قبل يومين وقف يهود أولمرت قاصدا أن يشرئب بعنقه ويفتح صدره، يريد لصورته أن تكون تجسيداً للحظة قوة وزهو، قال:ليس هناك حد زمني لعملياتنا... من المستحيل تركيع إسرائيل. وفي اليوم التالي أشار خافيير سولانا إلى المعركة بوصفها معركة لكسب العقول والقلوب. (والمقصود طبعا عقول وقلوب اللبنانيين الذين لم يصلهم بعد نور الهداية الأميركية الأوروبية).
التصريحات كثيرة لا مجال هنا للتوقف عندها، ولكنني أكتفي بهذين التصريحين لأنني أريد أن أتحدث عن الجانب النفسي من المعركة، والذي يصعب بدونه فهم استهداف المدنيين بهذا القصف الوحشي بطول لبنان وعرضه. قال بعض المحللين إن الهدف من ضرب البنية التحتية وضرب المدنيين هو تقوية الطرف اللبناني المناهض للمقاومة والذي يريد نزع سلاحها والتخلص منها. إن هذا التفسير على ما فيه من صحة، لا يفي بتوضيح لماذا تضرب الطائرات الإسرائيلية المدنيين النازحين من الجنوب، وتستهدف مواقع للجيش اللبناني، وتقصف الأشرفية وأحياء وبلدات لم ترتبط بالمقاومة ولا بحزب الله.
إن الهدف، على ما أظن، هو أن يصبح لبنان كله، لا المقاومة الإسلامية وحدها، أمثولة لما يمكن أن يحيق بأي بلد تُسوّل له نفسه أن يقاوم، أو يحتضن مقاومة، أو يقبل بها أو يتسامح في وجودها، أو يتعامل مع رموزها أو يتباطأ في التبرؤ منها والعمل الحثيث على خنقها وذبحها والقضاء عليها مرة وإلى الأبد. إننا نعود للمعادلة الاستعمارية القديمة عن العبد الطيب والعبد الشرير، الطيب الذي ينفذ إرادة سيده عن طيب خاطر، والشرير، ذلك المتمرد الذي يدخل في علاقة صراعية مع سيده، فيتوجب عزله والقضاء عليه.
وجريرة لبنان التي لا تغتفر، كل لبنان، أنه اختار حتى الآن على الأقل ألا يتخلص من الأشرار الذين يحملون رايات العصيان على إسرائيل والولايات المتحدة ويتجرأون بالإفصاح عن مواقف معادية لهما. سوف يصافح أبو عمار بيريز على خلفية مذابح قانا. وسوف يعزي أرملة رابين بفيض من الود. <عبد طيب إذن>. يُستقبل أبو عمار في كامب ديفيد، ويدعوه باراك بلطف اجتماعي أن يمر من الباب أولا فيجامله القائد الفلسطيني فيدعوه للمرور قبله، ويضحك كلينتون بصوت عال ويفتح ذراعيه على اتساعهما ويضم الاثنين، فيدخل ثلاثتهم معا.
ولكن أبا عمار في كمب ديفيد قال: هناك خط أحمر: لا تنازل عن القدس وحق اللاجئين، لا تفريط فيهما. فكلفته هذه اللا محاصرته عامين في مقره، ثم قتله. هذا الرجل شرير، عبد مارق يحق له الموت. باختصار المطلوب خنوع نفسي كامل، وقبول غير مشروط بإملاءات إسرائيل والولايات المتحدة بصرف النظر عن المصالح، بصرف النظر عن الحقوق، بصرف النظر عن الروح التي تكاد تبلغ الحلقوم ضيما وقهراً وغلاّ. أما المقاومة، السيد حسن نصر الله وأبناؤه وبناته من مقاتلي حزب الله وكوادره، والحاضنة الشعبية لمسعاه، فتقدم معادلة مختلفة صعبة ومُكلفة، ولكنها معادلة جريئة تفتح الباب على مستقبل مختلف.
