منذ سنين طويلة عندما كنت أدرس في الصف الرابع الابتدائي، تعرضنا في مادة التربية الاقتصادية إلى موضوع التصدير وخاصة تصدير التمور، قال لنا المعلم آنذاك أن الجزائر تحتل المرتبة الثانية في تصدير التمور، فقلنا له: ومن هي الدولة الأولى يا أستاذ؟ أجاب: إنها العراق.. أحسست بغيرة شديدة على وطني، وشعرت بحقد نحو العراق وتمنيت لو لم يكن حتى تصبح الجزائر هي الدولة الأولى.
الآن وأنا أقف موقفي هذا أشعر بالخزي لأني أحسست ذلك الإحساس آنذاك.. الآن وأنا أقف موقفي هذا أتمنى من كل قلبي لو أن الجزائر ظلت في المرتبة الثانية في تصدير التمور وظل العراق بخير..
فاليوم وأنا أرى العراق أعظم حضارة إنسانية وموطن إحدى عجائب الدنيا السبع والشاهد على العصر الذهبي للأمة العربية، يداس بنعال الأوغاد، يحدث هذا في القرن الواحد والعشرين، وطن يسلب من أهله ويهدم فوق رؤوسهم، بينما في مكان آخر غير بعيد تزرع شرذمة متشردة في أرض لا تملكها كل هذا يحدث على مرأى ومسمع عالم (وأريده نكرة لأنه فعلا نكرة) ولا أريد أن أوجه عتابًا أو لومًا لأنه كما قال الشاعر:
من يَهُنْ يَسْهُلُ الهَوَانُ عليهِ... مَا لجُرْحٍ بمَيِّتٍ إيلامُ.
بل هو توبيخ صارخ وسب علني وليقاضني من يملكون سلطة فعل ذلك.. إنه لخطأ إملائي اسمه العرب فأنا والحمد لله أمازيغية الأصل أي أنني بصراحة أتنصل من انتسابي العربي..
لماذا أفاخر به وأنا أرى صمتًا مهينًا يحاكي في مهانته الرضا التام عما يفعله من يعتبرونهم أسيادهم. كيف أفاخر به ونهر الفرات ونهر الأردن ثلاثة أرباعه دماء شهداء أبرياء كيف أفاخر به وهؤلاء العرب لا يملكون دورًا في هذه المسرحية السخيفة سوى دور المتفرجين.
في البدء صور الأمريكان العراق على أنه مصنع نووي وكل الشعب العراقي يعمل فيه.. وبعد استنزاف دام أكثر من عشر سنوات يقررون -ودون انتظار موافقة الحشرة المسماة الأمم المتحدة- الاعتداء على حرمة وسيادة دولة تماثلهم الحق الدولي في عدم التدخل في الشؤون الداخلية وبعدم الاعتداء على حرمة التراب الإقليمي للدولة وغيره من بنود الحبر الأسود على الورق الأبيض.
قتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، خربوا الهياكل الاقتصادية والبني تحتية وفوقية. و بعد عام من الاعتداء والقتل والتخريب، ينطق "أراجوز" يسمي نفسه أمين عام الحشرة و يقول بصوت خافت كحفيف الأفاعي أن الاعتداء الأمريكي على العراق باطل وان أمريكا لا تملك الأدلة الكافية على إمكانية وجود أسلحة دمار شامل في العراق.. أخيرًا.. ورغم أن ذلك كلام يعرفه طفل الأربع سنوات، إلا أنه وكما يقول المثل الفرنسي يأتي الشيء متأخرًا خيرٌ من أن لا يأتي أبدًا.. فعلى الأقل لم يترك الإحساس بالذنب –إن كان يملك إحساسًا – ينخر قلبه.لكن المدهش حقًا هي هذه الأمة الصامتة صمت الموت.
في المدرسة علمونا أن الصمت نوعان: صمت الرضا، والصمت الذي يسبق العاصفة وهذا الأخير مستبعد فلا عاصفة انطلقت من الأمة العربية إلا في صراعات داخلية. هنا فقط تسل السيوف وتشحذ الهمم، لكنَّ صمت الموت الذي يلف الغمة العربية (ليس خطئًا إملائيًا) و الذي تظنه ينقذها من غضب من تعدهم أسيادها هو ماض بها نحو فناء أبدي. فبعد الأندلس وفلسطين واليوم العراق الله وحده يعلم دور من القادم؟ وتستمر الأمة في صمتها..
إن الذين يبيدون الشعب العراقي البريء هم أمريكا في الظاهر لكنهم العرب في الواقع فبترول العرب هو الذي يحرك شاحناتهم وطائراتهم ودباباتهم، ومعادن العرب من حديد ونحاس وغيره هي التي تصنع قنابلهم ورصاصهم وأسلحتهم وفي مقابل هذا الصمت العربي المخيف.
