لا أعرف في أي مكان بالكرة الأرضية، ولا في أي مرحلة من مراحل التاريخ، يمكن أن تخرج الملايين من أبناء الشعب داعية بصوت مدو إلى رحيل رأس الدولة ونظامه، ويستمر ذلك طوال أسبوعين أو ثلاثة، ثم تقابل نداءات الشعب الملحة بالعناد والتجاهل والازدراء. ولو أن ذلك كله كان مستورا ومكتوما لفهمنا، ولكنه أصبح مشهورا ومعلنا بالصوت والصورة على الملأ في أنحاء الكرة الأرضية. ولأنها مصر، فإن كل الأنظار تعلقت بها، وأصبح بمقدور الجميع أن يتابعوا وقائع ما يجري صباح مساء، الأمر الذي جعل «أم الدنيا» أم الفضائح السياسية المجلجلة.
لقد خرجت الملايين في تظاهرات سلمية تطالب الرئيس بالرحيل، وعبرت عن موقفها بأسلوب متحضر وشديد الرقي، ولكن الرئيس تجاهل الملايين وتعامل معها بدرجة مشهودة من اللا مبالاة والاستهانة، ثم أطلق رجاله الذين حاولوا الانقضاض على المتظاهرين بالرصاص المطاطي تارة وبالرصاص الحي تارة أخرى، وبالخيول والجمال والبغال في جولة ثالثة.
ذلك إلى جانب عمليات الاختطاف والتعذيب والترويع، وحملات البلطجية التي أثارت الذعر والفوضى. وفي حين ظل المتظاهرون يتلقون تلك الأصداء بصدور عارية وصبر نبيل، فإن الرئيس مبارك ورجاله وأبواقه لم تكف عن التنديد بهم وتحقيرهم وإرهابهم بمختلف الأساليب والصور. وعندما فاض بهم الكيل، بعدما واصل الرئيس عناده لهم وازدراءهم، خرج بعضهم أمس في مسيرة غاضبة توجهت إلى أماكن رمزية عدة منها قصر الرئاسة، لوح فيها المتظاهرون بأحذيتهم في رسالة لا يمكن أن تفسر إلا بأنهم خرجوا عن طورهم، بعدما بلغ بهم الشعور بالإهانة مبلغه.
في لقائه مع رؤساء تحرير الصحف المصرية قال السيد عمر سليمان إن مطالبة الرئيس بالرحيل تمثل إهانة له، وإنها كلمة لا تتفق مع أخلاقيات الشعب المصري. وتلك قراءة جديدة في علم السياسة، لأننا لا نعرف أن مطالبة الشعب لرئيسه بالتنحي أو الرحيل عن السلطة تمثل إهانة له، كما أننا لا نعرف أن الشعب حين يتاح له أن يعبر عن شعوره الحقيقي إزاء رئيسه الذي حكمه لمدة ثلاثين عاما، فإن ذلك ينتقص من منظومته الأخلاقية.
ولا ينبغي هنا أن نتجاهل حقيقة أن الرئيس ونظامه اختارا تكميم البلد طوال ثلاثين سنة، ولم يسمحا لأحد أن يعبر عن رضائه أو عدم رضائه عنهما بالوسائل المشروعة، فلم يبق أمام الناس سوى أن يخرجوا إلى الشارع وأن يطلقوا صيحتهم في فضائه. وحين فعلوا ذلك بعد طول صمت وقهر، فإنهم اتهموا بانعدام الوفاء وقلة الأدب.
وإذا جاز لنا أن نتصارح فلا مفر من أن نقرر بأنه إذا كانت هناك إهانة، فإن الرئيس يكون قد أهان نفسه بنفسه، حين استسلم لعناده وأصر على ألا يسمع صوت شعبه الهادر الذي بح وهم يطالبونه بالرحيل منذ نحو عشرين يوما، وكأنهم مجموعة من الحشرات أو الدواب. وأن رجاله هم الذين أهانوه حين نهبوا البلد وزوروا الانتخابات وداسوا على كرامات الناس وزينوا له قوانين القمع وتأبيد السلطة، وظلوا طول الوقت تحت رعايته ومحل رضاه ومصدر سعادته، الأمر الذي أفقده في البداية هيبته وأفقده في النهاية شرعيته.
لا أعرف من في مصر الآن يؤيد الرئيس مبارك، إذا استثنينا رجاله والمنتفعون به وبنظامه وعناصر الأجهزة الأمنية التابعة له، ومجموعات المرتزقة والبلطجية الذين تباع حناجرهم وسواعدهم لكل من يدفع، وربما كانت هناك قلة اقتنعت به لسبب أو آخر. ولكن لا مجال للشك في أن الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب المصري الذين خرجت ملايينهم في طول البلاد وعرضها طوال الثمانية عشر يوما الماضية أعلنت انحيازها إلى دعوة الرحيل ورفضها لاستمراره.
أدري أن بعض الأنظمة العربية أعربت عن تضامنها معه، وقيل إن منها من دعا الإدارة الأمريكية إلى عدم التخلي عنه. وتتحدث الأوساط السياسية عن إن أحد تلك الأنظمة أرسل إليه من يبدي استعدادا لاستضافته على غرار ما فعله الرئيس السابق بن على الذي استضافته السعودية.
ولم يعد سرا أن شعوب العالم العربي أعلنت عن تضامنها مع الشعب المصري وأطلقت مظاهرات قصدت السفارات المصرية في مختلف العواصم لكي تعبر عن ذلك التأييد والتضامن. ولأن الصحف العالمية تنشر على صفحاتها الأولى كل يوم صور غضب الشعب المصري وتسجل بالنقد عناد الرئيس المصري، فإننا نستطيع أن نقول بثقة أن سمعة الرئيس ونظامه ساءت كثيرا في العالم الخارجي. وحين نستعرض تلك الأصداء فإننا نكتشف أن الرئيس مبارك مطلوب وله شعبيته في بلد واحد هو إسرائيل، التي اعتبره بعض قادتها يوما ما «كنزا استراتيجيا» للدولة العبرية.
وإذا صح ذلك فإنه يضعنا أمام مفارقة عبثية وصادمة تطرح السؤال التالي: هل يعقل أن يكون استمرار الرئيس المصري في منصبه مستندا إلى تأييد شعب واحد في الكرة الأرضية هو الشعب الإسرائيلي؟!
واقرأ أيضاً:
حكاوي القهاوي/ ساخن من مصر أيام الغضب الخميس3/ المصريون.. أهل نكتة.. حتى في المحنة!