السادة الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.. أكتب إليكم وأنا أعلم أنني اخترت طريقة غير لائقة لإرسال مشكلتي، ولكنني منذ 3 أشهر وأنا أحاول الكتابة إليكم دون التمكن من ذلك بسبب العداد. أرجو منكم التعامل مع مشكلتي بجدية، وإن قررتم عدم الرد عليها فأرجو إرشادي لمن ألجأ إليه؛ إذ إني أعيش في الغرب وآخر شيء يمكنني التفكير فيه هو الذهاب إلى طبيب نفسي هنا.
أنا فتاة في أوائل العشرينيات من العمر، تربيت في أسرة ملتزمة جدا (ولكن معتدلة)، كان أبي يوصينا بالصلاة ويلح على تعليمنا اللغة والدين؛ إذ إننا نعيش في الغرب، وأسرتي معروفة بالأصالة والأخلاق لدى كل المحيطين بها... منذ سنوات تعرفت على شاب ملتزم ناشط جدا في المجال الدعوي أعجبنا ببعضنا البعض وقعنا في حب قوي جدا، تقدم هذا الشاب لخطبتي من أهلي، ولكنهم رفضوا لدراستي ولصغر سني ولفرق العمر بيننا الذي يتجاوز العشر سنوات. وتحت إصرار أهلي على رفضه لجأنا إلى التقابل خلسة، ومرة بعد مرة بدأنا نرعى حول حمى الله، وصرنا على شفا حفرة من الوقوع في الزنا لولا أن موافقة أهلي على زواجنا أدركتنا في الوقت المناسب.
المهم أننا تزوجنا منذ فترة طويلة، واستغفرنا الله كثيرا على ما بدر منا من معاصٍ، ونجحنا في إقامة بيت مثالي يحكي به كل الناس، وأنا أيضا نجحت في التوفيق بين بيتي وجامعتي، أما إنجاب الأولاد فقد قمنا بتأجيله للوقت المناسب. أبي وأمي أيضا أصبحا سعيدين جدا بنا بل وصرنا موضوع فخرهما.
بعد مرور العام الأول على زواجنا بدأ الشعور بالذنب يراودني من جديد وأحسست أن قدرتي (أو همتي) على أداء العبادات لم تعد كالسابق، لم أعد أقوم لله ركعة واحدة، ولم أزد آية على ما حفظته قبل زواجي بعد أن كنت على وشك ختم القرآن... بدأت أشعر أن الله طردني من رحمته ويأبى أن يقبلني من جديد على ما فعلته، فما إن فتحت مصحفا أو وقفت للصلاة إلا تذكرت كل ما كان كشريط يمر أمامي، وأتوقف عن القراءة أو الصلاة، وأجهش ببكاء شديد حتى أغط في النوم للصباح.
وبمرور الأيام بدأ شعوري بالذنب يتزايد حتى بدأ يؤثر على علاقتي بزوجي فأصبحت أنفر منه وأنظر إليه على أنه هو سبب كل شيء، وأنني كنت في أمان الله حتى لقيته، لم أعد راغبة في معاشرة زوجي، وكل مرة يقترب فيها مني أحس أنني أرتكب حراما، هو أيضا لاحظ ذلك وبدأ يتركني في حالي كل ما لاحظ أني أنفر منه.
تحدثنا مرة بصراحة وأخبرته بما بي، وسألته إن كان هو أيضا يشعر بالذنب فأجابني بكل بساطة أنه يشعر به، وإنه يستغفر الله دائما، ولكنه أيضا سعيد جدا، ويرى أن الله قد لطف بنا إذ أنقذنا من الوقوع في الزنا بأعجوبة!!! وما يزيدني عذابا هو أن زوجي مسؤول عن بعض الشباب في المهجر في منطقتنا يحل مشاكلهم من انحراف ومخدرات وغير ذلك، وكم مرة أرغب بالصراخ وسط الناس بأن هذا الذي ترسلون إليه أبناءكم ليربيهم فعل ما تخافون على أبنائكم الوقوع فيه.
ومما زادني عذابا أنني سمعت مرة إحدى الأخوات تهمس لأخرى عني: "هذه السيدة الصغيرة لو يحطوها على الجرح يطيب!!" ظلت كلماتها لا تفارقني وبدأت أشعر أني مخادعة كبيرة وأن وراء خماري ولبسي الفضفاض تختفي أكبر عاهر في الدنيا!! بدأت أشعر بالاشمئزاز من نفسي وانقطعت عن الذهاب للمسجد، وأرخيت علاقتي بالأخوات، في حين قويت بشدة مع زميلاتي الكافرات فأصبحت أدخل وأخرج عليهن ولسان حالي يقول هذا هو مكاني.
وزادت الأمور تطورا عندما ذهبت لزيارة أهلي لقضاء عطلة الصيف معهم وحدي بدون زوجي، شعرت بالحنان لذلك البيت المتدين الطاهر، وشعرت كأنني إبليس الذي طرد من الجنة، وبعد أن عدت لم أعد أتحمل زوجي إطلاقا، وما إن أراه إلا وأتذكر كل شيء، بدأت أيضا أتذكر أشياء كنا قد فعلناها قد نسيتها تماما.
