دخل هذا الشاب الجميل صاحب الوجدان الفياض والروح الصافية إلى واحة الإسلام وتجول فيها بعيون طفل منبهر ترى كل شيء جديداً وجميلاً وهى لا تكف عن النظر والاندهاش، ثم راح يمد يديه ليقطف أجمل ما في الواحة ويصنع منه باقات كتب عليها (ونلقى الأحبة)، وخرج يوزعها على الناس فاستقبلوه واستقبلوها بكل الحب والانبهار وخاصة الشباب الذين التقطوا هذه الموجة المحبة المندهشة المستكشفة بمنتهى السهولة واليسر، ففروا من بائعي الشوك الذين انتشروا قبل ذلك على بعض المنابر وعلى الأرصفة، أولئك الذين تجولوا في صفحات الكتب وفي أزقة التاريخ بقلوب قاسية وعيون جامدة فعادوا منها بأشواك كتبوا عليها شعارات إسلامية وحاولوا إغراء الناس بها فاقتربوا منهم حتى سالت دماؤهم فانفضوا مذعورين.
أما ذلك الشاب الرائع عمرو خالد، بائع الورد فما يزال يتجول في الواحة ويخرج أجمل ما فيها من ورود ومن كنوز، ويبدو أن معينه لن ينضب قريباً خاصة وأنه قد اقترب من الجانب الإنساني والجانب الوجداني في شخصيات الصحابة رضوان الله عليهم وهما جانبان لم يأخذا حقهما من كثير من الدعاة نظراً لانشغالهم بالتحقيق النصي أو السرد التاريخي.
وهو يسلط الكاميرا على الشخصية التي يتأملها ويقترب من تفاصيلها وينقلها بمشاعرها وأفكارها وروحها طيبة نابضة مثيراً في المشاهد مشاعر الغيرة والمحاكاة ومحركاً إياه نحو آفاق الجمال الإنساني المتجسد في شخصيات الصحابة (الأحبة) رضوان الله عليهم، وهو قد استفاد من عبقريات العقاد وحل معضلة صعوبتها على كثير من الناس وأعاد إخراجها بشكل ميسر مضيفاً إليها الجانب الوجداني الذي كان يفقده العقاد ذو الطبيعة الفلسفية العقلانية.
وحين تسمع هذا الداعية العبقري البسيط تشعر أنه يحدثك عن نفسك وأنه قد مر بالخبرات التي تمر بها وقد واجهته الصعوبات التي تواجهك، وأنه مازال يعالج كل هذه الأشياء مثلك تماماً ومن هنا لا تشعر أنه يلقي إليك الرسالة من علٍ كما يفعل كثير من باعة الشوك غلاظ القلوب جامدي العقول ذووا المشاعر اليابسة أو المتجمدة وهو لا يعطيك أفكاراً سابقة التجهيز، ولا يلقي على سمعك كلمات لاكتها ملايين الألسنة من قبل، بل يخيل إليك أن الفكرة تتقد في رأسه في اللحظة والتو فيلتقطها قلبه ويحوطها بمشاعره الحية الفياضة وحينئذ تلمع عيناه الطفوليتان من الدهشة والانبهار وتخرج الفكرة محاطة بورود المشاعر في موكب جميل وسريع فلا تملك إلا استقبالها بنفس الفرحة والانبهار.
وتأثيره في المراهقين، والشباب غير مسبوق فهم يتكلم لغتهم ويمارس أو مارس كثيراً من أنشطتهم ويعاني أو عانى كثيراً من صعوباتهم وهو ينقل لهم كل ذلك في تواضع شديد يبهرهم ويشعرهم بصدقه وقربه، لذلك يجلسون ويستمعون إليه كأن على رؤوسهم الطير، وهم الذين نفروا من دعاة غيره كثير كانوا يلقون إليهم الموعظة من علٍ ويشعرونهم بدونيتهم وحقارتهم وعدم استحقاقهم لأي رحمة، وفوق كل هذا ينقلون لهم كل هذا في قوالب جافة وجامدة ومكررة وقاسية وبالية، فهم يتكلمون عن حياة غير حياتهم وعن بيئة غير بيئتهم فمازالوا يضربون الأمثلة بالبعير والخيام والشياه والسيوف والرماح، في حين يتحدث عمرو خالد معهم بلغة النادي والموبايل والسيارة والانترنت.
