في صيف عام 1985 طفح بي الكيل من الفقر الذي تعانيه عائلتي وأغراني زميل لي في المدرسة بالذهاب إلى دمشق للبحث عن عمل وزين لي الدنيا هناك لدرجة أنني بت أحلم ليلا نهارا بدمشق وأتصور غربتي عن أهلي ومعانيها الدرامية وكيف سأعود يوما ما غنيا لأغير هذه الحياة الريفية الزراعية البائسة.. أو على الأقل لأشتري ثيابا جديدة للعام الدراسي القادم أو دراجة نارية أنتقل بها إلى مدرستي التي تبعد اثنا عشر كيلو مترا عن البيت.. كان عمري يومها سبعة عشر عاما ومنتقل من الصف الثاني الثانوي إلى البكالوريا العلمي.
بعد طول عناء في إقناع أهلي بهذه المغامرة التاريخية منحوني خمسين ليرة وقالوا لي الله يوفقك "ودير بالك على حالك.. روح وشوف الحياة يمكن تكتسب خبرة بس لا تتأخر حتى تتحضر للبكالوريا العلمي بدها هز كتاف".. وهززت كتفي أمام أخي الأكبر الذي ضحك كثيرا وقال طيب لا تريد أن تساعدني في الأرض اذهب واجلب لنا "مصاري" من الشام..
ركبت الباص مع صديقي وابن عمه بثلاثة عشر ليرة من جسر الشغور إلى دمشق وفي الطريق ورغم شعوري بالدوخة من رائحة الديزل كانت أحلام دمشق الوردية تنعشني بمسك غامض.. وعالشام وديني.. نزلنا بالقابون عند زميل آخر في المدرسة كان قد سبقنا إلى دمشق مع مجموعة من العمال في سكن بائس كانت تفوح منه رائحة دورة المياه القريبة، وكنت أضع قميصي فوق وسادة رثة حتى لا تنتقل رائحتها إلى بقية جسدي.. مضحيا بالقميص الإضافي الذي جلبته معي إلى أن أتمكن من غسله ونشره. وفي اليوم التالي بدأنا رحلة البحث عن العمل في دمشق حيث كانت بعض المعامل قريبة من حي القابون، وكنا نركب حافلة النقل الداخلي التي تقلنا إلى وسط مدينة دمشق في منطقة البحصة حيث يظهر قريبا منها لوحات سينما دمشق العالية وتظهر فيها إعلانات الأفلام السينمائية المعروضة.
كانت أنوار دمشق مبهرة بالنسبة لي في ليالي الصيف تلك، وبما أن الكهرباء كانت حديثة الوصول إلى قريتنا فلم نكن قد عرفنا كثيرا عن الإنارة المبهرة ولا عن الفنون الجميلة وخصوصا السينما، وكنا نسمع عن غوار وشاهدنا له أعمالا محدودة ولكننا في رحلة المرور إلى الحضارة أحببنا هذا المخلوق البسيط والنصاب والجميل مع صديقه حسني البورزان محبوب فطوم حيص بيص، مع تعاطفنا الشديد مع غوار المحب من طرف واحد لحبيبة لا تعيره بالا ومتعلقة بالصحفي الفاشل حسني البورزان الذي كان يبحث عن أخبار البرازيل ليعرف ماذا يحدث في ايطاليا على سيرة إعلامنا في هذه الأيام.
في تلك الأيام كان يعرض فيلم الحدود لدريد لحام، وصارت اكبر رغبة لدي ورفاقي بأن نشاهد هذا الفيلم واتفقنا على أن نشاهده ليلا مع الفيلم الأجنبي الآخر المعروض لممثلة بصدر منتفخ وسيقان عارية، كما تبدو في لوحات الإعلانات الكبيرة التي تروج للفيلم.
يومها تصورت أن دمشق مدينة ممتعة للغاية طالما يوجد فيها كل هذه التسلية، بل التسلية المفيدة بعدما رأيت فيلم الحدود، طالما أن هناك رجلا مثل غوار حيث كنا نطلق عليه متناسين اسمه الحقيقي، حبيبنا غوار الذي يبيعنا الأحلام، حيث ضاعت أحلامنا على حدود شرقستان وغربستان، وباعثا فينا الأمل أن هناك من يطرق على رأس الظالمين لتحقيق أحلامنا.
استمرت رحلتي في دمشق لمدة أسبوع فقط، حيث لم أوفق بالحصول على عمل نظرا لأني عديم الخبرة بالأعمال التي تتطلبها المدينة، وضاقت علي الدنيا في دمشق بعد أن شارفت الخمسين ليرة على النفاد، حيث أني كنت آكل وجبة واحدة في اليوم هي عبارة عن سندويشة فلافل بليرة ونصف من أحد المطاعم في حي القابون، وكنت أجدها لذيذة لدرجة كبيرة مع كازوزة من نوع كراش حيث أتذكر كلام أمي كل شيء على الجوع طيب، ولكني عدت من دمشق بذكرى طيبة وبفائدة عظيمة سأرويها لأهلي وأصدقائي في القرية ألا وهي قصة عبد الودود في فيلم الحدود وعدت لأعمل في الأرض بقية فصل الصيف وأنا أخطط لأغزو جامعة دمشق طالبا في كلياتها ولأنهل علما وفنا وحياة، وكان حلمي أن أعيش فيها للأبد.
