((منذ اليوم الخامس لأحداث أهلنا في سيدي بوزيد في تونس وأنا مستفزٌ ومستبشر وكلما قابلت من يهمني رأيه كنت أسأله ما رأيك في التونسيين؟ وما يفعلون؟ -وكنت متفائلا بأنها بداية النهاية لاستبداد عانى منه التونسيون طويلا-، بعض الناس قالوا لا توجد أي أخبار عن هذا على القنوات المصرية وبعضهم قالوا يا دكتور سيتم إحباط هذا كله، النظام هناك بوليسي من الدرجة الأولى.......
بعضهم تمنى أن يصح تفاؤلي وأن تصبح تونس مثلا يحتذي.... وكنت أؤكد لهم أن إحساسي يقول أن تغييرات عظيمة ستحدث في تونس وأذكرهم بأن تونس هي بلد أبو القاسم الشابي الذي قال: إذا الشعب يوما أراد الحياة....... فلابد أن يستجيب القدر!
وظللت أتابع كل ليلة في الجزيرة أخبار الناس في تونس.... ولم أسمع هتافا بهذا البيت على الجزيرة إلا اليوم 31 ديسمبر 2011 ، ))
ولما لم يكن هناك بد من أن أقارن وضع بلدي مصر بوضع تونس... ولا أحسب عربيا واحدا –باستثناء لبنان وبعض الدول الخليجية التي بها إما الحرية أو الرضا المتبادل- لم يعقد مقارنة بين بلده وتونس.... وهذا ما كان بالسليقة يحدث وأنا أكلم الناس في موضوع تونس أو ما كنت أسميه ظاهرة تونس.... وقد ذكرت أيضًا جزءًا من ذلك في نفس المدونة فجاء فيها ما نصه: ((بعض الناس قالوا في مرارة ألا تذكر يا دكتور كم مرة انتحر شباب على كوبري قصر النيل ولم يحزن لأجله أحد فضلا عن أن يتظاهر!.... قلت أذكر ذلك بل وقد أعطيت ردودا لصحفيين ولإذاعات بهذا الخصوص لكن صدقوني لم أتصور أن يتحرك الشارع المصري لأن أحد الشباب انتحر خاصة وأن الأسباب التي كانوا ينتحرون لأجلها كانت غالبا شخصية...))
إذن فأنا شخصيا لم أتصور وما زلت لا أتصور أن يتحرك الشارع المصري لأجل شاب مصري يحرق نفسه أو يشنقها.. وأتمنى ألا يتورط في ذلك أحد فيموت كافرا دون ثمن أي ثمن.... وقلت في نفس المدونة أيضًا:
رجعت بعد ذلك إلى تونس منددا بالمواقف الأولى للرئيس التونسي بن علي عندما قال أنه سيتم التعامل مع ما يحدث بكل حزم... بكل حزم!..... ومستغربا من أن يكون خطابه هذا هو بداية اهتمام الإعلام المصري الرسمي بالموضوع فينقلون الجزء الأخير من خطاب بن علي: -بكل حزم... بكل حزم... بكل حزم!- وللأمانة أنا نادرا ما أشاهد نشرات الأخبار في القنوات المصرية لكنني سمعت من أحدهم أن بداية الاهتمام بأحداث تونس كانت مع اهتمام بن علي فختمت المدونة قائلا:
((من المؤسف ونحن في الساعة الأخيرة من 2010 أن السلطات التونسية رغم كون ما يحدث حراكا شعبيا 100% ولم تتبنه أي جهة سياسية- قد بدأت تتصدى بكل حزمٍ بكل حزم لما يحدث وهذا هو ما ذكره نصا الرئيس التونسي وسمعت من والد أحد مرضاي أن التليفزيون المصري أورد هذا الحديث على لسان الرئيس زين العابدين كأول خبر عن الأحداث في تونس.... وقال لي لا أدري مم هم خائفون؟ الناس في مصر بالكامل ميتون ولا ينتظر منهم مثل ما يحدث في تونس.......
وأقول في ذهني تونس لابد فيها مجانين كثيرون فاض الكيل بهم فانفلتت قيودهم وانطلقوا ولعل في 2011 نصرا للناس ولعله يكون نصرا مُعْدِيا لجيرانهم من الناس ثم لعله يعدي جيران جيرانهم فيعم الجنون كل العالم العربي ولعلها بداية طريقنا نحو الحرية........)).
بعد عدة أيام اتصلت بأخي الدكتور جمال التركي راعي الشبكة العربية للعلوم النفسية لأطمئن عليه فقد أصبحت أخبار انتشار العدوى بين مناطق تونس المختلفة وتوالت أخبار احتدام المصادمات وإغلاق المدارس والجامعات وأصبحت الحرائق كثيرة في صور الجزيرة.... طمئنني جمال ولم يخل صوته من فرحة وشكرني واستغربت قوله شكرا أنكم تذكرتمونا شكرا لاهتمامكم بنا.... قلت في نفسي معقول كل هذا التواضع؟ ألا يدرك جمال أهمية ما يحدث في تونس اليوم على المستوى العربي كله؟ أم تراه لا يدرك أهميته هو شخصيا بالنسبة للطب النفسي والأطباء النفسانيين العرب؟ جال فيي خاطري أن المكالمات قد تكون مراقبة من الجانب التونسي وحقيقة شعرت بالخوف عليه.