وكان عبقرياً حين ابتعد عن النقاط الخلافية في الدعوة، تلك التي استنزفت القوى دون فائدة وأهدرت جهود أجيال عديدة حتى تخطاهم التاريخ ومع هذا فقد اقتحم مناطق جديدة بواقعية وشجاعة فتحدث مثلاً عن سلوك المسلم في المصيف، وربما ينزعج الكثير من الدعاة من هذه الفكرة حيث يرفضون فكرة التصييف من الأساس، ولكن الواقع الإحصائي يقول أن أكثر من نصف المسلمين يمارسون طقوس المصيف فكيف نسقط كل هذا العدد من الحساب الدعوي أو نقرر طردهم من رحمة الله بهذه البساطة.
وهو مقبول لدى الشباب والمراهقين بصفة خاصة لأنه يحدثهم كمذيع لامع يجري حواراً تليفزيونياً يحترم فيه آراء الحاضرين ويقدرها، وهذا أسلوب جديد على الخطاب الدعوي الإسلامي الذي اعتاد في مراحل التدهور على التلقين من الداعية والسلبية والتثاؤب من المتلقي، فإذا بهذا الداعية الشاب يحيي فريضة التحاور ويحترم المتلقي ويداعب عقله ومشاعره.
وفي عرضه لسلوك الشخصيات الإسلامية تجده يمتلك قدرة فنية هائلة على تحويل ذلك السلوك والأحداث المحيطة به إلى حدث درامي حي وكأنه يعيد بعض هذه الشخصيات أمامك في اللحظة الحاضرة بكل بشريتها وصعوباتها وتطلعاتها وضعفها وسموها ثم يدفعك بلطف إلى مقارنة ما فعلوه بما تفعله ولا يتركك تشعر بالعجز أمام هذه القمم البشرية السامقة بل يمهد لك الطريق ويقنعك أن بإمكانك أن تفعل شيئاً مثلهم لأن عظمتهم جاءت من أشياء بسيطة تستطيعها أنت لو أردت وقررت وصبرت وثابرت.
وهو قد تجنب حتى هذا الوقت (ونتمنى أن يستمر في ذلك) الدخول في مواجهات ساخنة ومعوقة مع الرموز التقليدية التي اصطدم بها الدعاة من قبله وأعاقت استمرار تواصلهم مع الناس، فهو لا يسفه أحداً ولا يفسق أحداً ولا يكفر أحداً، ولا ينال شخصيات أو هيئات أو مؤسسات بنقد أو لمز أو تلميح ونتمنى أن يستمر في ذلك حيث أن دوره الذي يقوم به كبائع للورد لا يستلزم أي شئ من ذلك، والناس في حاجة إلى وروده أكثر من حاجتهم إلى النقد واللجاجة والتآمر، فليبق في هذه الساحة المتسامحة الرحيمة الدافعة والدافقة دون تجريح أو تخطيط سري أو تعاملات من وراء الستار، فكل هذه آفات قد فتكت بالكثير من الدعاة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
ونتمنى أن تظل يا بائع الورد مستقلاً بحيث تكون لكل الناس مبتعداً عن الاستقطابات والتحزبات والجماعات والطوائف فأنت تحمل رسالة إنسانية عالمية لا يجوز حصرها في تنظيم أو حزب أو جماعة أو جمعية، بل هي تسري خالصة محبة متسامحة تروي القلوب الصادقة المحبة للخير في كل مكان على الأرض.
وهنيئاً لك يا بائع الورد أن فتح الله عليك وفتح لك القنوات الفضائية لتنقل وجهك الباسم الطيب البريء إلى كل مكان في الدنيا وتنقل أفكارك ووجداناتك وروحانياتك إلى كل العقول والقلوب والله نسأل أن يثبتك وأن يجعلك نموذجاً لجيل من دعاة الإسلام يبددون صورة المسلم الغليظ الجاف العدواني التي رسمها الإعلام الغربي وساهم في رسمها الكثير من أنصاف الدعاة، وهذا هو الأمل الذي يعطيه لنا الله ليظهر النور وسط الظلمة وينبت الورد من وسط الأشواك.
واقرأ أيضًا:
أزمة منتصف العمر / صلاح جاهين وثنائية الوجدان