جلست أتابع تلك السهرة المميزة مع الدكتور أحمد زويل في برنامج الساعة العاشرة وكنت أنوي مجرد الاستمتاع بحديث الضيف المتميز ولكنني فوجئت بأن الإعلامية الذكية الأستاذة منى الشاذلي تستفيد ببراعة من ثقافتها النفسية فتأخذ لقطات لشخصية زويل من زوايا مختلفة وتسلط الأضواء على ثنايا فكره ووجدانه، وهكذا استيقظت هوايتي- التي هي مهنتي - فرأيتني أمسك بالورقة والقلم لأسجل هذه القراءة لشخصية في حجم زويل خاصة وقد طمأنته المضيفة (المحللة) ببساطتها وتلقائيتها وحرفيتها فكانت دفاعاته في أقل مستوياتها فاستطعت أن أراه- ربما لأول مرة - بهذا الوضوح النسبي، وقارنت صورته في هذه المرة بصورته التي رأيتها مباشرةًَََََ (وجهاًَ لوجه) في محاضرته العلمية الإنسانية التي ألقاها في المؤتمر العالمي للطب النفسي في المركز الدولي للمؤتمرات بالقاهرة، وقارنت ذلك بصورته في مقابلات أخرى مع مذيعين كانوا في حالة انبهار بالأضواء المحيطة به فلم يستطيعوا أن يروه إنسانا، وربما يكونوا قد وضعوا عليه أقنعة فحجبوه عنا وحجبونا عنه, وأضفت إلى كل ذلك قراءتي لسيرته الذاتية في كتابه "رحلة عبر الزمن" من إصدارات مؤسسة الأهرام بمصر عام 2003م.
كانت هذه مقدمة ضرورية توضح خصوصية الحالة التي كان عليها صاحب الشخصية في هذه المرة حيث كان عفوياًَ بسيطاً سعيداً أحياناً ومتألماً أحياناً أخرى. وأول ما يلفت نظرك في زويل وجهه فهو واجهته الحقيقية التي تستطيع قراءته منه، ذلك الوجه متعدد التعبيرات والإيحاءات في براعة فهو أحياناً يأخذ طابع الجدية والصرامة العلمية ويغطي الجفنين العلويين جزءاً من العينين ويتهدل الخدين ويزم شفتيه فتظهر صورة عالم أضناه السهر في المعامل, وأرهقت عيناه متابعة الجزيئات وتركزت حدقتاه المتسللتان من تحت جفنيه على شيء جديد يراه فيتأمله في خشوع العالم. وفي هذه الحالة تجد أطرافه وجسده في حالة سكون والتزام يليقان بجدية الموقف.
ثم مع تحول مجرى الحديث (منه أو من محدثه) تجد ابتسامة طفولية بريئة وتلقائية أشعت في وجهه فلمعت عيناه وأضاءت وجنتيه، وانفرجت شفتاه في سعادة حقيقية تعود به عشرات السنين إلى الوراء، ويواكب ذلك حركات مرحة فرحة باليدين والرجلين مع حركة الجسم يمنة ويسرة في لطف، ثم سرعان ما يلملم أطراف هذه الحالة ليجلس في صمت الأب المستمع الحاني الودود أو الناقد في حب وشفقة, ثم يخرج من هذه الحالة إلى حالة ابن البلد الظريف فترى وجهاً مألوفاً على المقاهي والحارات المصرية وفي جلسات الأحبة يلتقط الطرفة أو يصنعها ويأخذك بعيدا عن هموم الحياة.
إذن فنحن أمام وجه واسع الطيف من حيث الإيماءات والإيحاءات والتعبيرات وهو يفعل ذلك في لحظات سريعة ولكنك لا تشعر بالنقلات نظراً لبراعة صاحبها في جعلها منطقية ومفهومة من خلال مواكبتها بأفكار سريعة وملائمة وأيضاً مواكبتها والتجهيز لها بلغة جسم تخدمها وتعززها، لذلك تشعر بالارتياح والتناغم حين تسمعه على الرغم من وتيرته المتسارعة والمتغيرة فكراً ووجداناً. ولو كنت مخرجا سينمائيا فستجد نفسك أمام ملامح يمكن توظيفها لإنتاج كم كبير من الشخصيات، فهو في لقطات معينة وبزوايا خاصة يصلح لأن يكون وجه عالم، وفي لقطات أخرى وبتعديلات بسيطة يصلح لأن يكون وجه ابن بلد شهم وفي لقطات ثانية يصلح لأن يكون وجه شاعر رومانسي حالم، وفي لقطات رابعة يصلح لأن يكون وجه حرفي ناصح ومتمكن من حرفته، وفي لقطات خامسة يمكن أن يكون صديق في جلسة أنس.