وعندما يعاشرني زوجي أشعر بأني ازددت إثما فأغلق الباب على نفسي وأفرغ ما بي من دموع دون أن يعلم. الآن مرت عدة شهور دون أن أسمح لزوجي بالاقتراب مني وكلانا يعلم السبب. وزوجي يكتفي بالهمس في أذني بأننا بشر لا ملائكة ثم يقبل جبيني ويتركني في حالي.
الآن بدأ التفكير في الانفصال يراودني، ولكن حين أتذكر أنني تسببت في المتاعب لأهلي بما فيه الكفاية عندما تزوجت رغما عنهم يتبين لي أنني من المستحيل أن أصدمهم من جديد بالعودة إلى بيتهم مطلقة بدون سبب واضح. زد على ذلك أنني ما زلت أحب زوجي رغم نفوري منه جنسيا ولا يمكنني الاستغناء عنه. وكما تلاحظون أن مشكلتي لا يمكن عرضها على طبيب نفسي هنا فبذلك أكون قد وضعت رأسي تحت المقصلة بنفسي.
حاولت مراسلتكم عدة مرات، ولكن عدادكم كان دائما ممتلئا، وعندما فوجئت بنفسي البارحة أقف أمام بانيو الماء الممتلئ وبيدي منشف الشعر الكهربائي، وكأن يدا خفية أصبحت تسيرني رأيت أن مشكلتي تحتاج إلى حل سريع قبل أن أرتكب أكبر حماقة تفسد علي آخرتي نهائيا ولات حين مندم.
أرجو مساعدتي ونصحي بما يمكن فعله وترون.. إنكم أملي الوحيد.
أعتذر من جديد عن هذه الطريقة في إرسال المشكلة، وجزاكم الله خيرا.
3/5/2024
رد المستشار
شكرا على موافقتك بنشر الرسالة والإجابة عليها لتعم الفائدة، وأهلا بك من أي طريق جئت، وألفت انتباهك إلى متابعتنا حتى تزول حالتك الراهنة.
سأنتهز فرصة رسالتك المهمة لأشير إلى مسألة شغلتني مؤخرا، وكتبت فيها هنا على استشارات مجانين، لو كنت تتابعين أقول وأكرر بأن الأسطورة الغامضة التي تتضمن أن يصف البعض نفسه بالالتزام قد صارت متاهة وعائقا ومقدمة للوقوع في سلاسل من الأخطاء والالتباسات؛ ما جعلني أقترح الكف عن إطلاق هذا الوصف على النفس أو الغير لصالح النظر إلى حقائق الأشياء بغض النظر عن الألفاظ والأوصاف غير الدقيقة، فمثلا كان من الأنسب أن تدركي نفسك بوصفك فتاة في مقتبل عمرك تعيشين في عالم وفي بيئة تمتلئ بالمثيرات، وأنك مثل كل إنسان لديك غريزة ورغبة وحاجة عاطفية وجنسية، وعندما قابلت الشخص الذي انسجمت معه فإن مخزون السنين من الرغبات والمشاعر والأحلام والخيالات كان من الطبيعي أن يحتشد ليتفجر بين يديه، وفي أحضانه، وهكذا البشر يا ابني.
وأحمد الله أن أهلك قد فهموا هذا، متأخرين نعم، ولكن قبل فوات الأوان، وهذا من فضل الله عليك وعليهم وعلى زوجك، ولو كنت رأيت نفسك بواقعية وبوضوح منذ اللحظة الأولى لاندفعت طاقة المشاعر في اتجاه آخر هو الضغط للتعجيل بالقبول من طرف أهلك ليباركوا زواجك أسرع، ولكن تأملي معي فيما حدث:
نظرت أنت إلى نفسك بوصفك كيانا متميزا غير البشر العاديين، ورأيت فتاك كذلك، وترسخت بالتالي في ذهنك وحساباتك أنك -بوصفك "ملتزمة"- ستكونين أقوى بالتحكم في مشاعرك، وكذلك هو، ولكنك حين كنت معه وحدكما سقطت الأساطير والدعاوى والتراكيب الذهنية واللفظية الباطلة أصلا، وأصبحنا أمام الوضع الواقعي: شاب عاشق وفتاة تحبه في خلوة، وغلبت سنن الكون والإنسان كما علمنا ديننا، فكان بينكما ما كان، والحمد لله على كل حال.
ثم أنت هنا تعودين بعد الزواج لنفس الإدراك القديم المغلوط لتنطلقي منه مرة أخرى؛ فأنت "الملتزمة" وزوجك الناشط فكيف يقع منكما هذا؟!!
