لماذا انتحر ولدي
أقول أولًا جزاكم الله كل خير لما تقدمونه من خير، لا أريد أن أطيل؛ لأشرح المعضلة باستيفاء قد يخدم الموضوع، ويكون عون في أخذ الجواب الشافي.
أولًا: أنا رجل في الخمسين من عمري، نشأت في بيئة ريفية محافظة، منَّ الله عليَّ بنعمة التعلم والحصول على شهادة جامعية، ومستوي مادي جيد، في وسط كان يعاني في مجمله الحاجة والعوز، وكان تعليمي بمجهود شخصي خالص. فأنا من الإعدادية وأنا أعيل نفسي وربما أشارك في إعالة باقي إخوتي الستة الأصغر مني.
سافرت السعودية بعد التجنيد مباشرة، وواصلت العمل ليل نهار حتى استطعت في سنتين فقط أن أجمع تكاليف الزواج البسيط في ذلك الوقت، ثم تحريت البحث في محيط قريتي عن من ألتمس فيها أن تكون ذات دين، وقد وفقت لفتاة يتيمة الأب مدرِّسة ابتدائي، امتدحت أمي كثيرًا أخلاق أسرتها وسلوك أمها التي كانت نِعْم العائل المحترم لأبنائها الأربعة بعد فقد زوجها، وهي بنت الستة وعشرين عامًا، وكيف أفنت عمرها في تربيت أولادها حتى أنشأتهم خير نشأة متاحة في محيطها... وكان هذا توجهي وتلك طريقة اختياري.
ولم يخِب بفضل الله ظني في فتاتي التي أصبحت في أقل من شهر زوجتي (كتب الكتاب) ثم سافرت وبدأت في إعداد أوراق سفرها لتكون معي، وبالفعل عدت لبلدي شهر تزوجت ثم صحبت زوجتي إلى مقر عملي ولم نفترق من يومها حتى تاريخه (24 سنة) ولم يحدث أن غضبت فذهبت إلى أهلها غاضبة أبدًا بل مشاكلنا القليلة البسطة تُحل بمعرفتنا نحن دون تدخل.
عدنا من السفر عام 1994 ومنَّ الله علينا هنا بالعمل والمال والصحبة الطيبة والسيرة العطرة...
1- منَّ الله علينا من فضله بثلاث أبناء ذكور آية في الأدب والعلم، دخل أكبرهم بناءً على رغبته هندسة في جامعة القاهرة، وبعدها بعامين لحقه أخوه ولكن إلى كلية الصيدلة جامعة القاهرة الذي دخلها بناء على حلمه هو الذي كان يراوده ويردده منذ كان في الصف الرابع الابتدائي، ثم الأصغر في الصف الثاني الإعدادي في إحدي مدارس اللغات المرموقة.
هكذا سارت الأمور معنا، كنت شديد الغبطة لنفسي على ما حباني إياه من جزيل النعمة مع موفور الصحة. وكنت ومازلت مؤديًا زكاتي، كريمًا إلى حد كبير مع من حولي وأرى أن شكر النعمة يكون ببذلها لمن هو أحوج.
مضت الأمور إلى الأحسن فانتقلنا من شقتنا في القاهرة إلى بيت عبارة عن عمارة لنا في إحدى المدن الجديدة -حي راقي- وكانت العمارة منفذة في أربعة أدوار كاملة التشطيب، كل دور شقة جميلة. لكل ولد شقته التي اشترك في اختيار ديكورها، وشقة لنا كأسرة.
ثم كانت الطامة الكبـرى، بعد انتهاء امتحانات الفصل الأول لولدي الثاني في كلية الصيدلة للسنة الثالثة -واجتيازه بنجاح العامين السابقين بتقدير جيد فقط- فوجئت به يُصر إصرارًا عنيفًا -على غير طبيعته الورعة الخجولة- بعدم الرغبة في دخول الامتحان هذا العام فقط، على أن يعوض العام القادم! لم أجد غضاضة في موافقته على طلبه حيث كنت متوقع من الحياة بعض الامتحانات لي غير أن حاله لم تعجبني من حيث التمارض والكسل -على غير عادته- والسرحان...
فتم عرضه على استشاري نفسي الذي شخص الحالة (اكتئاب حاد وخوف مرضي) وفي هذه الفترة لم يدخل امتحان آخر العام، ولم يؤنبه أحد، ولم نُشعر أحد من الأهل حتى أعمامه وأخواله الذين يحبهم ويحبونه كثيرًا بذلك.
وعاد بعد العلاج إلى طبيعته المرحة الودودة غير أنه انتفض فجأة رافضًا الدواء والمتابعة مع الطبيب بدعوى أنه أصبح معافى تمامًا ولا يحتاج إلى طبيب... كما أنه ومن خلال دراسته وبحثه العلمي أيقن أن الدواء الذي يأخذه له أعراض انسحابية وقد يسبب إدمان! وهو لم يدمن حتى الشاي على حد تعبيره هو.
