أعلم أنا أن هذه المحاولة ربما تغضِب الكثير من إخواننا، من هؤلاء الذين لا يستطيعون أو لا يحبون فهم النصوص كما هي على ظواهرها، وإنما يسعون إلى الحفر خلف الكلمات الواهنة والمنفلتة، بل والتنقيب عن صدور كاتبيها، والسعي وراء ما يمكن أن يسميه المهذَّبون منهم: نية أو دافعًا، أو يسميه الذين يحبون كيل التهم: عمالة وخيانة.. وما إلى ذلك.
وأود أن يعلم القارئ وأظن أن القول هنا قولي: أنني في صميم نيتي وعقيدتي لست أسعى من وراء تلك المقالة إلى تبرير الواقع المكبوت الذي تعيشه مجتمعاتنا الغارقة في حضيض الديكتاتورية والوحدوية حتى قمة أطول الشعرات الواقفة في رؤوس أفرادها من الرعب والبلاهة!
كما أنني أيضًا لا أسعى إلى تأنيب الضحية على ما يفعله بها الذابح، لأنها في النهاية ومهما يكن ضحية، وأما الذابح فمعتدٍ أثيم.. لا أسعي إلى جلد ذاتي والآخرين من أبناء شعوبنا العربية المحتلة من حكامها، المنهوبة ثرواتها من بني جلدتها قبل غيرهم، ومن الأعراب قبل الأغراب!
ولكنها يعلم الله مجرد محاولة لنقد الذات، والسعي لتشخيص الداء تشخيصًا يستند إلى الحقيقة مهما كانت لاذعة وقاسية، وليس قائمًا على الوهم والتخيلات، وذلك حتى يمكننا الوقوف على الطريقة الصحيحة التي تؤهلنا للشفاء التام من ذلك الداء.
وأعود إلى التساؤل الذي يحمله عنوان مقالتي: الحرية.. منحة تُمنح أم استحقاق يُستحق؟
سؤال قديم ليس بدعًا من القول، ولكن أثارته في نفسي ردة أفعالنا نحن العرب خاصة والمسلمين بصفة عامَّة.. حول المواقف المختلفة من حولنا، أو إن أردت فقأ عين الحقيقة فقل: المصائب والكوارث من حولنا!
أوحت لي ردود أفعالنا عمومًا ذلك التساؤل: هل الحرية هبة تُمنح وتوهب؟ ويجب علينا أن ننتظر أن يهبها لنا حكامنا، أو أن ننتزعها منهم كما يرى البعض.. أم أنها أسلوب حياة كامل ومنظومة أخلاق متكاملة يستحقها المرء وينالها حين يكون أهلاً لها؟ كانت هبة أو انتزاعًا!
بلا لف ودوران: هل نحن فعلاً ارتقينا لنكون أهلاً للعيش بحرية وممارسة الحرية والحكم والتقدير بحرية؟!! هل نحن أهل لأن نرى غير تلك الوجوه القميئة التي عفَّى عليها الزمن، وتعفنت في ثنايا جلدها تقلبات الزمن الغابر، وباض الشيطان في رؤوسها وفرَّخ!!
ولست أعني هنا مرة أخرى ((الحرية الحمراء)) التي لا يطرق أبوابها غير الأيادي المضرَّجة، والتي دافعها الرغبة في التحرر، ومجالها محاربة الاستعمار أيًّا كان نوعه، وإنما أعنى الحرية التي هي كما قلت: أسلوب حياة كامل يصدر عنه المرء ومن خلال تحليه به يوصف بأنه: إنسان حرٌّ، أو متحرِّر، أو متحضِّر، أو أيًّا كان.
أسأل نفسي كثيرًا رغم كثرة وقسوة انتقادي لحكامنا المحكومين: ماذا سيحدث إذا تملكتُ أنا مقاليد الأمور في بلدي؟!!
أتُرى فعلاً سأمارس الحرية بمعناها السامي التي رفع الله تعالى شأنها حين ترك للعباد -رغم أنه الخالق الرزاق ذو القوة- حرية عبادته أو الكفر به؟!!
هل أدع شعبي يمارسها؟ وهل سأترك لهم الحق في انتقادي كلما حلا لهم الأمر؟ وبلا مؤاخذة على الأسلوب الذي سينتقدونني به أيًّا كانت قسوته؟
هل سأترك للآخرين (بمعنى المخالفين لي في التوجُّه والفعل) الحرية في تولي مقاليد الأمور إذا كانت تلك هي الرغبة العامَّة لمن حولي، وبغضِّ النظر عن دافع تلك الرغبة من وجهة نظري، سواء كان جهلاً أو تآمرًا؟
جمال عبد الناصر رئيس عربي مصري أسبق، لم يقدَّر لي أن أحبه أو أن أتعاطف معه، وذلك بالتأكيد للتاريخ العريق والشهير لممارسة الديكتاتورية والقمع والوحدوية في عهده، ولكن.. توقفت أمام مقولة قرأتها عنه، ولا أذكر مصدرها:
تقول القصة: إنه وقف مع أحد الباعة المتجولين يحدِّثه من باب (للتصوير فقط) طبعًا، ولكن قدَّر الله أن تدور بينهما محادثة تاريخية -وإن توهمت غير ذلك- مضمونها أن البائع اشتكى للسيد الرئيس من ظلم وهمجية شرطة البلدية في التعامل معهم، وكيف أنهم يُهدرون كرامتهم قبل أن يدمروا مصدر معيشتهم.. فما كان من السيد الرئيس إلا أن أجابه: ((لو أنني ألبستك زي الشرطة، وألبست ذلك الشرطي جلبابك.. لفعلت معه كما يفعل معك))!!
فيالها من رمية من غير رامٍ! نعم.. هذه هي القضية.. وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضًا عيانًا
أو كما صغتُها في قصيدة نُشرت لي على الموقع بعنوان ((أمةٌ عجب!)):
ويظلم بعضنا بعضًا
ونشكو ظلم والينا
هكذا أظن أن القضية فينا نحن، نحن الذين نحتاج إلى التربية من جديد، نحتاج إلى التأدب بآداب الحرية والإيمان بها واحترامها ابتداء قبل المطالبة بها، ومن أخلاقها السماحة والبساطة، والموضوعية والتواضع، والإنصات للآخر دون ذوبان، واليقين بأن الصواب قد يكون في كلام من يناظرك كما قد يكون في كلامك! والإيمان بأنه.. ((يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها))!!
وإلى تكملة قريبة إن شاء الله.
*اقرأ أيضاً:
انتهى الدرس يا وطني!! / الاستعمار، والقابلية له : هل يعيد التاريخ نفسه ؟!! / الـ بدون: فضيحة العرب تمشي على قدم