عقدة سندريلا (1) مدخل لمشكلة الدراسة وتطوره
ثالثًا: بداية المشكلة (منشأ العقدة):
قد بدأت المشكلة حيث كانت الفتاة آمنة، وحيث كان كل شيء يعمل لحساب راحتها وحمايتها وكان الأب والأم جاهزين دائمًا لتلبية حاجاتها، ولقد استشعرت الفتاة الحاجة إلى الاعتماد وإلى أن تستند إلى شخص ما، وتعود إلى مرحلة الطفولة السعيدة حتى وهي راشدة لأنها المرحلة التي تضمنت استمتاعها بالحنان والرعاية والاهتمام والإعفاء من كل المسئوليات، وهى المرحلة التي كانت فيها بعيدة عن كل الأذى والألم والخطر، وقد بقيت هذه الحاجات مع الفتاة في سن الرشد مطالبة بالإشباع كجزء من الحاجات غير المشروعة والمقبولة.
وفي الحقيقة أن البنين يخبرون بالحاجة إلى الاعتماد أيضًا كالبنات ولكنَّ الفتيات يجدن تشجيعًا قويًا منذ طفولتهن الباكرة على أن يكنَّ معتمدات إلى درجة أكثر مما هو عند البنين بكثير فكل امرأة تتأمل حياتها جيدًا تعرف أنها لم تتدرب مطلقًا على أن تواجه المتاعب والشعور بعدم الارتياح، كما أنها لم تُعَوَّد على أن تعتني بنفسها وأن تستقل في سلوكها وأن تُكَوَّن منذ البداية; وعلى أحسن الأحوال تقول (السيدة دولنج) أنها قد تمارس لعبة الاستقلال بينها وبين نفسها كنوع من الحسد أو التحدي للرجال لأنهم يبدون قادرين على الاكتفاء الذاتي على نحو طبيعي.
وكما لاحظت (سيمون دي بوافرار) منذ فترة طويلة أن النساء يقبلن الدور الخاضع لكي يتجنبن الضغوط والتوترات المتضمنة في التعهد أو في الالتزام بالوجود الأصيل، وتعترف السيدة دولنج أنها هربت من الضغوط وأصبح هذا الهرب عادة لديها وتقول أنها ما إن خرجت إلى الحياة حتى استدرجت عائدة إلى الوراء معتمدة على الآخرين فارة من الحرية والمسئولية خارج المنزل مستريحة إلى حياة ربة البيت تقوم بالأعمال المنزلية باستمتاع، وعندما كان يقترح الزوج على الزوجة فكرة الخروج للعمل خارج المنزل، أو عندما يخطر هذا الخاطر على بالها فإنها كانت تشعر بأن هناك شيئا متضمن في الالتزام خارج المنزل، من شأنه أن ينقص من الأنوثة.
وتقول بأن هناك احتمالاً قوياً بأن الشك البسيط والذي لم يختبر والمتمثل في فكرة خدش الأنوثة بسبب العمل خارج المنزل قد يلعب دورًا هامًا وإن كان العمل خفيًا في النضال ضد الاستقلالية.
وقد نشرت السيدة دولنج مقالاً في مجلة نيويورك على شكل قصة عنوانها (ما بعد الحرية) ذات عنوان فرعى هو: اعتراف من امرأة مستقلة شرحت فيها مشاعرها، وما إن نشر المقال حتى توالت عليها الرسائل من السيدات وكلها تقول أنك لست وحدك في هذه المشاعر وكانت هذه الرسائل من نساء صغيرات في السن وأخريات كبيرات ومن مهنيات ونساء غير مهنيات..
إن الصراع بين الرغبة في أن تبقى امرأة مستقلة والرغبة في أن تتعلق بأحد .. يخلق تناقضًا وجدانيًا مرهقًا مستنفذًا للطاقة.
سيدة في الرابعة والثلاثين وصفت نفسها وكأنها مرتبطة بزوجين; هذه السيدة تربى طفلين لها ثم عادت إلى دراسة القانون، وتشعر بالحيرة والقلق بصدد هذه الرابطة المزدوجة:تربية الأطفال أم بناء حياة مهنية.. إنها خائفة من الاستقلال وعدم الاستقلال في نفس الوقت وقد قررت بعد حصولها على شهادة القانون أن تنخرط في عمل خاص، وشاركت بالفعل في مشروع مع شريك رجل لا يزيد عنها خبرة كما تقول ولكنها تذكر أنه كان يؤدى العمل بثقة واطمئنان وكان الفرق واضحًا بينهما في الطريقة التي تفاعل بها كل منهما مع مسئولياته في العمل وتختم حديثها بالقول:(يبدو أنى لازلت معترفة بالجري والاحتماء وراء رجل يحميني.. ما هذه المصيدة السهلة وما هذا الكسل والإعتمادية التي أصبحت عليها)!.