وبتاريخ 13 يناير أرسلت إليه متسائلا "ماذا نستطيع كنفسانيين فعله لأجل تونس؟" فقلت:
السلام عليكم
أخي الفاضل د.جمال تركي
منذ بداية أحداث "بوزيد" وأنا أشعر أن علينا شيئا كأطباء نفسانيين عرب يجب فعله تجاه أهلنا في تونس
المسيرات والاعتصامات بدأت عفوية وأظنها ما تزال كذلك في حقيقتها رغم محاولات كثيرين استغلالها،
ولعل المعنى الذي ينطوي عليه هذا كبير، فنحن أمام جيل ثائر من أبنائنا من المؤكد أنهم يحتاجون للدعم النفسي....... فهل ما أقوله قابل للتنفيذ أو حتى للنقاش عبر الشبكة العربية للعلوم النفسية؟
أتمنى أن تدلني فأنت أدرى مني بأحوال بلدكم الطيب الجميل
ماذا نستطيع كنفسانيين فعله لأجل تونس؟
وفي نفس اليوم الخميس 13 يناير أرسل جمال التركي الرد التالي: تحياتي وائل: السلام عليك
أشكر لك التفكير فينا، الوضع منفلت وشديد الخطورة في البلاد، أجريت بعض التعديلات على بريدك قبل توزيعه، رجاء المراجعة، مع محبتي
جمال
ثم ظهرت رسالتي تلك على بريد مراسلات الشبكة العربية للعلوم النفسية وقد وضع لها جمال التركي عنوانا هو ظاهرة تونس وكان ظهورها في الساعات الأولى من صباح الجمعة 14 وهو نفس اليوم الذي هرب فيه الرئيس التونسي المخلوع ونفس اليوم الذي غرقت فيه القاهرة في شبر ماء كما نقول في مصر بسبب المطر الغزير لمدة ساعة تقريبا.... وبينما كنت محاصرا بسيارتي وسط السيارات لمدة خمسة ساعات لأصل من أمام قلعة محمد علي بطريق صلاح سالم إلى أول طريق الزقازيق الصحراوي.... في هذه الأثناء اتصل بي د. خليل فاضل ليبلغني بأنه أرسل لي مقالا بعنوانن "الحالة النفسي سياسية" لننشره على مجانين، وسألني هل كلمت جمال قلت له كلمته منذ عدة أيام... فقال لي صفاقس مشتعلة اليوم يا وائل فقلت له إذن سأهاتفه الآن وأعلمني د. خليل أن لد. جمال راعي الشبكة العربية للعلوم النفسية تاريخا وطنيا مشرقا وأنه تعرض لكثير منن المضايقات الأمنية لم يكن أولها ولا آخرها أن عيادته الخاصة أغلقت فترة لأنه كان يعالج أحد المعارضين!..... وبالفعل اتصلت به لأطمئن عليه فوجدته طائرا من الفرحة وقال نحن في أطيب حال وبن علي أطلق على نفسه رصاص الرحمة في خطابه اليوم وأظنها مسألة دقائق ويرحل ويترك البلاد قلت له مبارك ثورتكم يا جمال قلوبنا معكم.....
لم أستطع تحمل البعد عن الأخبار بهذا الشكل حاولت من خلال راديو السيارة وللأسف لم أنجح ولم يكن لدي بد من الاتصال بالأصحاب في بيوتهم أمام الجزيرة ليخبروني بآخر الأنباء حاولت الاتصال بابن عبد الله فلم يرد وكررت الاتصال فلم يرد، فاتصلت بواحدة من أنشط المستشارين هي أ.أميرة بدران فقلت لها عملوها التونسيون ورئيسهم على وشك ترك الرئاسة فهل أنت تتابعين الأخبار قالت نعم، قلت لها أنا محاصر في الانسداد المروري فتطوعت بأن توافينا بالأخبار، وقامت جزاها الله خيرا بالمهمة خير قيام فتابعتني برسائل المحمول فقالت في أول رسالة: "الجيش يحيط بالقصر الرئاسي لحمايته ويطلق النار على المتظاهرين وعدد القتلى أصبح 90" وبعدها بحوالي 50 دقيقة وصلت منها رسالة أخرى "الإفراج عن الناطق باسم الحزب الشيوعي المحظور في تونس، تدخل الجيش للفصل بين الشرطة والشعب، حظر التجول من الخامسة مساء حتى السابعة صباحا، أمر بتشكيل حكومة جديدة، فرنسا وبريطانيا حذرتا رعاياهما من السفر لتونس، إحكام غلق المطار ذهابا وإيابا،...... من الآخر انفلات أمني" ثم بعد ربع ساعة أرسلت تقول: "الظاهر هرب الرجل... إذا أكدوا الخبر سأبلغكم" وبعدها بربع ساعة أي في السابعة والثلث مساء بتوقيت القاهرة كانت رسالتهاا الأخيرة وفيها قالت -بالنص هذه المرة-: "المِنَيل هرب والجيش استلم الحكم، مبروك".... فعلا مبروك لكل التونسيين مبروك لكل الناس.... وبعد قليل عرفنا أن بن علي يطير بطائرته ولا يعرف إلى أين!