نجد من نعتبرهم أعداءًا أو لا تهمهم القضايا العربية يخرجون عن صمتهم ويتكلمون، فالروائي الإسرائيلي سامي ميخائيل وهو من أصول عراقية، والذي يترأس جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل يهاجم حاخامات ولفيف المستوطنين المتطرفين الذين يرفضون فكرة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويؤيد بأعلى صوته حق الفلسطينيين في الدفاع عن أراضيهم والنضال من اجل استرجاعها وقد رفض علنًا تسمية مقاتلي حماس بأنهم إرهابيون.
و يمشي في فلكه عدة روائيين أمثال شمعون بالاص وايلي عمير وغيرهم ممن يقفون موقف المعارضين. هذا دون أن ننسى موقف فرنسا من العدوان على العراق. واستثني من العرب فئة قليلة جدًا تجاهر برفضها للوضع المخزي حيث نجد الباحث والكاتب الجزائري الذي يدرس علوم التسيير في جامعة (HEC) بمونتريال الكندية عمر أكتوف يتعرض لضغوطات كبيرة من طرف اللوبي الصهيوني في كندا وذلك لأنه نشط ندوة حول أحقية الفلسطينيين في دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشريف وبطلان الاعتداء على العراق وقد قدم الصهاينة في حقه شكوى إلى مسئولي الجامعة معتبرين ما جاء في الندوة عنصريًا ومعاديًا للسامية.
يحدث هذا في بلدان أجنبية.. أما ما يحدث في البلدان العربية فهو إعلان التعبئة الشاملة في المغرب استعدادًا لحرب محتملة ضد الجزائر سببه موقف الجزائر من قضية الصحراء الغربية مع العلم أن للأمريكان يد أو إصبع في الموضوع فقد ضاعفت حجم صادراتها للمغرب من الأسلحة وهم لذلك يصفقون وبذلك يفرحون لكن أتساءل؟ لماذا يا ترى تستجيب أمريكا وتزيدهم في كمية السلاح رغم أنها حليفة وفية للجزائر؟ أليست هذه مساهمة إيجابية منها في تفتيت الأمة العربية أكثر مما هي عليه؟ كذلك نجد اتهامات متبادلة بين موريتانيا وليبيا حول تورط ليبيا في تبني محاولة انقلاب على الحكم القائم في موريتانيا، كل دولة لاهية في شؤونها معتبرة في نفس الوقت ما يحدث في فلسطين والعراق شؤونًا داخلية تخصهم،
أنا هنا أقول بكل قوتي أن القضية ليست حكرًا على العراقيين أو الفلسطينيين وإنما القضية قضيتنا جميعًا. و نحن إذ نقف هنا موقف الناقدين الثائرين على وضع لم نختره بإرادتنا فلن نمر مرور الكرام على الإعلام العربي وخاصة فضائحياته التي تبث سمومها عبر الأقمار الصناعية مساهمة منها في الهاء الشباب العربي عن قضاياه، فقد أصبحت شاشاتنا عبارة عن كباريهات مفتوحة ليلاً نهارًا في عرض لراقصات وأوضاع لاتمت لقضيتنا بصلة. أما غيرها من القنوات والتي اتخذت الجد شعارًا فقد اختزلت القضية في بضع سنتمترات في شريط يمر بسرعة الريح.
وفي الأخير وبعد أن أقف وقفة احترام لأسود بابل لا يسعني سوى أن أقول العراق للعراقيين ولن يعيد العراق سوى العراقيون.ولن يبنى العراق إلا بسواعد عراقية فلا انتظار لما تسفر عنه اجتماعات غرفة نوم الدول العربية ولا ديمقراطية تأتي على أجنحة الصواريخ فليعمل العراقيون في صمت وليضعوا اليد باليد، أما نحن فليس لنا سوى النوع الأخير من الصمت وهو دعاء القلب الذي يعرف بأضعف الإيمان.وليحيا العراق رغم الصمت.
اقرأ أيضا:
على باب الله: رنتان للعشق / في فقه العشق/ الحب هو الأهم دائما يا عزيزي/ معاني جديدة للحب / يوميات رحاب: طلبت ايدك من أبيك / اللعنة المشتهاة: المحب أعمى مشاركة2 / حب هذا الزمان: من العاشرة!
التعليق: لماذا إذن تعيشين في الوطن العربي ما دمت تتنصلين منه؟
ولماذا لم تحاولي إخراجه من صمته طالما تكرهين هذا الصمت؟
اذهبي إلي أمازيغية هذه واستمتعي بصراخها كما تشائين.