المهم انتفض أيضا نادمًا على ما ضاع من وقت، مصرًا على تعويض ما فات، فبحث سريعًا عن صيدلية يتدرب فيها في الإجازة، وبدأ بالفعل يدرس كتب السنة التي لم يمتحنها، وفي ثالث يوم تدريب في الصيدلية استأذن صاحبها بعد أداء صلاة الظهر جماعة في المسجد لأن لديه أمر مُهم... لنفاجأ به منتحرًا قبل صلاة العصر في أرض فضاء في الصحراء التاسعة في منطقة مخلفات مباني يزيد ارتفاعها عن أربعة أمتار.
الصدفة وحدها جعلت أحد الغفراء يتبع مسار الدم الذي سال من شريان يده الذي قطعه قطعًا جائرًا جدًا ثم هرول نحو حتفه 46 متر مقدار ما حملته قدماه بجرحه ثم أسلم الروح؟؟!!!
ولكم أن تتصورا ما آلت إليه حالنا التي كانت مثالية.
معلومات قد تفيد:
ولدي كان شديد العناية بمظهره شديد الخوف على جسده "ظل يعالج حبوب الشباب لدى استشاري لمدة 3 سنوات" مع أن أخوه الأكبر لم يلتفت إليها حتى ذهبت!
وكان شديد العناية بانتقاء أصدقائه فلا يصادق إلا العفيف... تأكدت تمامًا منه ومِمَن حوله ليس في الموضوع أمر عاطفي فقد عرضنا عليه أنا ووالدته الزواج ولم يقبل، وشقته موجودة وجميع الأمور ميسرة. ولكن حدث ما حدث وأريد أن أطمئن كيف لمن يخاف من صوت قطة أن يقطع شرايين الحياة من يده بهذه القسوة ويكون مدركًا ومسؤولا... ثم لماذا حدث وما تفسير العلم لذلك؟؟؟
إنني على أحر من الجمر
المرسل : أب المهند
البلد مصر
السن : 51
26/12/2010
رد المستشار
الأخ العزيز السيد "أبو المهند" المحترم, أهلاً وسهلاً بك في مجانين, وسوف يسعدني اليوم أن أجيب على طلب استشارتك.
إن التفسير العلمي لما حصل مع ولدك رحمه الله, يتضح من خلال تشخيص الطبيب النفسي لحالته والذي عبرت عنه بعبارة (حالة اكتئاب حاد), فمن المعروف في اضطراب الاكتئاب, سيما في الحالات الشديدة منه, بروز التفكير في الانتحار وعدم جدوى الحياة إلى جانب غيرها من الأعراض المرتبطة بالمزاج, وذلك بغض النظر عمن يكون هذا الشخص, وكيف كانت طبيعته. ومن الشائع حدوث الانتحار بين مرضى الاكتئاب, حيث تصل نسب الانتحار بينهم إلى 15% وإلى 30% في دراسات أخرى. يضاف إليه توقف المريض عن تناول العلاج الدوائي الذي جعل حالته تنتكس وهو السبب الرئيس الذي دفع به إلى الانتحار.
وهذه الحالة لها أسبابها ومبرراتها وهي ليست وليدة المصادفة أو نتيجة ظروف الحياة الكريمة التي وصفتها, بقدر ما هي مرتبطة بأسباب صحية عضوية يدخل فيها اضطراب وظائف النواقل العصبية (الكيميائية) في الدماغ التي انعكست على أدراك وأفكار ومزاج ولدك, فأدت به إلى الانتحار. أي أن حالة ولدك لا تختلف في المطلق عن حالة مريض القلب الذي توفي تحت العمل الجراحي, أو حالات الأورام الدماغية أو غيرها من الأمراض العصبية التي يمكن أن تنتهي بالانتحار أيضاً.
من المؤسف مدى الظلم الذي يلحق بمريض الاكتئاب في معظم مجتمعاتنا العربية, فقد يتم اتهامه بقتل النفس بغير حق من جهة, وقد يحرم من الصلاة وسواها من جهة أخرى, في الوقت الذي يكون فيه لا حول له ولا قوة, سوى أنه أبتلي بأحد أشد الأمراض تسلطاً وقسوة على الإنسان.
اقرأ على مجانين:
زهرة البنفسج تريد الانتحار وكارول أيضًا
مقبل على الانتحار: لا تنصحوني
محاولة انتحار أولى ولا تفاصيل!! مشاركة
رحم الله ولدك, مع شديد أسفي على التأخير في إرسال الرد.