سيكولوجية الحماهير(2)
سيكولوجية الجماهير: الكتلة الحرجة
على الرغم من إمكانية خداع الجماهير واستلابها واستغلالها وقهرها, وربما يستمر هذا لفترات قد تطول إلا أن قوانين النفس وقوانين الجماعات تؤدى لا محالة إلى حالة من اليقظة والإفاقة تؤدى إلى غضبة الجماهير, وهى حين تغضب تتحرك كديناصور ضخم يفيق من نومه شيئا فشيئا وتبدو حركته بطيئة في البداية ثم يتجه إلى من أذاه فيدهسه بلا رحمة وربما دمر أشياء أخرى كثيرة في طريقه. وهذه الهبّة الجماهيرية وما يتبعها من حركة في اتجاه التغيير تحتاج لتجمع إرادة نسبة معينة من الناس في اتجاه واحد, وهذا ما يسمى بالكتلة الحرجة, وهذه الكتلة الحرجة يمكن أن تتكون بإحدى طريقتين:
1 – التراكم : وذلك بالزيادة الكمية على فترات طويلة نسبيا من الزمن حتى تصل إلى مستوى يؤدى حتما إلى التغيير.
2 – الطفرة : وتحدث حين تستفز مشاعر الجماهير بشكل مؤثر ومفاجئ خاصة فيما يمس لقمة عيشها أو مشاعرها الدينية أو كرامتها الوطنية.
ولهذا تعمل الأنظمة (الاستبدادية بوجه خاص) على منع تكون الكتلة الجماهيرية الحرجة وذلك من خلال بعض أو كل الآليات التالية:
1- التفتيت: وذلك بتجريم التجمعات وسلب حق التظاهر أو اشتراط تصريحات يصعب الحصول عليها, أو التفجير من الداخل بواسطة العملاء المندسين في أحزاب المعارضة أو في التجمعات الجماهيرية خاصة الطلاب والعمال لتفجيرها وقت اللزوم من خلال إثارة الخلافات والصراعات.
2- الإجهاض: ويتم من خلال المتابعة الدقيقة واللصيقة لأي بادرة تجمع جماهيري أو إثارة من أي شخص أو جماعة فيتم إجهاضها قبل أن تبلغ مرادها. ومع تكرار عمليات الإجهاض تسود لدى قوى التغيير حالة من اليأس والإحباط, فإما أن ينصرفوا عما هم فيه وإما أن يتجهوا إلى العمل السري أو العنف وبهذا يعطوا مبررات لاجتثاثهم بدعاوى جنائية تحرمهم من شرف البطولة الشعبية.
3- الترغيب والترهيب: حيث يتم احتواء بعض القيادات المؤثرة من خلال الإغراء بالمناصب أو المكاسب أو المكانة الاجتماعية, ومن لا تنجح معه هذه الوسائل تكفيه العصا الغليظة تهوى على رأسه فتردعه وتردع غيره ممن تساورهم أنفسهم بالتفكير فيما فكر هو فيه.
4- الرقابة: وهى عين ساهرة ترصد بدقة أي بادرة تفكير أو نية تغيير فتتعامل معها بأي طريقة من الطرق السابقة. والرقابة تستدعى عيونا في كل مكان لرصد أفكار واتجاهات ومشاعر الجماهير, وقد تتم من خلال أفراد سريين أو من خلال أجهزة وتنظيمات أو من خلال مؤسسات شبه علمية.
5- الإبعاد: وهو طريقة للحفاظ على مراكز الرأي والتأثير خالية من أي بادرة تفكير أو تغيير لا يخدم المصالح القائمة, فتوضع اشتراطات ولوائح معينة تحول دون وصول المعارضين للمراكز أو المناصب المؤثرة. وفى بعض الدول التي تقوم على النظام الطائفي يوضع في الاعتبار أن مستويات معينة من الوظائف لا يتقلدها أبناء طائفة معينة حتى تظل السيطرة في يد الطائفة الأكثر سيطرة.
سلوك الحشد:
اهتم علماء النفس بسلوك البشر حين يتجمعون في أعداد كبيرة حيث اتضح اختلاف سلوكهم في هذه الحالة عن سلوكهم في حالاتهم الفردية, وكأن الحشد (التجمع) يأخذ أبعادا نفسية تتجاوز مجموع اتجاهات وآراء الأشخاص منفردين, وكأن تغيرا نوعيا يطرأ يساعد على خروج أفكار ومشاعر لم تكن متاحة لوعى الفرد في حالته الفردية أو في التجمعات الصغيرة (عدة أفراد), وهذه هي خطورة سلوك الحشد, وهذا هو السبب وراء حرص السلطة (أي سلطة) على تجنب المواقف الحاشدة للجماهير خاصة حين تكون غاضبة أو تكون ممنوعة من التعبير لفترات طويلة حيث تصبح إمكانات الانفجار المدمر أكثر احتمالا.