كنت حتى هذه اللحظة محاصرا ولكن في بداية طريق الإسماعيلية الصحراوي ولم أستطع كتمان فرحي ولا عدم تعريف أصحاب السيارات المجاورة بما حدث في تونس وليتني ما فعلت فقد كان من العجيب أن كثيرين كانوا ما زالوا لا يعرفون أن شيئا يحدث في تونس... وأما الأعجب فهو أن يأتيك رد أحدهم: "ما لنا نحن وتونس" وفعلا قلت في نفسي مالنا نحن وتونس ما للميتين بالأحياء؟!......
وأخيرا التزمت بنصيحة زوجتي وسكت عن الكلام مع أصحاب السيارات المجاورة، وكنا قد أكملنا أربعة ساعات في الاختناق المروري وبعد لم نعرف السبب.... وأخيرا أخيرا عرفناه فقد تجمعت مياه المطر في جزء منخفض من الطريق حتى فاضت على الجانبين وكلما حاولت السيارات الصغيرة عبور ذلك الجزء تعطلت وسدت الطريق فأصبح لزاما أن تسحب من الطريق، الغريب كان أن سيارات شفط مياه عديدة كانت موجودة في طريق صلاح سالم أمام فندق هليوبوليس رغم عدم وجود تجمع مياه يستحق الشفط ناهيكك عن أن يكون عائقا يعطل الطريق، لكن طبعا المهم في مصر هو فقط ما يراه السائح أو أعضاء الحكومة وأما طريق القاهرة الإسماعيلية فلا يسلكه إلا المواطن الحقير وبالتالي تترك المياه للشمس أو لجهود المواطنين أنفسهم..!.
عندما أصبحت بركة الماء أمامي وخلف طابور سيارات أخمن أنه في وقتها كان قد وصل إلى هرم القاهرة على الأقل فقد كانت المغامرة فرضا لا اختيارا ورحت أدعو الله أن يسلمنا..... ودخلت في بركة الماء فكنت أسمع صوت ارتطام المياه بجوانب السيارة وأدعو الله ألا أفاجأ بانخفاض في الطريق يجعل المياه تدخل من النافذة.... حوالي خمسة دقائق ارتفع مستوى القلق فيها إلى السحاب مثلما ارتفعت فرحتنا بنجاح الثورة التونسية إلى السحاب...... وأخيرا عبرنا البركة وتنسفنا الصعداء.
بعد ساعة تقريبا وصلت إلى الزقازيق وتابعت الجزيرة وكلي زهو وفرح حتى أني استغربت نفسي وقلت فعلا ينطبق علي المثل الشعبي المصري "القرعة تتباهى بشعر أختها"...... وفي اليوم التالي وجدت تعليقا من أ.د يحي الرخاوي على رسالتي التي نشرها جمال التركي في مراسلات الشبكة، وقد نشرته الشبكة كما نشره موقع د. الرخاوي وقمت بالرد وتوالت كتابات الزملاء والأساتذة وما تزال ولعلي أنشر جزءا من ذلك هنا.... لكن دعونا الآن نكرر الدعاء لتونس وشعبها الذي أراد الحياة بالتوفيق والسداد.
وأقول بعد ذلك للمجانين العرب في كل مكان إن الدرس الذي قدمه التونسيون درس جدير بأن ننتبه إليه جيدا وأن نتفهمه ونفهم لماذا حدث أولا في تونس؟ وهل هو فعلا قابل للتكرار في أي من الدول؟ وهل تعكس نتائج الاستفتاء "بعد أحداث تونس الأخيرة أتوقع تكرارها في" الظاهرة على مجانين حتى الآن حقيقة الأمور أم هي تعكس أحلام الراغبين في التغيير؟ أم تعكس أحلام الداخلين إلى مجانين من كل بلد عربي؟... وليس ارتفاع نسبة التوقعات التي ترى مصر مرشحة إلا لأن نسبة أكبر من المصريين تدخل على مجانين؟.... وإذا كان كذلك فهل نفس الكلام ينطبق على الجزائر؟ هل زوارنا من الجزائر كثيرون إلى هذه الدرجة التي تجعل الجزائر هي البلد العربي الثاني بعد مصر المرشح للتغيير؟.... واضح أن النتائج ليست مجرد انعكاس لنسب الدخول من الأقطار المختلفةة على مجانين.... ولكن ما الذي تعنيه النتائج الحالية أترك الإجابة للمجانين.