السلام عليكم
مشكلتي أنني أعيش أنا وأمي بعد انفصال والدي عنها وأنا عمري ثلاثة شهور، حيث إن أمي حضنتني وربتني ولم تقبل أن تتزوج وتتركني لتعلقها بي، أي إنها ضحت بحياتها من أجلي، بينما أنكرني أبي ولم يتعرف علي ولم يهتم بي ولم يسأل عني، وعاش حياته مع زوجته الثانية وأولاده.
بعدما بلغت سن المراهقة حاول أبي أن يأخذني غصبا عني من أمي بواسطة القضايا والشرطة حتى يحرق قلب أمي عليّ ويحرمنا من بعضنا إلا أن محاولاته باءت كلها بالفشل، ونصرني الله عليه وعلى مكره، وبقيت مع أمي.
أبي لم يعدل بيني وبين إخوتي، حتى إنه لم يدفع أي تكاليف للجامعة. والآن أنا تخرجت وعلى أبواب الزواج؛ حيث تقدم لخطبتي شاب جيد، سيرته طيبة، ويعمل مدرسا، قبلت به ورضيت، إلا أن أبي عارض هذا الزواج فقط حتى ينتقم مني ويعقدني وينتقم من أمي، رفعت دعوى "عضل ولي" على أبي في المحكمة كما نصحني بعض القضاة، إلا أن أبي اشتكى أهل خطيبي وأهانهم وأساء معاملتهم حتى أبعدهم عني وفرق بيني وبينه. وهو الآن يمانع أي شخص يتقدم لي بدون سبب، إلا أنه فقط يريد أن يذلني ويقهرني.
وأنا وأمي نعيش لوحدنا في البيت، وأتمنى والله أن أرتبط بشخص حتى يكون سندا لي ولأمي، لكن حقد أبي ولؤمه منعاني من أبسط حقوقي والله بدون أي ذنب ارتكبته بحقه.. ماذا أفعل فيه؟!
وأنا أعيش حياة بئيسة، وأنظر إلى كل اثنين مرتبطين وسعيدين والدمعة في عيني!!
أرشدوني، جزاكم الله خيرا.
26/9/2024
رد المستشار
الابنة الكريمة،
هل تعلمين أنني أتمنى أن أتمكن من نسف كل الأوضاع السيئة وركام الجاهلية والتخلف الذي يسيطر علينا منذ قرون طويلة.. أحلم أن أعيش في المدينة الفاضلة التي يتعامل فيها البشر فيما بينهم -وتحت أي ظروف- بإنسانية توافق ما جاء به الشرع الحنيف وما بلّغه المصطفى صلى الله عليه وسلم عن رب العزة جل وعلا، أحلم أن يكون انفصال الزوجين بداية لعلاقة يظللها الاحترام المتبادل والتعاون من أجل مصلحة الأبناء.. فلذات الأكباد.
إن المولى شرع الطلاق حلا لأزمة استحالة استمرار الحياة الزوجية، ووضع لنا دستورا للطلاق كما وضعه عند الزواج، وجعل لنا ضابطا وحاكما وهو إما المعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان "الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ"، وأرشدنا إلى التعاون والتشاور في إدارة كل شأن من شئون الأبناء، بدءا من فطام الصغير "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا" ونهى الوالدين عن أن يضر أحدهما الآخر بولده "لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ".
ولكن السيناريو الذي يحدث في مجتمعاتنا يختلف تماما عما أراده وارتضاه لنا الشارع الحكيم؛ حيث تنتهي الحياة الزوجية نهاية مأساوية، يتعمد فيها كل طرف من الطرفين أن يسيء للآخر، وأن يهينه ويذله ويقتص منه بكل وسيلة ممكنة، وتتدخل الأطراف المختلفة مطبقة المثل الشعبي المصري: "أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب"، وتنتهي مأساة الطلاق وكل من الطرفين يحمل للآخر رصيدا متضخما من المرارة والمعاناة.
ونحن بطباعنا نرفض أن نصارح أنفسنا بأخطائنا، وبالتالي يُحمّل كل طرف من الطرفين الآخر مسؤولية الفشل والتصدع الذي أصاب الحياة الزوجية، كلا الطرفين مجروح.. ولكن من أعراف مجتمعاتنا التي يجب أن يلقيها في سلة المهملات أن الرجل لا يعيبه شيء بينما المرأة هي المذنبة علي الدوام.. يتزوج الرجل ويجد من تعينه على استكمال مسيرة الحياة، ولكن المرأة تحمل وصمة "مطلقة" مدى الحياة، يحجم عنها الرجال (إلا من رحم ربي)، وتتوجس منها النساء.
