ربما..يا.. معلمتي
بعد تلك السنة.. انتقلت إلى مدرسة جديدة، تلك التي مكثت بها حتى التخرج إلى الجامعة.
هناك، قررت أن أبدأ من جديد، أن ابحث عن ذاتي الحقيقة وأكون أنا التي أحلم بها وأسعى لاكتشاف مواهبه، وبدأت فعلا بالمشاركة الجماعية في الفصل لكل نشاط ومشروع..
بدأت أرسم صورة لعالم نقي جميل متدين محب برئ.. وأكتشف في مدرستي وبين صحبتي وعلى أيدي معلماتي أكثر مما كنت أحلم وأغرب..
وبدأت أتقن فن الخطابة والإلقاء في الإذاعة المدرسية..
بدأت أفتح قلبي للجميع وأحب الجميع وأقدم العون للجميع وأصادق الجميع..
أذكر في يومي الأول في المدرسة، كنت الفتاة الجديدة الوحيدة في الفصل، ولكني نفضت خجلي وقمت لأعين الطالبات على نقل المقاعد الدراسية، لا أنسى وقتها ابتسامة إحدى صديقاتي في وجهي وهي ترحب بي لتشعرني أنني واحدة منهن ولست بجديدة، فكانت هذه أول و أحب صديقة لي.. ولم يمضِ يومان إلا والفصل كله يحيطني بصداقتهن واحترامهن وألعابهن ونشاطاتهن.. كنت أشعر أن كلنا سواء.. كلنا يحب بعضنا.. ويساعد بعضنا.. دون أي فرق أو تجريح او تمييز..
كانت أجمل وأرق وأعذب ذكريات حياتي.. وعمري لم يتجاوز التسع سنوات..
وبدأت أصقل شخصيتي وذاتي و روحي.. عبر علاقاتي بمن حولي..
ومن دون مقدمات.. وجدتني في تلك السنة و أنا أولع بالكتب بعدما كنت أظن أن عقلي أصغر من أن يستوعبها.. بل كنت أرهبها لأن أخي فقط من يستحق قراءتها ـ كما كنت أعتقد ـ
بدأت بشيء بسيط من القصص والروايات التاريخية والعالمية، أتبعته بكتب العلم النفسي والتنمية البشرية التي لم تكن تنتشر في مكتبات العالم العربي في ذلك الوقت، غير أني كنت أجدها في مكتبة جدي الحبيب، فقد كان يحضرها من لبنان قبل الحرب..
وانتقلت للكتب الدينية والفلسفية، وأدركت كم هو العالم رحب وواسع وجميل..
كان كل حرف أقرأه يتجسد في روحي، ويتغلغل في أعماقي..
ولم أبخل على أحد من أحبتي في فصلي.. فكنت أنصح هذه وأحضن هذه وأهدي هذه من جميل وبديع ما قرأت وسمعت..
درست واجتهدت وولم تخلو لوحة اشرف واحدة من نقش اسمي بين جميع المتفوقين والناجحين..
أصبحت أتكلم بصوت مسموع و روح قوية واثقة وعين ثابتة، يخالطه الأدب واللين في مزيج تشربته من معلماتي الحبيبات اللواتي كانوا قدوة لي.. فتعلمت منهم الأدب قبل العلم..
وأبدعت أيما إبداع في فن الخطابة والإلقاء.. وبتشجيع من معلماتي دفعتني إلى إلقاء كلمة الحضور و التخرج والمناسبات الدينية والوطنية في كل محفل ومكان، وأصبحت كلمة المدرسة وقلمها وصوتها..
حتى التقيت بحبيبتي وروحي ورفيقة عمري ونور فؤادي ونسمة هوائي..
رأيتها على ذات الطباع والمبادئ والمثل والأهواء.. فتوالفت روحانا حتى ما عادت تطيق الفراق.
وانطلقنا في مسيرتنا.. نكملها سوية، و أصبحنا الحضن الدافئ و الكلمة الناصحة لكل أخت و زميلة في المدرسة.. من أرقى المستويات إلى أدناها وأقلها تربية و أدبا..
كثيرا ما كنا نحرم من أن نقضي ساعات الفسحة (وقت الغذاء) مع بعضنا، لأن الطالبات يتجمعن حولنا وكل واحدة تريد أن تنفرد بإحدانا لتحدثها بمشكلة خاصة بها وتريد نصحها..
كنا نرقب بعضنا من بعيد وشوق الدنيا يطل من عينانا لنهنأ بساعتنا مع بعضن، غير أن فخر كل منا بالأخرى وشوقها إلى الثواب باستشعار سمو أرواحنا يصبرنا.. حتى تنتهي الفسحة..
ونعود إلى مقاعدنا لننهل المثل ومعاني العزة والحب والكرامة من معلماتنا الحبيبات اللواتي لم يشعرن لحظة بشيء من التميز أو التفضيل عن غيرنا فكلنا سواسية وكلنا ذوات شخصية ومهارة وإبداع..
