"إما السـياسـة وإما الزي العسـكري... فالاثنان لا يجتمعان معاً"! على هذا المبدأ تأسس النظام الحاكم في الجمهورية التركية.
وإذا كان (كمال أتاتورك) قد اتخذ هذا المبدأ شعاراً له من أجل التخلص من منافسيه العسكريين في إدارة السلطة السياسية، فإن رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوغان) يُطبق الآن هذا المبدأ الآتاتوركي ذاته، ولكن من أجل إرساء قواعد جمهورية تركية ديمقراطية جديدة لا دور فيها للعسكريين في إدارة السلطة المدنية والسياسية.
الاستقالات وموقف (أردوغان)
تركيا الجديدة، لا عسكر في السياسة
انعكاسات محتملة على القضية الكردية في تركيا
إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، خطوات مرتقبة
ـ الاستقالات وموقف (أردوغان)
لم تكن مفاجأة أن يُقدم رئيس الأركان (إيشيق قوشانر) وقادة أفرع القوات المسلحة البرية والجوية والبحرية استقالتهم قبل يومين من انعقاد المجلس العسكري الأعلى؛ فثمة تسريبات وتكهنات جرت بها أقلام الصحافة التركية خلال الشهرين الماضيين بشأن احتمال استقالة رئيس الأركان. وإنما تمثلت المفاجأة حقيقة في السرعة التي جاء بها رد فعل (أردوغان) وقبوله لهذه الاستقالات؛ فلم يمضِ أكثر من ثلاث ساعات حتى صادق رئيس الجمهورية التركي (عبد الله غول) على قبول (أردوغان) لهذه الاستقالات الجماعية، وكذلك على قرار (أردوغان) بتعيين الجنرال (نجدت أوزال) قائد قوات الأمن الداخلي رئيسًا لقيادة القوات البرية ونائبًا لرئيس الأركان.
وهو رد فعل يُبرز مدى إدراك القيادة السياسية لمآلات الوضع المتأزم مع الجيش، وامتلاكها لرؤية واضحة محسومة إزاء مختلف السيناريوهات المحتملة؛ فقد نجح (أردوغان) بقدرته على اتخاذ قرار سريع أن ينزع فتيل أزمة سياسية قُبيل انفجارها، وأن يُحبط بنجاح فائق تلك المناورة السياسية التي خطط لها قادة الأركان من أجل إرضاخ الحكومة لمطالبهم.
أراد قادة الأركان بتقديم استقالاتهم القيام بخطوة استباقية قُبيل انعقاد المجلس العسكري الأعلى، من أجل ممارسة الضغوط على (أردوغان) بصفته رئيساً للمجلس في اتجاه ترقية أو إقالة جنرالات معتقلين على ذمة قضايا "التخطيط للانقلاب على الحكومة المدنية" المعروفة بأسماء (أرغنكون)، و(المطرقة)، وقضية وثيقة (القضاء على "حزب العدالة والتنمية" و"حركة فتح الله غولن الإسلامية")!
ولم تغبْ عن أعين قادة الأركان أحداث اجتماعات المجلس العسكري الأعلى لعام 2010؛ عندما أصرَّ (أردوغان) على استخدام سلطته السياسية؛ فرفض تعيين ثلاثة من الجنرالات ضالعين في قضية (أرغنكون)، كان رئيس الأركان الأسبق (إيلكر باشبوغ) قد رشحهم لتولي مناصب في قيادة الأركان، ودافع من أجلهم دفاعاً مستميتاً؛ ومن ثم خشي رئيس الأركان تكرار الأحداث ذاتها في اجتماع المجلس العسكري الأعلى الذي سيُعقد بعد يومين، فيرفض (أردوغان) ترقية أربعة عشر جنرالاً ضالعين أيضاً في قضيتي (أرغنكون) و"المطرقة".