تشعر المطلقة أن حياتها قد انتهت وأن أولادها هم الشيء الوحيد الذي يربطها بالحياة، تفرغ كل طاقتها العاطفية في أبنائها، وقد يدفعها خوفها من فقد الأبناء لحرمان والدهم منهم، أو تشويه صورته عندهم. وحرمان الأب من أبنائه يضعف من ارتباطه العاطفي بهم، ويزيد من حدة الأزمة أنه يشعر أن أولاده يكرهونه ويرفضونه بعد أن شبوا عن الطوق، وتتحول الأسرة لجبهتي قتال يصطف فيها الأم والأبناء من جهة والأب في الجهة المقابلة، وهي معركة الكل فيها خاسر في النهاية مهما كسب من جولات مرحلية، فهل آن الأوان أن نعيد ترتيب أوراقنا، وأن نتعامل مع أوضاعنا الاجتماعية بأسلوب أكثر حكمة وأكثر موضوعية وأكثر مواءمة لما جاء به الشارع الحنيف؟!
ونعود لمشكلتك الحالية فأنت تحملين لوالدك ميراثا عظيما من الكراهية، وبهذا الميراث تصبغين وتفسرين كل موقف من مواقفه، ولا تعرفين عنه إلا ما زُرع في رأسك كنتاج للمواقف المتكررة بينه وبين والدتك، فمن أدراك أنه لم يسأل عنك منذ صغرك؟! ولماذا اعتبرت أنه لم يسع لضمك لحضانته إلا نكاية في والدتك؟! لماذا لا يكون سعيه لضمك لحضانته رغبة منه في رعايتك وتولي أمرك؟
أعرف امرأة مطلقة ولها طفلة من زوجها السابق الذي تزوج وأنجب أطفالا من زوجته الجديدة وفتح الله عليه ووسع عليه رزقه بعد ضيق، وهو يريد ألا يحرم ابنته مما أفاض الله عليه.. الأم لم تتزوج ووهبت كل حياتها لابنتها، تشعر أن ابنتها هي حياتها؛ وخوفها من فقد هذه الابنة يدفعها دفعا وبدون شعور لأن ترفض هدايا الوالد لابنته في معظم الأحوال، ويدفعها لأن تمنع ابنتها من أن تطلع على حياة الوالد في أسرته الجديدة؛ خوفا من أن تحب الفتاة هذه الحياة وترغب فيها.
ولا يعني هذا أنني لا أقدر الجهد العظيم الذي بذلته أمك في سبيل تربيتك، ولكنني فقط أريد منك وقد أصبحت ناضجة وراشدة أن تحاولي اكتشاف والدك، وأن تعيدي جسور الود والحب بينكما.. اتصلي به بدون أن يكون لك أي مطالب إلا رأب صدع العلاقة فيما بينكما، واستعيني بالله في كل أمرك؛ فبيده سبحانه مفاتيح القلوب وهو القادر على أن يرقق قلب والدك عليك.
أدرك جيدا صعوبة ما أطلبه منك وخصوصا بعد أن وصلت بك الأمور للوقوف أمام والدك في المحاكم، وهذا بالطبع قد يجعله يصدك لفترة طويلة، ولكنني أريد منك أن تتعلمي الطرق باستمرار على أوتار القلوب. وقد يفيدك في البداية الاستعانة بواسطة من أهلك لها كلمة مسموعة عنده (عم أو عمة مثلا)، ويقيني أنه مع استمرار الدعاء والتضرع إلى الله ومع استمرار استخدام الوسائل التي ترقق قلب والدك -وذلك بالسؤال عنه وزيارته وتقديم الهدايا له- فإن الله سبحانه سيعينك على إزالة أسباب الجفوة بينكما، وستسعدين بقرب والدك منك ورعايته لك، كما سيفرح هو بالتأكيد بعودة ابنته الرقيقة المحبة، وستفرحين حتما بالفوز بثواب بر والدك ورضاه عنك في الدنيا والآخرة.