن، وتغيظ العدو الكافر... هذا الاختراق حدث عندما قررت فئة من الناس –توسعت باضطراد- أن تنسف وللأبد أعراف الجاهلية وثوابتها وتقاليدها وما يرتبط بها من توابع وقيود، ومعالم ورموز، لينهض من بين ركام الماضي المشين حاضر يتحدى ومستقبل واعد يقلب موازين القوة على الأرض على هدي من وحي السماء.
والإسلام ما زال متاحًا في الكلمات التي وصلتنا عبر الأزمنة ترسم لنا اتجاه الطريق، وتعطينا الإشارات والمعايير، والحكمة والخبرة، فضلاً عن الإمتاع والمؤانسة.
الإسلام بنصوصه قرآنًا وسنة، وبسيرة نبيه العطرة الملهمة، ومسار عظمته في الزمان والمكان والأجيال. هذا الإسلام متاح لمن يريد، ولكن المسلمين بجهلهم وسوء تدبيرهم يستبدلون به إسلاما مزيفًا متخلفًا وكئيبًا لا يقيم نهضة، ولا يرفع أمة، إنما يشدنا إلى كل نقيصة برباط وثيق، فنظل كما نحن في ذيل الأمم.
نعم يا إخواني وأخواتي.. الإسلام الذي نستهلكه، ولا أقول نطبقه، هو من أكبر أسباب تخلفنا، وهو منظومة متكاملة، ووصفة مدمرة لا تحمل من إسلام الرسالة الأصلية إلا الأشكال والرسوم، وكم هزتني في مطلع شبابي كلمات الشهيد حسن البنا، وهو يتحدث عن مواصفات الأمة أو الجماعة البشرية التي تسعى للنهضة، ويقول في نص أعتمد على ذاكرتي في نقله: "إن تكوين الأمم والشعوب ومناصرة المبادئ يحتاج من الأمة التي تسعى إلى ذلك، أو من الفئة التي تريده على الأقل إلى خصال ذكر منها: وفاءً ثابتا لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها بخل أو طمع، ومعرفة بالمبدأ تعصم من أشياء ذكر منها الخديعة بغيره".
وما زالت تهزني تلك اللفتة الرائعة من هذا الرجل الدقيق العميق في فهمه للإسلام، وهو الذي يفرق في موضع آخر بين الجهاد الصحيح، والجهاد "الخاطئ"، وهذا حديث يطول.
والشاهد هنا أنني كلما عرفت الإسلام أكثر كلما بكيت أكثر كما كان يبكي الشيخ/ محمد الغزالي رحمه الله، وأنا الآن أبكي وسبب البكاء هنا هو عمق الدهشة، وحجم المفارقة بين دين الله كما انطلق في غار حراء، وسار ففتح الدنيا وقاد البشرية، وواقع فهم المسلمين وتطبيقهم له سواءً من يعرفون أنهم بعيدون عنه، أو من يظنون أنهم ملتزمون به، وما لدى هؤلاء وأولئك منه إلا كقول "طرفة بن العبد" في مطلع معلقته: لخولة أطلال ببرقة ثهمد *** تلوح كباقي الوشم في ظهر اليد
كلما زادت معرفتي بالمبدأ تصبح الخديعة بغيره أصعب –بإذن الله- ولكن حجم المسافة بين المسلمين والإسلام يزداد في إدراكي يومًا بعد يوم، ولا يقطع هذا بالأمل في التغيير، بل ربما يشفق الإنسان على نفسه وعلى الناس من حجم المهام المطلوب إنجازها، وربما ازدادت الحماسة، واشتدت الحاجة أكثر وأكثر لعون الله ومدده، فلا يطيق فعلها، ولا يستطيعها بشر دون تأييد إلهي أن يفهمها كما فهمها سليمان، وينظر إلى حالنا وجهدنا وأشواقنا وأعمالنا في تغيير أنفسنا، فينجز لنا وعده بتغيير ما بنا.