فكان أن أقدم قادة الأركان على هذه المناورة وراهنوا بمناصبهم ثقـة منهم في دورهم السـياسـي وقدرتهم على الضغط على الحكومـة، وتوهموا أن حكومـة "العدالـة والتنميـة" سـترضخ لمطالبهم حسـب سـجلات تاريخ العلاقـة بين الجيـش والسـلطـة طيلـة العصر الجمهوري. بيد أن عجلـة التاريخ قد اسـتدارت هذه المرة، وارتدت عليهم؛ فبدلاً من أن يرجع قادة الأركان إلى مواقعهم العسـكريـة رافعين رايـة النصر معلنين إذعان الحكومـة لمطالبهم، عادوا إلى بيوتهم، وقد خلعوا زيهم العسـكري بعد رفض الحكومـة إحالـة المتهمين إلى التقاعد أو ترقيتهم وإصرارها على اسـتمرار المحاكمات، وأن يقول القضاء المدني قولـه الفصل دون تدخل في شـؤونـه...
وإن يكن خطاب الوداع الذي ألقاه رئيس الأركان حاول استجداء عواطف زملائه العسكريين والظهور بشخصية الزعيم المناضل الذي يستقيل عندما لا يستطيع الدفاع عن حقوق رعيته، إلا أن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا الجديدة، لم تعد تتلاءم مع الخطاب والدفاع عن متهمين ماثلين أمام القضاء حتى وإن كانوا جنرالات في الجيش... ورغم أن اعتقال جنرالات عسـكريين أمر غير مسـبوق في تاريخ تركيا، إلا أن الإدعاء لو لم يكن يمتلك أدلـة دامغـة ما أقدم على هذه الخطوة الجريئـة.
انعقد اجتماع المجلس العسكري الأعلى في الأول من أغسطس/آب 2011 برئاسة (أردوغان)؛ وقد ترأَّس مائدة الاجتماعات وحده دون أن يجلس إلى جواره رئيس الأركان في مشهد سيظل محفوراً في الذاكرة التركية. ورغم أنها المرة الأولى إلا أنها قد لا تكون الأخيرة؛ فحسب لائحة المجلس العسكري الأعلى لا يوجد للمجلس سوى رئيس واحد هو رئيس الوزراء، ومن ثم يحق له أن يترأس مائدة الاجتماعات بمفرده دون أن يجلس إلى جواره أحد؛ غير أن التقليد والعرف الذي استنَّه العسكريون لأنفسهم منذ تأسيس المجلس عام 1972 قضى أن يجلس رئيس الأركان جنباً إلى جنب مع رئيس الوزراء، ومن ثم يبدو المجلس وكأن له رئيسين: مدنياً وعسكرياً.
وعليه يمكن القول: إن هذا الاجتماع، وبهذه الصورة التي ظهر فيـه (أردوغان)، كان بمثابـة الإعلان عن مرحلـة جديدة في سـياق العلاقـة بين السـلطـة المدنيـة والسـلطـة العسـكريـة تسـتند على الحقوق القانونيـة والدسـتوريـة، وإيذاناً بفصل جديد في مواجهـة حكومـة "العدالـة والتنميـة" لنفوذ العسـكريين ومحاولات تدخلهم في الشـأن السـياسـي..!!
ـ تركيا الجديدة.. لا عسكر في السياسة
كان خطاب الفوز الذي ألقاه (أردوغان) عشية فوزه في الانتخابات العامة التي جرت في 12 يونيو/حزيران 2011 يحمل الكثير من الرسائل والدلالات بأن تركيا قد عزمت على المُضي بخطى أسرع نحو ترسيخ الديمقراطية، وبذل ما بوسعها لتطوير هياكلها المؤسسية والمجتمعية وفق معايير الاتحاد الأوروبي. وهو ما يذكِّرنا برؤية "حزب العدالة والتنمية" التي أعلنها (أردوغان) عند افتتاحه الحزب عام 2001 بأنه يستهدف أن يجعل من "حزب العدالة والتنمية" نموذجاً عالمياً للممارسة الديمقراطية، ومثالاً يُحتذى في إقرار الديمقراطية داخل وطنه.