إننا لا نعترف عادة بنفس الوضع الذي كان عند هذه السيدة ولكنه يوجد لدينا جميعًا ويظهر عندما نتوقعه على الأقل وعندما تداعبنا أحلامنا..
من المحتمل أن تعود رغبة النساء في الخلاص إلى أيام حياة الكهف التي عاشها الإنسان قديمًا وحيث كانت قوة الرجال الجسمية مطلوبة لحماية النساء والأطفال من الوحوش، ولكن هذه الرغبة لم تكن بناءة أو مناسبة، إننا لا نريد أن ننجو أو نتخلص بالاعتماد على الآخرين.
وتقول دولنج أن ردود فعل السيدات على المقال الذي نشر في مجلة نيويورك يظهر أن هناك عددا كبيراً من السيدات يشعرن مثلا بالغضب والحيرة والقلق بشان قضية الاستقلال - الاعتماد- وتتساءل لمَ لمْ يعالج أحد هذا الموضوع من قبل؟ هل هناك خوف داخلي من الاستقلال عند النساء؟
إن الحاجة إلى تجنب الاستقلال تبدو لي قضية هامة جداً وتقول دولنج:" بل يحتمل أن تكون أكثر القضايا التي تواجه النساء اليوم أهمية"
"إن الاعتماد النفسي والشخصي أو الرغبة العميقة في أن تكون المرأة موضع رعاية الآخرين هو القوة الأساسية التي تتحكم في النساء اليوم وأنا أسميها عقدة سندريلا تلك الشبكة التي تحوى العديد من الاتجاهات والمخاوف المكبوتة والتي تبقى النساء في منطقة شبه الظل أو شبه الضوء وتمنعهن من الاستخدام الكامل لعقولهن وقدراتهن الإبداعية، ومثل سندريلا تجلس النساء اليوم قابعات ينتظرن شيئًا خارجيًا يغير حياتهن ".
رابعاً: مظاهر المشكلة (مظاهر العقدة) :
تتجلى عقدة سندريلا في عدة مظاهر يمكن استخلاصها من بين ثنايا الكتاب كالآتي :
1- فجوة الإنجاز:
تظهر الدراسات باستمرار ارتباط معامل الذكاء بالقدرة على الإنجاز وتقول دولنج أن هذه العلاقة واضحة عند الرجال فقط ولا تبدو كذلك عند النساء، وقد ظهر هذا التباين بين الذكور والإناث بوضوح في دراسة جامعة ستانفورد عن الطفل الموهوب Stanford Gifted Child Study وقد شملت العينة أكثر من 600 طفل وطفلة بلغ معدل ذكائهم أكثر من 135 (وهذا يمثل الـ 1% الأعلى من بين المجموع الكلى للسكان) وقد تم تتبعهم حتى سن الرشد، واتضح أن أعمال الراشدات من النساء كانت غير مميزة وكان ثلثي النساء من ذوات المستوى العبقري من الذكاء (170 أو أكثر) من ربات البيوت أو من العاملات في المكاتب.
وتقول الطبيبة النفسية (الكسندرا سيموندز)- وهى من المهتمات بسيكولوجية المرأة - أن النساء الموهوبات كن راغبات حقًا في التقدم ولكنهن كن يفضلن أن يعملن وراء الرجال ذوى القوة والنفوذ، رافضات كل التقدير لذواتهن أو لتحمل المسئولية عن إسهاماتهن الخاصة، وفي العلاج يتعلقن بماضيهن ويتشبثن بما وقع فيه، بحيث أن كل خطوة نحو الصحة وتأكيد الذات يتم مقاومتها بشكل شعوري أو لا شعوري، وتقول سيموندز بوضوح أن بعض النساء يقررن بشكل واضح لديهن رغبة في أن يتغير هذا الوضع.
وقد لاحظت (جودث برادوك) في كتابها سيكولوجية النساء أن البنات الموهوبات كن أقل ميلاً إلى الالتحاق بالكليات واستكمال درجاتهن الجامعية الأولى بالمقارنة بأقرانهن من الذكور كما كنَّ أقلّ حصولاً على درجات الدكتوراه والاستفادة منها، وكن أقل إنتاجية من الرجال عندما يكون العمل على مستوى درجة الدكتوراه. وتذكر الكاتبة أن النساء بصفة عامة يرتبطن بالأعمال منخفضة الأجر.
وهذه هي عناصر فجوة الإنجاز عند النساء وملخصها أن النساء لا يحصلن على ما يمكنهن الحصول عليه. والذي لم يتم الاعتراف به إلى الآن هو دور المرأة نفسها في الحفاظ والإبقاء على هذه الفجوة فالنساء لا يستبعدن أحد من مجالات النفوذ والقوة.
