كان من حسن حظي أن عدت في هذا اليوم من عيادتي مبكراً لأشاهد لقاء الإعلامية اللامعة والعبقرية الأخت الفاضلة منى الشاذلي مع الحاج أحمد الصباحي مرشح الرئاسة، وفي البداية أشفقت على الرجل حين لاحظت آثار الشيخوخة عليه (91سنة ونصف-مواليد عام 1915) مع صعوبة السمع مما كان يضطر السيدة/منى الشاذلي أن ترفع صوتها وتقترب من أذنه لكي يسمعها، وإذا سمعها فإن استجاباته تأتي مقيدة وبطيئة ونمطية ومرتبطة دائماً بتصورات شديدة الذاتية ومتمحورة حول إنجازات شخصية هائلة يستشعرها صاحبها ولا يجد حرجاً من التصريح والفخر بها فهو كما يذكر "يجاهد منذ 90 سنة"، وهنا خطر في ذهني فكرة مشروع قانون يمنح المجاهدين القدامى فرصة الراحة بعد 70 سنة جهاد لكي يعطوا فرصة للمجاهدين الجدد (فئة ال 60 سنة) لإثبات وجودهم، ولكن الحاج أحمد فاجأني بتصريحه الذي سينفذه في حالة فوزه بالرئاسة وهو أنه سيلغي تماماً سن المعاش ويعطي الفرصة للمجاهدين وغيرهم للعمل حتى الموت (لهم أو لمن يجاهدون من أجلهم).
وحاولت الأستاذة القديرة منى الشاذلي (وكنت أشفق عليها أيضا من هذا اللقاء) بكل ما تملك من قدرات إعلامية أن تقف على البرنامج الانتخابي للحاج/أحمد فلم تفلح في الحصول عليه كاملاً، غير أنه قال بصراحة أن المسئولين في الحزب الوطني قد أخذوا نسخة من البرنامج للاستفادة منه (وهنا انكشف لي غموضاً حيرني كثيراً قبل ذلك)، ومع هذا لم يتركها ويترك المشاهدين في حيرة فصرح بالتالي: "أول امبارح كتبت كتاب أسميته مزامير الصباحي وفيه برنامجي الانتخابي"، وهنا فقد أدى الرجل ما عليه بوضوح شديد، فالبرنامج من الناحية العملية يستفيد به الحزب الوطني في حكم البلاد حالياً، وهو منشور في ثنايا "مزامير الصباحي" الذي وضعه بنفسه "أول امبارح" رغم مشاغل ومشاكل الحملة الانتخابية.
ولكن السيدة / منى الشاذلي – كعادتها – لم تكف عن محاولات الاختراق لشخصية المرشح (رغم تصلب الطرق والشرايين ورغم صعوبة التواصل بين جيل الأجداد والأحفاد ) فاستطاعت أن تسترق السمع حول بعض بنود البرنامج مثل :
1 عودة الشعب المصري إلى لبس الطربوش كغطاء قومي للرأس ( قومي تاني..!! ) حيث لا يوجد شعب – في رأي الحاج أحمد – بدون غطاء قومي لرأسه غير الشعب المصري، وأن هذه قضية محورية في البرنامج (أليست مسألة قومية مثل الأمن القومي والمجلس القومي.... و... القومي........!) .
2- عودة "غفير الدرج" كحل وحيد وجذري لمشكلة الإرهاب، وقد أكد الحاج/أحمد على أن وزارة الداخلية قد اقتنعت أخيراً (بعدما أتعبها الإرهاب) بهذا الاقتراح وأنها في طريقها لتنفيذه .. ولقد سألت الجالسين حولي عن " غفير الدرج" فاكتشفت أنهم لا يعرفون عنه شيئاً فخجلت لجهلنا الأمني والتاريخي بهذه الشخصية التي شعرنا في كنفها بالأمن والأمان إبان طفولتنا وصبانا السعيد.
3- إلغاء سن المعاش إلى أجل غير مسمى، وهو قد أعطى مثلاً من شخصه، فهو يجاهد منذ 90 عاماً دون كلل، وقد ألف أكثر من ثلاثين كتاباً مهماً ومؤثراً (بعض هذه الكتب حصل الكثيرون على شهادات دكتوراه فيها كما ذكر سيادته) وكان له رأي مؤثر في معاهد 1936 (لم أسأل من حولي عنها لأنني شخصياً نسيتها تحت تأثير المادة 76 وأحداث يونيو 67).
4- تخفيض الأسعار بنسبة 25% ولم يذكر الحاج / أحمد كيف، وانتظرت أن تستفسر السيدة / منى عن ذلك – كعادتها – ولكنها لم تفعل، فوجدت أحداً بجانبي يسد هذه الثغرة المعرفية البرامجية الانتخابية بقوله: " سيتم ذلك من خلال عودة المليم كعملة مصرية قومية صديقة للطبقة الكادحة"، وهنا نهرت صاحب التصريح الجانبي, فرأيت الأستاذة منى تنفجر في الضحك وظننت أنها لا تعرف ماذا يعني " المليم"، ثم اكتشفت لاحقاً أنها لا تعرف ماذا يعني" ماليش صوت" تلك العبارة التي رددها المشاهد كثيراً " ماليش صوت "..." ماليش صوت ".." مراتي لها صوت وأنا لأ".. وحاولت الاتصال بالتليفون لأوضح للأخت العزيزة الأستاذة / منى الشاذلي أنني أيضاً " ماليش صوت"، وقد فشلت كل محاولاتي لأن يكون لي صوتاً فلم أفلح رغم سنوات عمري ( القليلة مقارنة بضيف البرنامج) في استخراج بطاقة انتخابية، وأخيراً حاولت إقناع نفسي بأن الأطباء لا يجب أن " يصوتوا " لأن مهنتهم تحتاج إلى الرزانة والعقل، كما أن الأطباء لا يجب أن ينحازوا إلى مرشح دون الآخر لأن مهنتهم تستوجب خدمة الجميع خاصة في المراحل المتأخرة من العمر حين تداهم المرشح أمراض تصلب الشرايين أو تصلب الرؤى والآراء أو جنون العظمة أو التفكير الهامشي العياني أو اجترار الماضي السعيد أو الاغتراب أو غيرها من أمراض المرشحين لهذا المنصب الخطير (يا مدام منى أنا كمان ماليش صوت... ).
ولقد تماسكت الأستاذة منى كثيراً ولكنها في لحظة انفجرت في نوبة من الضحك المتواصل والمفهوم والمبرر والتلقائي والبريء، وقد أصابتني ومن حولي عدوى الضحك فظللنا نضحك طوال الليل، ونحن الذين نسينا الضحك منذ ربع قرن.
وحين حاولت المحاورة أن تنقل للحاج / أحمد آراء بعض الناس فيه نبهها بحدة الشيوخ وحميتهم بأن كل آراءه صحيحة وأن صحته جيدة " غصب عنك وعنهم".
والحقيقة أني لم أستغرب هذا الكلام من الحاج / أحمد فلقد سمعته من مرشح آخر (أصغر منه طبعا) حين قال ما معناه: بأنه لا يغضب ولا يحزن ولا يتأثر ولا يخاف ولا يهتز من مكانه (لاحظ) وأنه ثابت (دائماً) وصلب، ولم أدر وقتها إن كانت تلك مزايا أو عيوب فعدت إلى المراجع الطبية النفسية لأنني اكتشفت أنني نسيت منها الكثير
واقرأ أيضا:
الشخبطة السياسية / الزلزال ظاهرة طبيعية....أم رسالة إلهية؟ / طبيب نفسي أم طبيب كيميائي