وقد فاز (أردوغان) في الانتخابات الأخيرة بنسبة خمسين بالمائة من أصوات الناخبين، وفاز معه برنامجه الانتخابي الطموح الذي تضمن خططاً وبرامج لإصلاح تركيا وتطويرها حتى عام 2023. ولا شك أن (أردوغان) وهو يخوض انتخابات عام 2011 ببرنامج يصل مداه إلى عام 2023، إنما يطرح على شـعبـه مشـروع تأسـيـس جمهوريـة تركيـة جديدة في عيدها المئوي، وفق دسـتور مدني يجعل من تركيا دولـة ديموقراطيـة محافظـة متصالحـة مع ذاتها التاريخيـة والحضاريـة.
تُعد مسألة "تدخل الجيش في السياسة" عنصراً رئيسياً من العناصر السلبية في تقارير الأداء التي يُعدها الاتحاد الأوروبي بشأن تقدم تركيا تجاه الوفاء بمعايير الاتحاد الأوروبي. وكما كان الوفاء بهذه المعايير بمثابة الحصان السياسي الذي امتطاه (أردوغان) وقفز به تجاه تغيير تركيا وتطويرها في مختلف المجالات، كان أيضاً وسـيلتـه إلى تقليص دور الجيـش في الحياة السـياسـيـة دسـتوريَّاَ وقانونيَّاً منذ أن تولى السلطة عام 2002.
ومن أبرز الأمثلة على النجاحات التي أحرزها (أردوغان) في تقليص دور الجيش كانت التعديلات الدستورية التي جعلت مجلس الأمن القومي مجلساً استشاريَّاً ذا أغلبية مدنية. وردَّة فعل (أردوغان) القوية إزاء محاولة الجيش التأثير في مجريات الحياة السياسية عبر "الإنذار الإلكتروني" الذي أعلنته قيادة الأركان في موقعها على شبكة (الإنترنت) في 27 إبريل/نيسان 2007 احتجاجا على ترشيح (أردوغان) لـ (عبد الله غول) لرئاسة الجمهورية، فما كان من (أردوغان) إلا أن أطلق تصريحاً دعا فيه الجيـش إلى الالتزام بمهامـه العسـكريـة، وعدم التعرض للشـأن السـياسـي مطلقاً؛ فرفعت رئاسـة هيئـة الأركان صباح اليوم التالي إنذارها من الموقع. ثم اسـتصدرت الحكومـة قراراً بمنع العسـكريين من الإدلاء بتصريحاتٍ شـفهيـة أو مكتوبـة تتعلق بالشـأن السـياسـي,.!!
ولا ريب أن التعديلات الدسـتوريـة التي وافق عليها الشـعب التركي العام الماضي في اسـتفتاء 12 سـبتمبر/أيلول 2010 كانت بمثابـة نهايـة لنظام الوصايـة العسـكريـة في تركيا؛ حيث شـلّت قدرتـه على التدخل في الحياة السـياسـيـة، وجرّدتـه من الحصانـة القضائيـة؛ فأصبح بالإمكان محاكمة العسكريين الذين لا يزالون في الخدمة أمام محاكم مدنية، كما فتحت الطريق أمام مقاضاة قادة الانقلاب العسكري الذي جرى عام 1980 على ما اقترفوه من جرائم بحق الوطن والمواطنين.
ومن نتائج هذه التعديلات الدستورية أيضاً أن أكثر من 250 جنرالاً وضابطاً لا يزالون في الخدمة أو متقاعدين يقبعون الآن في السجون التركية قيد التحقيقات في قضايا (أرغنكون) و"المطرقة" وغيرها، وهي قضايا استهدفت التخطيط للانقلاب على السلطة المدنية، والإخلال بالنظام العام، والتحريض على إثارة الشغب والفتنة العرقية والطائفية داخل المجتمع التركي، وكذلك التخطيط لإلصاق هذه العمليات الإرهابية بجماعة "فتح الله غولن الإسلامية" و"حزب العدالة والتنمية".