2- القلق:
يدل تطبيق اختبارات القلق بمختلف أنواعها على زيادة درجات الإناث عن أقرانهن من الذكور في مقاييس القلق مما يشير إلى أن المرأة أكثر قلقاً من الرجل، ويظهر هذا القلق بوضوح عند التقدم للالتحاق بعمل أو عند الترقية في مجالات العمل أو حتى عند استصدار رخصة قيادة للسيارة.
وتقول دولنج: النساء لن يصبحن أحرارًا حتى يتوقفن عن القلق وإننا لن نبدأ في خبرة التغيير الحقيقي في حياتنا، ولن نخبر الانعتاق الحقيقي حتى نتدرب على العمل خلال ألوان القلق أو أن نسيطر على القلق نفسه وأن نخفض تأثيره، وهى عملية كما تقول دولنج أشبه بعملية غسيل المخ.
3- برود العلاقة الزوجية:
إن المرأة التي تحاول مقاومة مخاوفها عادة ما تجد صعوبة في إنشاء علاقة ايجابية مع الرجل، إنها في هذه الحالة تكون شبه خاضعة لحاجة داخلية مضمونها الشعور بالتفوق وأنها ينبغي أن تكون "مسئولة عن" وفي العلاقة الخاصة تجد نفسها في مشاكل مع الرجل الذي ارتبطت به، ولذلك فإنه بعد شهر العسل يتسم سلوك الزوجة بالبرود والتباعد.
4- الخوف من تحمل المسئولية:
وقد ظهرت هذه الخاصية بوضوح في ضوء الزيادة الواضحة لأعداد النساء المصابات بالرهاب أو الخواف Phobia وقد أوضحت الطبيبة النفسية (الكسندرا يموندز) من واقع ممارستها في نيويورك سيتي أنه بينما تبدو النساء خائفات من أن يتحكم في حياتهن أحد فإن هؤلاء النسوة كن بالفعل خائفات من أن يتسلمن زمام حياتهن الشخصية ويكن مسئولات عن أنفسهن، وأكثر من ذلك فإنهن يخفن من أن يحددن لأنفسهن اتجاهاً شخصياً; إنهن يخفين الحركة والاكتشاف والاتجاه نحو أي شيء غير مألوف أو غير معروف لهن إضافة إلى الخوف من العدوان العادي والخوف حتى من السلوك المؤكد للذات .
ويمكن أن نعزو الرهاب أو الخوف المرضي عند المرأة إلى أنها تربت في ظل تنشئة والديه تتسم بالحماية الزائدة، وكما تقول (روث مولتون) - وهى طبيبة نفسية وعضو هيئة تدريس في جامعة كولومبيا وفي نفس الوقت إحدى المحللات النفسيات والتي اهتمت بدراسة سيكولوجية المرأة من الزاوية التحليلية النفسية - " إن الآباء كثيرًا ما يرعبون بناتهن عندما يلقون بأنواع قلقهم الخاصة عليهن، إنهم يقولون لهن أنه يجب عليهن ألاّ يرين رجال غرباء وينبغي عليهن أن يعودوا إلى المنزل مبكراً وأن يحذرن أن يضعن أنفسهن في موقف يتعرضن فيه للاغتصاب، وبذلك فإن حياة المرأة التي تعانى باستمرار من المخاوف تتجه إلى المضي في دوائر أصغر فأصغر".
وتقول مولتون إنها اكتشفت أن مجموعة كبيرة من النساء المريضات لديها قد ارتعبن جدًا وشعرن بالوحدة بعد وقوع الطلاق وهن اللاتي طلبنه من البداية، وبدا الأمر كأن هؤلاء النسوة يعانين من حاجة قهرية إلى الرجل; وفى الحقيقة فان كل النساء الرهابيات اللاتي قابلتهن كن يتشاركن في وهم واحد مضمونه: إذا كان هناك رجل في المنزل حتى ولو كان نائمًا أو سكيرًا أو مريضًا فإن ذلك أفضل من البقاء في المنزل بمفردي.
وتقع كثير من النساء في صراع بين الرغبة في الحماية من ناحية وما ترغب أن تجد نفسها عليه من ناحية أخرى وتصور (سيمون دى بوفوار) هذا الصراع في كتابها "الجنس الثاني" حيث أشارت إلى المخاطر التي يتعرض لها النسوة من تكريس حياتهن جدًا للمنزل حتى أنها تنسى وجودها الحقيقي وتستمر بوفوار قائلة: أن شئون المنزل بمهامها الدقيقة وغير المحدودة تسلم المرأة إلى نوع من الهروب السادي–الماسوشي- من نفسها.
المصدر : مجلة علم النفس عدد 67/68 (يوليو ديسمبر 2003)
ويتبع >>>>: عقدة سندريلا (3) مظاهر العقدة