هل أكرر ما قلته كثيرًا عن الزواج ومشكلته في مجتمعات المسلمين؟! أم يصبح من البديهي أن نفهم أن ما يجري في هذا الميدان وغيره هو مجرد انعكاس للأزمة الأصلية: التخبط والفوضى والتخلف عن صحيح الإسلام الذي صار نادرًا في الفهم، وأكثر ندرة في التطبيق؟! إنه الجهل بالمبدأ أدى إلى الخديعة بغيره!!
ويا إخواني وأخواتي... نحن أمة لم تكن تعقل –قبل الإسلام- إلا قليلاً، ثم ارتبط العقل والفقه والتنوير والرشد في تاريخها بالدين، فصارا متلازمين: إذا فقدت دينها فقدت عقلها، وإذا اختل عقلها فقدت قدرتها على تناول دينها كما ينبغي، فصار وبالاً عليها بدلاً من أن يكون كمالاً لها، وحبسها عن كل فضيلة بدلاً من أن يرفعها، ويهدي بها.
والآن إذا غاب العقل والدين فماذا يبقى لنا لنتزوج أو نقيم الأسرة التي تتحدثين عنها؟! أو نختار على الأسس الحكيمة التي تذكرينها؟! أو ننظر بوعي وعمق إلى أغراض الحياة، ومعاني السعادة، أو حتى فلسفة الحب، أو مهارات إدارة العلاقة بشريك؟!
من أين يمكن أن تتغير نظرتنا للزواج وغيره، ونحن نعتقد أننا ملتزمون بالدين، وعباقرة في شئون الدنيا، وكل واحد يعجبه عقله، وسعيد بالقشور التي يستهلكها من دين الله، وراضٍ بحاله العقلية والسلوكية؟!!
وأقول لك يا فاضلة إن الإنسان حين يفقد الوعي الذي حاولت أنا شرحه هنا، فإنه ينكص إلى المعايير البدائية في الحكم على الأشياء فتصبح الماديات من مال أو جمال أو جاء هي الأهم، وفي خلطنا وسطحية فهمنا نكرر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"، نكرره بوصفه توجيهًا دينيًّا وروحيًّا يطلب منا أن نؤثر الدين ونفضله على غيره من المعايير طمعًا في ثواب الآخرة، ويغيب عنا البعد الآخر، وهو أن الحبيب الذي علم الله به البشرية يعطينا توجيهًا اجتماعيًّا ونفسانيًّا رائعًا ونافذًا، فلا المال في حد ذاته فضيلة، ولا الجمال يبقى على حاله أو يعصم من الزلل، بل ربما كان سبيلاً إليه أحيانًا، ولا الحسب والنسب هو المعيار الأكيد للنجاح... صحيح أن كل هذه الأشياء لها وزنها، ولكن الدين يبقى الأهم؛ لأنه هو المدير الحاكم الذي يستثمر كل النعم، ويحسن توظيفها، ويسدد النقص –والكمال لله وحده- ويعين على تماسك العلاقة واستمرارها، وتقوية مقاومتها لعوامل "التغرية" التي تؤثر عليها عبر الزمان.
ولا أريد أن أستطرد أكثر؛ لأنني أطلت، ولا أستطيع أن أرفض عرضك الكريم بأن تكوني أول حجر في نواة تتحرك لنشر المبادئ والأفكار والمقترحات المعروضة على صفحتنا، ولعل عرضك هذا يلاقي حماسًا وجدية من القراء والمهتمين لنبدأ حركة أمامها مهام جسيمة، وتحتاج إلى الوعي والعزيمة لنقترب أكثر وأكثر من الرشد والنهضة والإقلاع الحضاري، ونتخلص من إسلام القشور إلى جوهر الإسلام، ولعلك تتصلين بنا لنتقابل، ونبدأ في بحث خطوتنا القادمة.
وللمشاركة برأيك.
ويتبع>>>>: العفة المستحيلة: رؤية الضوء في العتمة مشاركة3