نتائج حقليه من الواقع العراقي
يعتمد الغرب اعتمادا علميا صادقا على نتائج البحوث النفسية وآراء المتخصصين في علم النفس وبشكل يثير الغرابة لأول وهلة أحيانا ولكنك عندما تعمل معهم لفترة أطول تلمس أنهم سبقونا لسبب بسيط يمكن اختصاره في أنهم يبتعدون عن التفسيرات والآراء الشخصية والارتجالات العاطفية وجل همهم المعلومة الحقلية - والمقصود بها تلك المشتقة من خلال البحث أو الملاحظة في حقل العمل، لأنهم يقولون إذا أردت أن تعالج الألم فلا تسأل إلا صاحبه، وبدلا من أن تفلسف معنى الألم عليك أن تبحث عن عقار ليوقفه وأريد هنا أن أستطرد بعض نتائج البحوث الحقلية التي أجريتها إما بتوجيه من متخصصين غرب أو العمل ضمن فريق من الباحثين وكانت نتائج كل الفرق تناقش مجتمعة كمقارنات مما أتاح لي بناء صورة ناضجة فيما بعد.
الظريف أن في إحدى الدراسات التي أجريت بخصوص مفهوم الألم لدى عينة من "العراقيين" وأخرى من "السويديين" -كما روت لي إحدى زميلات العمل (باحثة سويدية في جامعة أوبسالا)، حيث كنا ضمن فريق من الباحثين و ذلك في العام 2006- كان أغلب العينة العراقية يفهمون الألم بمعناه العاطفي ويتناولونه كأنهم شعراء، على نقيض العينة السويدية التي وصفته وصفا سريريا، وقد يعزى ذلك ليس للتجارب الشخصية وإنما لمنظومة التعلم والإطار الثقافي الذي نشأ فيه الفرد - وفي إحدى الدراسات التي أجريت لمعرفة (الاغتراب النفسي لدى العائدين للسكن في الأهوار) عام 2005، في الناصرية، كان مفهوم المريض لدى أفراد العينة وبحسب لغتهم الخاصة (سنيح اوساد) وبعد تحويل العبارة إلى العربية الفصحى تعني أن معيار الحكم على المريض هو فقدانه لقواه الجسدية وعدم تناوله للطعام -في حين اعترض أفراد العينة (سكنة الأهوار) على نعت طفل مصاب بالإكزيما- بأنه مريض، وعللوا ذلك بأن هذه الحالة تأتيه في الشتاء فقط (فقط)، بالرغم من أنه كان ينزف الدم كانت أمه تمسح على شعره معلقة (هذا حايفه النبي) وكلمة حايفه تعني حرفيا- يحيطه برعايته- وهذا الاعتماد الغيبي- على القوى الغيبية والطاقات الروحية - على الرغم من أن له وظيفة إيجابية في تعزيز مواجهة المرض أو التكييف معه، إلا أنه لا يعطي فرصه لنمو الوعي الصحي، وقد لا يجدي نفعا عندما يتحول المرض لمراحل أخطر.
وفي دراسة أخرى كانت عينتها من الأطفال، وكان هدفها معرفة مفاهيم كالخطر والمخاطرة ومفهوم الحياة لدى الأطفال من عمر 6-12 من مناطق الناصرية - والبتاويين في بغداد والبصرة- أظهرت الدراسة أن الأطفال كذلك يسقطون من خلال الرسوم (استخدمت الرسوم هنا كاختبارات إسقاطية لعدم امتلاك الطفل القدرة على التواصل اللفظي والتعبير)، وفيها يرسم الطفل إشكالا وصورا بصرية نقوم نحن كباحثين بالحوار معه حول تلك الرسوم ويطلب من الطفل أن يعطي مسميات لكل رسم، ظهر أن الأطفال لا يعبرون عن منظورهم الخاص عن مفاهيم الحياة والخطر والمخاطرة -بمفاهيمهم الذاتية- إنما يعبرون عنها بمضامين فلسفية غير واقعيه- بمعنى أنها لا تعكس تجاربهم الشخصية بقدر ما تعكس مواقف الآخرين من الكبار المحيطين بالأطفال، وعلى النقيض من ذلك أظهر فريق آخر من الباحثين البريطانيين والألمان، ولنفس غرض الدراسة المذكورة أن الأطفال البريطانيين والألمان استخدموا رموزا وصورا وعبارات تمس حياتهم كأفراد مستقلين وأن الخيال الذي يمتاز به الطفل بطبيعته لم يؤثر في مستوى الحكم والتقييم لمفاهيم الحياة والخطر والمخاطرة لديهم كما أن أسرهم ساعدتهم ومن وقت مبكر في النمو باتجاه التفرد والاستقلال، وقد أجريت الدراسة في عام 2006، وظهر ان الأطفال العراقيين (من المناطق المذكورة) لا ينمون بشكل مستقل عن التدخل السافر للكبار بقصد وبدون قصد وان الثقافة ووسائل الأعلام والأحداث بشكل عام في العراق جعلت من الطفل طرفا معنيا في الصراع، من خلال الرسائل الإيحائية التي يستقبلها الطفل ويكون من خلالها مفاهيمه وموقفه من الحياة.
وفي نهاية عام 2006 أجريت دراسة على فئة المراهقين من محافظة ذي قار من اللذين يسكنون المنازل الاضطرارية (وتحديدا بناية مستشفى المعوقين في الناصرية) وكان الهدف منها معرفة متجه تحقيق الهوية لدى المراهق وعلاقته بغياب مفهوم المنزل المستقل (وكانت الأسر وقتها تسكن غرف محرقة الحيطان، معزولة عن بعضها بصفائح الدهن المملوءة بالحجارة لتثبيتها) وكانت الأسر تستخدم هذه الغرف للنوم فقط أما في أوقات النهار فكانت تعيش بشكل تجمعات يغيب فيها عن وعيهم الاستقلال الأسري، وكانوا قرابة 16 عائلة، وقد طلب من المراهقين تقديم عمل مسرحي مبسط (وقد ساعدنا وجود مسرح في البناية) وكان موضوع المسرحية يتم اختياره بإرادة المراهقين كما أن الاشتراك أو عدمه كان برغبتهم، وقد كانت مواد المسرحية (قضية خطف طفل وطلب فدية من أهله وكان من بين الخاطفين منتسب للشرطة بحسب أخيلة المشاركين، وكان المبلغ دفتر من الدولارات)، (وفد من المنطقة يذهب للمحافظ ويطالبه بسكن لائق -وكان الوفد يضم الشيخ والمختار وسيد معروف ومعلم، وانتهت المسرحية بوعود من المحافظ)، (محاكمة المحافظ الذي تبين بعد مده أنه بنى له بيت ضخم بالأموال التي خصصت لمساعدتهم في بناء المساكن)، وهكذا تندرج الحلول تحت نمط الاتكالية- وتعليق المشكلات على الحكومة مع ملاحظة غياب الإرادات الذاتية كالبحث عن عمل أو السعي الذاتي لتحسين الحال المعاشي، وهي مفاهيم ترتبط أساسا بالمفهوم غير المرن في أذهان المراهقين للسلطة والناتج أساسا عن سوء السلطة واستخدامها غير المشروع لحقوق الناس إما بتبديدها بحروب غير مبررة أو عدم استخدامها بشكل صحيح، أو ضياعها بمشاريع وهمية، وحضور هذه المفاهيم في أذهان المراهقين ولدت لديهم شخصيات متمرده ناقمة لا تؤمن بمفاهيم كالعمل والسعي ويغيب عنها الأمل بوضع أفضل مادام كل شيء سيتم سرقته مسبقا.