وهو في قابلية ملامحه لإعطاء صور لشخصيات متباينة يشبه الفنان نور الشريف في قدرته وقدرة المخرجين على تحويل ملامحه من ابن البلد في حارة شعبية إلى هارون الرشيد إلى فيلسوف كابن رشد إلى شخص حالم ككمال عبد الجواد في الثلاثية إلى تاجر إلى شيخ متصوف... إلى.. إلى..... وهذا ربما يشير إلى حالة من الثراء أو الذكاء الوجداني الذي يلتقط ثم يختزن ثم يعكس الكثير من الصور الإنسانية في مرونة وتلقائية، ويعكس أيضا براعة الشخص في التقمص والتفاعل مع الظروف المتغيرة بأقل قدر من التثبيت والدفاعات النفسية.
وإذا كنا مازلنا في مرحلة قراءة الوجه فقد يلفت نظرنا تسريحة الشعر وطبيعته حيث نجد الشعر مطروحا على الجبهة (سواء بقصد إخفاء منطقة خالية من الشعر أو بغير قصد) ويبدو وكأنه لم يمشط بعناية، وإذا أضفنا لذلك قصر السوالف وبساطة رسمها فإننا نكون أمام وجه أقرب للملامح الطفولية حيث الشعر الزاحف على الجبهة (عكس كبار السن الذين يزحف شعرهم متراجعاً عن الجبهة) وحيث عدم العناية بتصفيفه إلى الخلف أو إلى الجانب.
وهذا المظهر الطفولي للشعر ربما يعكس ذاتا طفلية نشطة بداخل صاحبها، تلك الذات المتفائلة المنطلقة المبدعة الفرحة المندهشة. وهذا يجعل أحمد زويل بعيداً عن"برواز"العالم المتجهم والصارم، وبالتالي يغريك بعالمه الذي برع فيه وحقق فيه كل هذه الإنجازات ومع ذلك لم يفقد بساطته وتلقائيته ومشاعره الطفلية النشطة.
وربما يقول قائل:نحن نبالغ كثيرا في قراءة الشخصية من ملامح الوجه أو من لغة الجسد، ولكن ثبت علميا أن اللغة اللفظية المباشرة تعطينا 30% فقط من محتوى التواصل في حين أن اللغة غير اللفظية (وضع الجسد، ملامح الوجه، نظرات العينين، حركة الأطراف, نغمة الصوت) تعطينا 70% من محتوى التواصل.
وإذا جئنا إلى وضع الجسد وجدناه يجلس في ثقة واعتزاز ومع ذلك لا يخرج عن حدود التواضع فهو لا يضع ساقاً فوق ساق احتراماً ومراعاةً للتقاليد المصرية رغم أن هذه العادة مقبولة جداً في المجتمع الأمريكي الذي عاش فيه سنوات طويلة، وهو لا يأخذ وضعاً متخشباً متحدياً أو متصلباً، بل يغير أوضاعه في مرونة ويسر ولا يأخذ أوضاعاً قلقة أو مستفزة وهذا يعكس بساطة وتواضعاً واحتراماً للآخر بقدر احترام الذات والاعتزاز بها.
ومن المهم عند قراءة أي شخصية أن نحاول معرفة مفتاح هذه الشخصية وذلك لكي يتسنى لنا ربط التفاصيل المتناثرة في منظومة تعطينا إطارا واضحا ومنطقيا ومتناغما لصاحب الشخصية نفهم من خلاله الكثير من التفاصيل أو ما يبدو أحيانا أنه متناقضات. ومن خلال كلماته ومواقفه وملامح وجهه ولغة جسده يتضح أن مفتاح شخصيته هو: "عشق العمل والتفاؤل", ويؤكد هذا المفتاح ما كتبه هو عن نفسه (في كتابه رحلة عبر الزمن, صفحة 7, مؤسسة الأهرام 2003) يقول: "ويعتقد كثير من الناس أنه بإمكان المرء أن يدرك النجاح بسهولة معتمدا على النبوغ وحده. وفي حالتي لم يكن طريقي في الحياة سهلا ميسورا – فقد اعترضت طريقي كثير من العوائق والتحديات, ولكن من الصغر وأنا أعرف قوة "عشق العمل" كما أنني بطبيعتي إنسان متفائل " . هذه الحالة من العشق والتفاؤل خلقت حالة من الإدراك الإيجابي الشغوف بالأشياء والناس والحياة ويظهر هذا في كثير من المواقف نذكر منها ما يلي:
1- إدراكه لشخصية والده حيث يقول عنه (في كتابه السابق صفحة 17): كان شديد الإخلاص لعمله ولأسرته , كما أنه علمنا كيف نعيش في بهجة وسعادة ...... وكان يعتقد أن الحياة قصيرة ويجب الاستمتاع بها..... ولوالدي صفات تدعو للحب والاحترام, فقد كان محبوبا من أصدقائه ومعارفه, وكانوا جميعا معجبين به ويكبرونه ويجلونه, وأنا بالفعل معجب به ومقدر لحكمته تلك وهي أن المرء يجب أن يتعلم فن الحياة, أي كيف يستمتع بأيامه في رحلة حياته . وربما كان أعظم شيء تعلمته من والدي هو أنه لا يوجد تناقض البتة بين الحب الشديد للعمل والإخلاص له وبين حب الحياة والاستمتاع بها".