ويصف جوستاف لوبون الجماهير في حالة احتشادها وانفعالها واندفاعها وغضبها بأنها "أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي, وكما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسي الذي يجعل شخصا ما يغطس في النوم فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها, وفى مثل هذه الحالة من الارتعاد والذعر فإن كل شخص منخرط في الجمهور يبتدئ بتنفيذ الأعمال الاستثنائية التي ما كان مستعدا إطلاقا لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلة. فالقائد أو الزعيم إذ يستخدم الصور الموحية والشعارات البهيجة بدلا من الأفكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير".
ويمكن تفسير سلوك الحشد على أنه خروج للمشاعر المكبوتة بعد إزالة عوامل الكبت والقمع مع الإحساس بالأمان في وسط المجموع ومع هدير أصوات الشعارات الجماعية وبتيسير من قائد يعرف ما يعتمل بطبقات الوعي الأعمق للجماهير فيناديها ويحركها, أي أن القائد الجماهيري هنا لا يستلب الجماهير ولا ينشئ موقفا جديدا وإنما ييسر خروج مشاعر مكبوتة لديهم ويوجهها إلى حيث يريد بموافقة الجماهير. وفى حالات التجمع والحشد يتكون ما يسمى بالجمهور النفسي, وهو كيان نفسي اجتماعي مؤقت يقوم بدور مطلوب من قبل هذا الكيان.
ويصف لوبون هذا الجمهور النفسي بقوله: "الظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي التالية: أيا تكن نوعية الأفراد الذين يشكلونه وأيا يكن نمط حياتهم متشابها أو مختلفا, وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم أو ذكاءهم فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية, وهذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولا, وبعض الأفكار والعواطف لا تنبثق أو لا تتحول إلى فعل إلا لدى الأفراد المنضوين في صفوف الجماهير"... "إن الجمهور النفسي هو عبارة عن كائن مؤقت مؤلف من عناصر متنافرة ولكنهم متراصوا الصفوف للحظة من الزمن, إنهم يشبهون بالضبط خلايا الجسد الحي التي تشكل عن طريق تجمعها وتوحدها كائنا جديدا يتحلى بخصائص جديدة مختلفة جدا عن الخصائص التى تملكها كل خلية".....
وفى حالة الذوبان هذه يحدث "تلاشى الشخصية الواعية, وهيمنة الشخصية اللاواعية, وتوجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار, والميل إلى تحويل الأفكار المحرض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة, وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه, وإنما يصبح عبارة عن إنسان إلى ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده" .... ولذلك يرى لوبون أن "الجمهور دائما أدنى مرتبة من الإنسان الفرد, فيما يخص الناحية العقلية الفكرية, ولكن من وجهة نظر العواطف والأعمال التي تثيرها هذه العواطف فإنه يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ – وكل شيء يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه أو تحريكه بها".
والسلطة تعرف بفطرتها كما تعرف بمفكريها وعلمائها كل هذه الحقائق عن سيكولوجية الحشد وطبيعة الجماهير أثناء المظاهرات أو التجمعات الهائلة لذلك تحول قدر الإمكان دون تكون هذا الكائن الخطر, وإذا حدث وتكون فإنها تحاول حرمانه من قائد يوجه حركته ضدها, أو تدفع هي بقائد يوجه حركة الجمهور في صالحها, أو تحاول تملق هذه الجماهير بإظهار احترامها وتقديرها (في الوقت الذي تنظر فيه السلطة إلى الجماهير بأنها لا عقلانية ولا منطقية وكأنها تتعامل مع طفل صغير تريد استرضاءه حتى يهدأ ثم تفعل هي ما تشاء بعد ذلك).
وفي حالة السلطة الطاغية المستبدة يكون الحل هو قمع هذه الجماهير أو تفريقها بقوات الشرطة وإذا استدعى الأمر قوات الجيش, وقد تفشل هذه الجهود أو تنجح بناءا على موازين القوى بين السلطة والجماهير والتي كثيرا ما تتغير بتعاطف أو انضمام قطاعات من السلطة إلى صفوف الجماهير خاصة حين تكتشف تلك القطاعات أن فردا يريد استخدامها لسحق الجماهير لصالحه وأنه لا يدرك عواقب ما يفعله, خاصة وأن قوى الشرطة والجيش في لحظات حرجة في المواجهة تتذكر أنها منتمية إلى هذه الجماهير انتماء قرابة وانتماء مصير, وهنا تتمرد على رأس السلطة (خاصة إذا كان فردا) وتنحاز إلى الجماهير فتنقلب موازين القوى بسرعة وتنتصر إرادة الجماهير.