ولا تسامحين نفسك بالتالي، بل ترين أنك منافقة، وزوجك كذلك!! وتدركين نفسك بوصفك "عاهرة" فقط؛ لأن قوانين البشر في العواطف والرغبات قد غلبتك لأنها كانت أقوى من أساطيرك التي هي سائدة للأسف في حالات متعددة، ولو أنك رفعت هذا الالتباس و"اللخبطة" فرأيت نفسك بشرا مثل كل البشر تحاولين الالتزام فتنجحين أحيانا، وتغلبك نفسك ومشاعرك أحيانا أخرى، لو أنك تجردت من الأوهام الشائعة، ورأيت الواقع الحقيقي لحالتك، ولسنن الله في الحياة والناس، لأدركت أنك لست منافقة ولا عاهرة يا عزيزتي، ولكن مجرد عاصية اندفعت في لحظة شهوة معروفة في اتجاه وارد بسبب تأجيل فرصة الوصال، ثم أدركتها نعمة الله فتوقفت قبل الحافة تماما، كما توقفت أمام البانيو، وفي يدك مجفف الشعر، وهنا وهناك يمكنك أن تشاهدي فضل الله سبحانه، وبعضا من بقايا متانة في التكوين النفسي والأخلاقي، وهي أمور تستدعي الاحتفاء والاحتفال، وتغري بالمواصلة في "سبيل تطويرها وتنميتها" لتزدادي قربا من الله وخبرة إيجابية في الحياة.
وأنت -كما البشر يا ابنتي- ما زال إبليس يغريك؛ فمرة كاد أن يستعجل بك قضاء الوطر قبل الأوان، ثم لما فشل عاد إليك ليضخم معصيتك، ولتقنطي من رحمة الله الذي كان وما يزال الرحمن الرحيم بنا وبك، فكم له عندك وعليك من نعم، وهو سبحانه هو الذي جمع بينك وبين من تحبين لتقري عينا ونفسا، وتذوقي من الحلال ما كدت تقعين فيه بالحرام، فهل باليأس من رحمته تشكرينه عليها؟!
أفيقي من غفلتك، ومن الكبوة التي أوقعك فيها شيطانك، وعودي إلى حقائق البشر والحياة بوصفك إنسانا يخطئ ويصيب، يعصي ويستغفر، يغفل ثم يعود إلى الله تائبا راجيا عفوه، وهكذا أنت وأنا وكل الناس، سترنا الله أجمعين.
وعودي إلى الدعوة وإلى خدمة دينك، وإلى فراش زوجك، فما فعل هو هذا وذاك إلا تحت ضغط مشاعره نحوك، ورغبته فيك، ثم رفض أهلك، وحدث ما حدث من ضعف إنساني منكما، وهو يستغفر ويتوب، وعفا الله عما سلف، فهل ستظلين في هذه النقطة متجمدة محاصرة بأوهام الدنس والقذارة، وتهم العهر والدناءة، فنخسر وتخسرين طاقتك وهمتك وعملك وعلاقاتك بينما لا يربح إلا إبليس وأعوانه؟!!
أرجو أن تحافظي على علاقاتك بزميلاتك "الكافرات" لأنهن مثلك ومثلي ومثل الجميع بشر يخطئن ويصبن، وهن في حاجة إليك -حين تتعلمين من خبرتك تلك- فأرجو أن تتذكري قوانين الله سبحانه ومقاييسه، ويجعلك اندفاعك القديم أكثر نضجا ومعرفة بالبشر، وأكثر خبرة بالحياة، فتظلي على صلتك حية بهن، وتتأملي فستجدين عندهن بعضا مما يفيدك في إثراء نظرتك وتجربتك، ولعلهن يجدن لدين التفهم وحسن الخلق، والدعم المعنوي، والاحترام الإنساني، والحرص والاهتمام بهن فتكونين من رسل تصحيح صورة الإسلام المشوهة حاليا كما تعرفين.
لعل ما حدث كان لحكمة -وأظنه كذلك- وأرجو أن تستفيدي منه، فها هو قد أخرجك من عزلتك وحركتك المعهودة فقط وسط الأخوات، وقد أخرجك من أعتى الأوهام والأساطير المؤثرة المنتشرة، ويمكن أن يكون مقدمة رائعة لامرأة من طراز فريد نضجا وفهما، وإيمانا، وهذا من فضل الله عليك، ومن التعليم عبر الابتلاء، فهل تفهمين، وتحمدين الله؟!! وهل تعودي إلى الله شاكرة تائبة؟!!
آن الأوان يا أخواتي ويا إخواني أن نعود إلى الله سبحانه، مثل إخوة يوسف بعدما تبين لهم فقالوا: (إنا كنا خاطئين)، وآية هذه العودة أن نصحح فهمنا لديننا، وإدراكنا لذواتنا وللعالم، وعلاقتنا بمن حولنا، وبالإسلام الذي نظلمه، ويفسد فهمنا له علينا حياتنا حين نفشل في استيعابه والالتزام السليم به؛ فهو دين الله المتين ويحتاج إلى رفق ووعي، وتابعينا لأنك ستحتاجين حتما إلى العرض على طبيب متخصص لا لتناقشي معه خلفيات حالتك، ولكن لتتعالجي بالعقاقير أساسا من أعراض اكتئابية واضحة تصفينها، وسننتظر رسالتك.