2- إدراكه لشخصية والدته حيث يقول عنها (في كتابه: رحلة عبر الزمن, صفحة 17): "واتسمت والدتي بالورع والتقوى وحرصها على أداء الصلوات الخمس في ميعادها. وهي بالفعل اسم على مسمى, فاسمها روحية وهي روحانية بكل ما تعني الكلمة".
3-إدراكه لجامعة الإسكندرية التي بدأ فيها أولى خطواته نحو التخصص حيث يقول في كتابه سابق الذكر في عبارات عميقة الدلالة على إدراك إبداعي ونفس توّاقة للصعود ومتعلقة بالمعالي (صفحة 30): "وما أن دخلنا حرم الجامعة حتى وجدنا أنفسنا أمام درج شديد الانحدار يبدأ من سطح الأرض ويقف شامخا في الهواء الطلق, وصعدنا درجات السلم حتى إذا ما انتهينا إلى الدرجة العليا وجدنا أنفسنا وكأننا نسران محلقان في الهواء ونشرف من موقعنا هذا على مختلف أرجاء حرم الجامعة بمنشآته العشر على وجه التقريب.... وإنني أتذكر أثناء ارتقائي للدرج هذا بصحبة خالي رزق في أول يوم لي في الجامعة, وكان ذلك في صيف 1963, وحتى قبل أن نصل إلى نهاية الدرج, أتذكر أن قطرات من الدمع قد تساقطت من مقلتي, ولم يكن ذلك عن حزن, إنما هي دموع الفرح لرؤيتي حرم الجامعة لأول مرة في حياتي... حرم العلم والعلماء والذي تنطلق منه إبداعات العقول في مجالات العلوم والفنون بأنواعها المختلفة... وعندئذ سرحت بخيالي وفكري .. ووجدتني أتساءل في شيء من القلق والانفعال:أجد نفسي ذات يوم واحدا من هؤلاء العلماء؟ وجاء الجواب من مقلتي في صورة قطرات من الدموع بلت وجنتي.. وكأنها تردد نفس السؤال! ".
هذا الاستقبال الوجداني الإيجابي للرموز العائلية والرموز العلمية وللحياة عموما يكشف بوضوح عن حالة العشق وحالة التفاؤل وحالة التواصل الرائعة مع الناس ومع الأشياء, ويكشف أيضا عن ملكة الإبداع الكامنة في هذه النفس الحساسة, حيث أن المبدعون يتميزون برؤية خاصة للأشياء تجعلهم يرون ما لا يراه الناس ويدركون الأشياء بعمق غير مألوف ويسمعون همس الكون ووشوشة الطبيعة وتغريد الحياة. وتتصف الشخصية المبدعة بوضوح نشاط ذات الطفل فيها تلك الذات التلقائية الفرحة المندهشة المتفائلة والمتسائلة والمتجددة.
ويلاحظ من مسيرته حرصه على اللقاء بقادة العالم من العلماء والسياسيين وغيرهم وهو يحتفظ بصور تذكارية معهم, وهذا يعطي دلالة على تعلقه بالعظماء والعباقرة وعلى تعلقه بمعالي الأمور على وجه العموم وربما يضاف هذا كمفتاح آخر لشخصيته (إضافة إلى عشق العمل والتفاؤل), وهو يعبر عن هذا بقوله: "وكنت على اقتناع تام بأن السبيل لمواصلة التقدم والنجاح هو أن يتعلم الإنسان من العباقرة وأن يقتفي أثرهم ويحذو حذوهم, وكان إسحاق نيوتن قد عبر عن ذلك بقوله: "إنما تعود نظرتي البعيدة والعميقة للأشياء ومدلولاتها إلى أنني قد وقفت على مناكب العباقرة...", وكان إسحاق نيوتن قد تعلم من جاليليو وغيره من كبار العلماء الذين سبقوه مما مكنه أن يواصل تقدمه ونجاحه.. ومن ناحيتي بدأت أقرأ في تاريخ المشاهير والعلماء وإنجازاتهم وأدركت أن بحور العلم ليس لها حدود" (رحلة عبر الزمن, مؤسسة الأهرام 2003).
ويتبع>>>>>>> : قراءة في شخصية زويل(2)
واقرأ أيضًا:
الحوار وقاية من العنف / سيكولوجية الاستبداد (4) / سيكولوجية التعذيب / قراءة في شخصية زويل(1)