لن أخوض في التفاصيل العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية لتلك المعادلة بل أقتصر هنا أيضا على جانبها النفسي. هل تذكرون كلمة عبد الناصر عام 1956 من على منبر الأزهر إبان العدوان الثلاثي على مصر؟ هل تذكرون عبارته الأشهر: إرفع رأسك يا أخي لقد مضى عهد الاستبداد؟ شخصياً أذكر ذلك بوضوح إذ كنت في العاشرة من عمري وتركت هذه الكلمات بصمتها على عمري اللاحق كله وعلى أدائي حتى في عملي اليومي في الجامعة.
(لست هنا بصدد المقارنة بين عبد الناصر والسيد حسن نصر الله، ورغم قيمة الزعيمين، ها نحن ندخل اليوم التاسع للمواجهة وإسرائيل لا تقدر على التقدم شبراً في الأرض اللبنانية). فِعْلُ حزب الله، صموده، وقفته الصلبة لرد العدوان، قصفه للمستوطنات الإسرائيلية، رسالة لنا جميعاً أننا نقدر على رفع رؤوسنا، أننا نقدر على رفض المعادلة التي تعتبرنا عبيداً، أننا نريد أن نكون أنداداً، ونسعى لكي نكون أنداداً، ونقدر على أن نكون أنداداً.
باختصار تعيد هذه المقاومة إلى الشعب العربي كله ثقته بنفسه، وتنتشله من حيِّز اليأس والتسليم بالهزيمة إلى حيِّز المقاومة، والأهم تطرح عليه ضمناً، ليس بالكلام ولا التوجيه بل بالنموذج المشرق، مهامه المؤجلة في مواجهة القمع المزدوج الذي يلاقيه من أعدائه الخارجيين ومن نظامه الحاكم.
أكتب من مصر. ولم أرَ إجماعاً حول زعيم سياسي كالذي يحظى به السيد حسن نصر الله. المصريون على اختلاف انتماءاتهم الطبقية والسياسية والدينية. فقراء وميسورون، مهنيون وأميون، سكان المدن وقرويون يجتمعون حول هذا الرجل وهو يقود المقاومة. قد يسهل القول: من يده في الماء غير من تحرقه النار، فأقول فقدت مصر في ستة أيام خمسة عشر ألف شهيد، والأرجح أنها فقدتهم في الساعات الأولى من تلك الأيام الستة.
وفي حرب الاستنزاف عانى سكان مدن القنال ما يعانيه أهل الجنوب اللبناني الآن من الموت والتشريد. واستخدم السادات نفس الحجة التي يستخدمها البعض للتعريض بالمقاومة. عقد السادات كامب ديفيد وقال إنه يريد سلاما ليجنِّب الأهالي أهوال الحرب، فهل جنّب أحدا شيئا؟ ونفس الحجة استخدمها من تحمسوا لاتفاقيات أوسلو فتسببت أوسلو في دماء كثيرة. لا أغض الطرف عن عذابات الشعب اللبناني، لا أغض الطرف عما يدفعه لبنان الآن في هذه المواجهة، إنه ثمن ثقيل ومروّع، ولكن أضيف على استحياء، ما دمت أكتب من بيتي في القاهرة، إن التاريخ عملية صعبة ومعقدة تكلّف الشعوب أثمانا باهظة. فليكن، ولنستمر في مسعانا، نقطع المرتقى الصعب والدامي لتحررنا الوطني والإنساني. ثم كلمة أخيرة، لم يعذر المصريون ولا غيرهم من العرب ما قام به السادات. قُتل. ولن يعذر أحد منا من يتنكرون للمقاومة في اللحظة التي فرضت فيها الحرب الشاملة على لبنان. أما الأنظمة فحسابها مهما طال بها المقام، عسير.
5/8/2006
نقلا عن: جريدة السفير 24 يوليو 2006
اقرأ أيضًا:
لبنان لماذا؟ وفلسطين والعراق لا؟ / شاهدة عيان: ما الذي يجري في لبنان2 / وجع المخاض 2/8/2006 / هكذا لبنان يمنحنا نصرًا ... لا نستحقُهُ!