نعود إلى مقاعدنا ونحن نحتضن كفانا فرحا وسعادة أن الله يستخدمنا.. ولا نرجو مثوبة ذلك إلا أن لا يفرقنا أبدا..
وأوجدنا معنى الإجارة في المدرسة، فكل فتاة ترغب في الخلاص من عقاب الطرد أو الفصل من الإدارة، تتطلب إجارتنا وتقول صارخة.. قد استأجرت بطيبة وحبيبتها.. فتصمت الإدارة .. وتجتمع بنا.. وتوصينا بما علينا القيام به (حبيبتي و أنا ) من واجب النصح نحو أختنا التي لم تسعفها ظروفها التربوية بالتخلق بآداب المدرسة العامة..
ولم ترض المدرسة أن نتخرج منها إلا بعد أن علقت درعين كبيرين يحملان اسمها واسمي على مدخل المدرسة لنكون قدوة ورمزا لأجيال بعدنا على حد تعبير مديريتي الحبيبة وقتها..
وانتهت المدرسة.. وسافرت رفيقة دربي إلى وطنه، فلا أراها سوى مرتين كل عام لا نعم بحضن كلماتها ودفء مشاعره، و نشاط روحها و سمو أخلاقها، وعدت من جديد لوحدي..
ولكني لم أكن أشعر بضعف شخصيتي.. بعد كل هذا.. فحبيبتي كانت معي بقلبها و روحها ولم و لن تتركني أبدا إن شاء الله.. بل تواعدنا على أن ندفن معا في قبر واحد في بقيع الفرقد بإذن الله.
ولكن شعور الخوف من العودة لحياتي القديمة هو ما كان يعذبني..فبت أشعر بضعف ذاتي وقدرتها على مواجهة الحياة.. وحدي
فلا مدرسة ولا صديقاتي ولا إذاعة ولا معلمات ولا... صديقتي الغالية..
علمت حينها .. أن مصدر كل نجاح وقوة .. كل ثقة و اطمئنان.. كل سمو وعزة. لا يأتي إلا بالتعلق بالله وحده. ولن يتمكن أي امرؤ من استشعار هذا إلا حين يكون وحيدا فعلا لمدة تطول وتطول وتطول عبر السنين.. فكل ما كان سابقا.. لم يكن إلا وسائل دنيوية قد سخرها ربي لأتمكن من تكوين شيء بسيط في شخصيتي.. أستطيع الاعتماد عليه في ما بقي لي من دروب حياتي ..
ولكن الله وحده .. هو الذي يمدنا بالقوة والإرادة و الصبر.. لنأنس به وحده .. فنتمكن عندها من اجتياز أصعب الطرق.. ولو كنا وحدنا..
ربما تكون نجاحات المدرسة قديمة وآثارها قد زالت في حياتي، ولكني أحب أن أسترجع هذه الأحداث بيني وبين نفسي لأن ما حدث (وإن كان قد زال) هو ما رسم طريق حياتي، فأشكر الله تعالى على ما أبدلني به. وغيرني.. من حال إلى حال
حقيقة خجلة منكم كثيرا.. ولكني والله ما ظننت أن الحديث سيطول بي.. وأعلم أن الحديث سخيف وممل.. ولكن ما أردت أن نستفيد منه هو..
1- قد لا يقصر الوالدان في إغداق الحب والحنان على أبنائهم، ولكنها قد لا ينتبها إن ابنهما بحاجة إلى من يكتشف قدراته فيعينه على صقلها واستثمارها ليعرف قيمته في الحياة.. فكم يعني ها عنده الكثير..
2- الحب والتسامح والطهر والصفاء والصداقة والضحكة البريئة والطفولة الرقيقة.. هي أصل العلاقات المدرسية وجمالها..
3- المعلمون ثم المعلمون ثم المعلمون.. أبلغ من العمر 25 سنة وما زلت أذكر كل كلمة جارحة وجهت إلي بشكل غير تربوي بلا أدنى رحمة وعطف..وكل كلمة مشجعة..
كم شخصية صغيرة رُجمت بكلمة جارحة من معلم، هدمت روح إنسان ناضج..وكم كلمة بناءة بنت حياة إنسان ناضج.
4- لا تخجل من الحياة أبدا.. لا تخجل من نفسك ولا من عيوبك ولا من الناس ولا من فشلك وخطأك.. واجه كل ذلك بابتسامة ورغبة صادقة بالتحسن للأفضل..
5- الحياة جميلة.. إن نحن وسعنا نظرتنا وإدراكنا ولم نكتف بالجدران الأربع التي تحيطنا..
6- لا يوجد ضعف إلا إن أوجدناه نحن بداخلنا .. ولا يوجد فشل إلا إذا استسلمنا له..
7- وأخيرا... الله ولا شيء قبله ولا بعده.. فتعلم سر الكون وقوته..
نسأل الله العون والقبول..
واقرأ أيضا:
فضفضة3: طيبة الطيبة