في البداية أحب أن أوجه الشكر إلى القائمين بالرد على مشاكل الناس جزاهم الله كل خير، فكم أثرت حلول المشاكل التي تعرض عليهم على تقويم بعض السلوك عندي، وأصبح القائمون عليها كأنهم أصدقاء أوفياء لي أو أشقاء أكبر أثق في آرائهم التي تدعمها خبرتهم في الحياة وعلمهم الغزير، وأصبحت لا أتوانى في عرض أي مشكلة عليهم، وقد أَسْهَم حلُّها في خير كثير لي وهدوء نفسي كبير.
والمشكلة التي أود أن أعرضها على سيادتكم هي أن والدتي -جزاها الله خيرًا- على حسن تربيتها لنا لا تحبني كباقي أشقائي - لي شقيقان - وتفضل أشقائي عليّ وتحبهم أكثر مني، وهذا ليس شعور أو إحساس، ولكن هي فعلاً تحبهم وتفضلهم عليّ، حيث إن تصرفات والدتي الكريمة تدل على ذلك ويلاحظ ذلك جميع الأقارب والأهل. هذا ليس معناه أن أمي لا تحبني فهي تحبني ولكن ليس بقدر إخوتي، مع إنني أحبها حبًّا شديدًا وأشد إخوتي برًّا بها. فأرجو أن تدلني على حيلة نفسية معينة بحيث أتعايش مع هذا الشعور (أنا أحب أمي جدًا وهي لا تحبني كمثل إخوتي!!).
أرجو الرد والنصيحة
جزاكم الله كل خيرًا.
21/8/2024
رد المستشار
أخي العزيز: شكرا على مشاعرك نحونا، ونرجو أن نكون عند حسن ظنك دائما.
تدخل بنا في سؤالك ـهذه المرةـ منطقة شديدة الوعورة مليئة بالأفخاخ والصعوبات، ولكن مرحباً بك على كل حال.
هل تريدني أن أدلك على حيلة نفسية مناسبة لتتعايش مع الشعور بالظلم أو "الرثاء للنفس" الناتج عن ما تراه من موقف الوالدة؟!
الحقيقة أنني لم أستطع تمرير مسألة تفريق والدتك في مشاعر الحب بينك وبقية أشقائك.
لو أنك قلت أنها تفرق في التعامل لقلنا: يجوز، وبحثنا عن السبب بعد التحقيق في "التهمة"، أما التمييز في المشاعر فأنا معترض عليه من حيث "الشكل" أصلاً؛ إذ كيف عرفت حقيقة مشاعرها، ومقدار هذه المشاعر؟!!
هل شققت صدرها، واطلعت على قلبها فرأيت فيه حبًّا يزيد لهذا أو ذاك، وينقص لك؟!
هل لديك جهاز الكتروني متقدم تستطيع به قياس درجة الحب، كما نقيس الضغط، ودرجة الحرارة؟!
هل قالت لك والدتك يومًا أنها تحبك أقل؟!!
من أين عرفت، وبالتالي أطلقت هذه التهمة الثقيلة؟! أغلب الظن أنك حكمت من خلال "التصرفات"، كما قلت في سؤالك، فهل التصرفات كافية لإصدار مثل هذا الحكم؟ وهل تصوراتك عن هذه التصرفات وإدراكك لها يمكن أن يتخبط ويضطرب فترى غير الحقيقة؟!!
بالنسبة للسؤال الأول أقول لك: إن والدتك –كما يبدو– شخصية سوية متوازنة أحسنت تربيتك-كما تقول- وتحبك، وأنت تبرها، وقد يصدر عنها بعض اهتمام زائد تجاه أحد أشقائك ليس بسبب أنها تحبه أكثر، ولكن بسبب ظروفه السنية أو الدراسية... إلخ.
وسئلت أُمٌّ عن أحب أبنائها فقالت بحكمة: "الصغير حتى يكبر، والمسافر حتى يعود، والمريض حتى يشفى" وعليه فيمكن أن يكون أشقاؤك في ظروف -لست فيها- تستدعي اهتمامًا زائدًا -مؤقتًا- فتذهب أنت إلى إدراك المسألة على نحو خاطئ.
ولدى الأم حاسة مرهفة تدرك بها أن فلانًا من أبنائها يحتاج إلى دعم نفسي وحنان أكبر، ويحتاج إلى طريقة معينة في التعامل والتواصل والتعبير عن المشاعر والتحذير من الأخطار والأخطاء، وتحاول أن تكون متوافقة مع الطريقة التي تصلح معه فيبدو للآخرين أنها تحبه أكثر، بينما المشكلة فيه وليست فيها، كأن يكون الولد اعتماديًّا على الآخرين، عاطفيًّا، وربما أهوج أرعن يحتاج إلى لجام مستمر، ورقابة حانية لصيقة.. أو غيرها من المسائل التي تحتاج إلى رعاية أقرب قليلا.
هل يُلغِي هذا أن الأم أحيانًا تخطئ التقدير والتعبير؟! اللهم لا، لأنها بشر في النهاية، والبشر عرضة للخطأ في كل وقت وأمر، ولكن خطأ الأم ينبغي أن يوضع في سياق مهمتها ومشاعرها وسيرتها منذ لحظة ميلادك وحتى الآن، كما أن المقاييس المنطقية ينبغي أن تظل بعيدة عن علاقة الأمومة؛ لأنها أصلاً علاقة فطرية ربانية لا يمكن تفسيرها بالمنطق المادي أو المباشر البسيط، فلولا ما أودعه الله في قلوب الأمهات من حب وحنو لما سهرت وبذلت من سعادتها وراحتها لتسعد أنت وترتاح، هي علاقة خارج المنطق البسيط -أرادها الله كذلك- وينبغي أن نتعامل معها هكذا "بقواعدها الخاصة". وإذا أردنا أن نتتبع أسباب انحياز الأم إلى أحد أبنائها أو ضده فلن يتسع المجال لذلك، وإن صح هذا فعليك أن تراجع المسألة بعمق أكثر بالنسبة لوضعك وتصرفات الوالدة، وحذارِ من القراءة الخاطئة.
الأمر الأخير الذي ألفتُ نظرك إليه أن هناك حالات تشبه حالتك يكون السبب فيها ترتيب الولد بين أشقائه مثل: "حالة الولد الأوسط" وهي متلازمة نفسية معروفة لا يخلو منها "أوسط" إلا من رحم ربك، وقليل ما هم، وأحيانًا فإن الإلحاح في طلب الأشياء أو المشاعر يضغط على النفس، ويُصَعِّب الاستجابة، بينما يكون البذل أسهل دون طلب.
وأوصيك يا أخي أن تتمتع بالمتاح من حب والدتك لك - مهما كان قدره، أو حقيقته، ومهما كانت تصوراتك له -قبل أن يأتي يوم "قريب أو بعيد" تقول فيه لنفسك: ليتني هجرت الهواجس، واستمتعت بحضن أمي حتى لو كان باردًا بعض الشيء.
واقرأ أيضًا:
أمي والتفريق في المعاملة!
التفريق في معاملة الأطفال