من يومها وأنا أترقب الجواهر النفيسة التي سيقدمها لنا غوار في أفلامه ومسرحياته ومسلسلاته، وحين قدمت إلى دمشق في العام التالي كان هناك فيلم جديد لحبيبنا غوار وهو فيلم التقرير، الذي يتحدث عن المستشار في هيئة التفتيش والذي يستقيل احتجاجا على الفساد، ورغم النقد الذي كنت أراه عميقا في تلك الأيام طالما هو قادم من غوار، بينما أصبحت أراه سطحيا للغاية بعد أن عايشت الفساد الحقيقي في حياتي الجامعية وما بعدها ابتداء من مشكلتي في عدم الحصول على سكن جامعي رغم إني قادم من بلدة بعيدة بينما كان معي طالب يسكن في دمشق ولديه سكن في المدينة الجامعية ليعيش حياته العريضة مع زميلاته الطالبات داخل أسوار المدينة الجامعية ومرورا بحصولي على علامات منخفضة في أربع مواد لدى احد الأساتذة بينما منح طالب منافس لي علامات عالية جدا تقارب الدرجة التامة بعدما سرب له الأسئلة ثم ليسبقني بحوالي نصف درجة في معدل التخرج وانتهاء بعدم حصولي على فرصة إكمال الدراسة رغم تفوقي وعدم حصولي على فرصة عمل وأشياء أخرى كثيرة لا تكفيها الثقال.
أعود إلى فيلم التقرير الذي رأينا فيه عزمي ببك الرجل المستقيم الذي يرفض التوقيع على ميزانية مهرجان الحنفية رغم الضغوط مما يضطره للاستقالة، ومما أتذكره مشهد الدهس الذي يتعرض له احد المواطنين وعدم التعامل الإنساني مع هذه الحالة ليجيش فينا كل المشاعر الإنسانية عن حقوق الإنسان الضائعة والتي صنعها غوار، ليوقظني منها وضعنا الحالي حيث يسحق عشرات الأطفال والرجال والنساء برصاص قوات أمننا الباسلة في درعا وحمص وغيرهما، ويهدر المال على عمليات جيشنا وفرق الموت والشبيحة، أما محبوبنا العظيم غوار (عزمي بك) فإننا نجده في مقابلاته الإعلامية يوقع على ذلك كله ولا يرى للجيش من دور سوى حفظ السلم الأهلي، حيث ينتشر في المدن والقرى ويسحق الإنسان والطفولة وينسينا أي أمل بدوره التاريخي في دمج شرقستان وغربه.
حيث أن غوار الطوشة وببصيرته النافذة والشعبية يقول في مقابلة لإحدى الوسائل الإعلامية "أنه لم يجد من يقاوم الاحتلال سوى القيادة السورية وهو معها ماضيا وحاضرا ومستقبلا.."
- هل مازلت ترى أن الكوميديا السورية بخير ؟؟
- نعم، وكما قلت سابقا، هي تمر في مرحلة من الازدهار والتتويج!!!!؟
- ما الأعمال الكوميدية التي شدتك في العقد الأخير؟؟
- تقريبا كل الأعمال ممتازة ومصنوعة بطريقة جيدة، دون إغفال بقية المسلسلات الكوميدية وحتى الدرامية، والتي جعلت من الدراما السورية حديثا في الشرق والغرب!!!!؟
- وهل ترى أنه على المتظاهرين العودة إلى منازلهم
- أولاً الدولة وعلى رأسها الرئيس، خرجت بإصلاحات رهيبة خلال فترة قصيرة.
- وكان سؤالي:
- هل مازلت تستطيع أن تضحك يادريد؟
- هاهاهاهاهاهاهاهاهاه.. أنا مع القيادة!!؟؟
إلا أن القراء الذين أحبوا غواراً كان لديهم بعض التحفظات على أقواله وقد كتبوا معلقين على كلامه في أحد المواقع:
٠ الله يرحمك يا غوار.. الله يرحمك يا غربة.
٠ غوار كلامه حلو، بس ناقصه شوية كرامة.
٠ الحقيقة إنها رهيبة "الإصلاحات" يا....
٠ نتمنى أن يطيل الله بعمرك لنرى مواقفك البطولية بعد رحيل.....
٠ إلى أين تريد أن تصل يادريد؟!! وهل في العمر بقية!!! يعني بالمشرمحي... شو مخبي لآخرتك؟؟ كان عندك شوية كرامة بس.........!!!
٠ "ياحيف عالدمع اللي بكيناه على روح أبوك تبع كاسك ياوطن ياما بكيتنا عليه وطلع كله كذب.."
٠ (قد خدع أمة طوال عقود من الزمن) (جزائري)
وآخر عبارة كتبها رجل متخفي لايحب كثرة الكلام:
ياعيب الشوم ياغوار
واقرأ أيضاً:
طفل مقطوع العضو الذكري.. والطرف الثالث والحثالة / كأس متة في حضرة الجيش