وفي وسط الحشد يشعر الفرد بالأمان لأنه الآن جزء من كيان ضخم يصعب عقابه أو مساءلته, ويتمركز الشخص حول هذا الكيان الضخم أكثر من تمركزه حول ذاته, ويضعف التزامه بالقيود السياسية أو الاجتماعية أو الأمنية أو الأخلاقية, ويتوحد مع الجموع الهائجة في حركة أقرب ما تكون إلى حركة القطيع, وتصبح العواطف الملتهبة هنا هي سيدة الموقف فتتحرك الجموع بمشاعر الحرمان أو الرغبة أو الظلم أو القمع أو الإحباط أو الغضب.
وسلوك الحشد من الناحية النفسية أشبه ما يكون بالهستيريا الجماعية حيث يبدأ الحشد بفرد أو مجموعة من الأفراد يظهرون حماسا معينا بشكل مؤثر فينتقل هذا الحماس بما يشبه العدوى إلى الأفراد المحيطين بهم ثم تتسع دائرة العدوى بسرعة تتوقف على قدرة المحركين للحماس وعلى الحالة الانفعالية لبقية الجموع وكل هذا يحدث بشكل غير واع. ولكي يحدث هذا لابد من وجود أرضية مشتركة تدعم انتقال هذا الحماس وتصاعده بشكل تلقائي وسريع, كأن يكون تحمسا وحبا لفريق كرة معين أو كرها وغضبا تجاه شخص أو نظام معين, أو استجابة لشائعة أو فكرة تجد لها في اللاوعي مقابلا يدعمها, كل هذا يوفر أرضية مشتركة للتحرك الجماعي غير الواعي والذي يفجر طاقات طال كبتها في اللاوعي الفردي والجمعي على السواء.
وسلوك الحشد لا يقتصر على المواقف السياسية التي نراها في المظاهرات, وإنما نراه أيضا في مباريات كرة القدم حيث تندفع الجماهير في حماس طاغ نحو تأييد فريق معين أو الغضب من قرار الحكم فينفلت عيارها وتندفع في خطورة بلا ضابط أو رادع, وقد يؤدى ذلك إلى كارثة يموت فيها الكثيرون أو يصابون.
ومثال آخر لسلوك الحشد حدث في وسط القاهرة في شارعي عدلي وطلعت حرب وأمام سينما مترو حين حضرت إحدى الراقصات لترقص أمام السينما ترويجا لفيلمها, واندمجت في الرقص وظهرت ملابسها الداخلية المثيرة وسط حماس الشباب الهائج فاستدعى ذلك من ذاكرتهم صورا ومشاهد أكثر عرى للراقصة واستدعى بعضهم أو أكثرهم مشاهد تسربت عبر اسطوانات كومبيوتر تصور الراقصة في أوضاع جنسية, إضافة إلى ذلك كان هناك مطرب شعبي مبتدئ دخل عالم الشهرة من خلال أغنية تتحدث عن العنب لتسقط عليه تلميحات وتصريحات جنسية فاضحة ومثيرة.
كل هذا في أول أيام عيد الفطر عام 2006 حيث يتناول بعض الشباب أنواعا من المخدرات والمسكرات تساعد على إذابة ضمائرهم وانفلات رغباتهم وغرائزهم وهنا انطلقت الجموع الهائجة من الشباب في حالة سعار جنسي غير مسبوق في وسط مدينة القاهرة تحت سمع وبصر الناس والأمن وكان الجميع في دهشة ربما لتسارع الأحداث واختلاط الحابل بالنابل, كل هذا حدث على الرغم مما هو معروف عن المجتمع المصري أنه مجتمع متدين ومحافظ, وذلك دليل على أن هناك شيء ما كان يجرى تحت السطح مفاده أن هناك أعدادا هائلة من الشباب تعانى كبتا وجوعا جنسيا ولا تجد منصرفا لذلك بل تجد استثارة مستمرة لكل ذلك عبر الفضائيات ومواقع الإنترنت, كل هذا تفجر في لحظة معينة وفى ظروف معينة فتحولت أعداد غفيرة من الشباب (الذي ربما يبدو كل منهم بمفرده مؤدبا وملتزما بالدين والأخلاق والعرف والتقاليد) إلى حيوان يبحث عن إشباع شهواته خاصة حين تيقن من غياب أو ضعف الضابط الأمني والاجتماعي في هذا السياق.
مراجع الدراسة:
* جوستاف لوبون. سيكولوجية الجماهير. ترجمة هاشم صالح, الطبعة 19, دار الساقي بيروت, 1991م
* سالم القمودي ( 1999 م). سيكولوجية السلطة (بحث في الخصائص النفسية المشتركة للسلطة). الطبعة الأولى, مكتبة مدبولي, القاهرة
* عزالدين العلام (2006). الآداب السلطانية. عالم المعرفة , 324 , الكويت .
* هربرت شيللر (1999). المتلاعبون بالعقول. ترجمة عبد السلام رضوان, عالم المعرفة 243, الكويت
اقرأ أيضاً:
تأملات في فتاوى الهواء / المصريون والجن(3) / الشخصية المصرية