ويمكن القول: إن جهود (أردوغان) لتقليص دور الجيـش، وشـلّ نفوذه عن التأثير في الحياة السـياسـيـة من خلال سـن تشـريعات وتعديلات دسـتوريـة إنما هي جهود تهدف في الأسـاس إلى وضع تركيا على المسـار الديمقراطي الصحيح وفق المعايير العالميـة، وهو مطلب جامع لقوى المجتمع التركي كافـة.
وإن تكن رئاسة الأركان العامة حرصت منذ بداية توجيه الاتهامات للعسكريين عام 2009 على نفي صلتها كمؤسسة بهذه التهم، محاولة الحفاظ على هيبة المؤسسة العسكرية بين أبناء الوطن التركي، وأمام المجتمع الدولي، والظهور بمظهر ديمقراطي لا يتدخل في الشؤون السياسية، إلا أن ثمة عديداً من مواقف رئاسة الأركان وقادتها تُبرهن على تورطها في هذه التنظيمات الإرهابية، وضلوعها بشكل مباشر في التخطيط لها.
ومن هذه المواقف، واقعة تقديم الاستقالات الجماعية الأخيرة من كبار قادة المؤسسة العسكرية، للضغط من أجل ترقية بعض الجنرالات المتهمين بالضلوع في هذه القضايا الإرهابية، وكذلك خطاب رئيس الأركان السابق (إيشيق قوشانر) الذي عزا فيه استقالته إلى عجزه عن الدفاع عن الجنرالات المعتقلين. أضف إلى هذا قرار المدعي العام مؤخرا باعتقال 22 عسكريَّاً من بينهم 7 جنرالات في قضية (مواقع الإنترنت) التي اشترتها رئاسة الأركان، وبثت من خلالها أخباراً غير صحيحة لتشويه صورة "حزب العدالة والتنمية" وحكومته بغية تأليب الرأي العام ضده، وتحريض الشعب بعضه على بعض لتهيئة الأوضاع لتدخل العسكر بانقلاب عسكري، ما دفع المحكمة إلى إصدار قرار بضم قضية (مواقع الإنترنت) إلى قضية (التخطيط للقضاء على "حزب العدالة والتنمية" و"حركة فتح الله غولن الإسلامية").
كل هذا يُبرز إلى أي مدى لم يعد الجيـش التركي قادراً على اسـتغلال نفوذه والقيام بانقلاب عسـكري على السـلطـة المدنيـة بأيـة صورة من الصور، وإلى أي درجـة بات عاجزاً عن التصدي لعجلـة العمليـة الديمقراطية التي تمضي بكل سـرعـة وقوة، وتدهـس في طريقها كل من يُحاول إيقافها...
ـ إنعكاسات محتملة على القضية الكردية في تركيا
لا يمكن القول بأي حال من الأحوال إن رئاسة الأركان التركية قد نجحت على مدار الثلاثين عاماً الماضية في حربها ضد الأكراد. وحسبنا أن المشكلة الكردية تتزايد وتتفاقم يوماً بعد يوم رغم المعارك العسكرية الطاحنة التي تشنها القوات المسلحة التركية على معاقل "حزب العمال الكردستاني" في كل مكان؛ فبينما فشـل جنرالات الجيـش في تحقيق هدف "مكافحـة إرهاب" "حزب العمال الكردسـتاني"، نجح الآخر في نشـر قضيتـه وتعزيزها لدى قوى الرأي العام في تركيا وخارجها.
ويمكن أن نعزو ذلك إلى احتكار الجنرالات للملف الكردي وطبيعة التعامل معه والتي لا تخرج غالباً عن الحل العسكري الذي يُحقق للجيش هيبته ومصالحه الاقتصادية.
وعندما حاول "حزب العدالة والتنمية" تطبيق رؤية شاملة أعدها لحل المسألة الكردية من كافة جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لم يتزحزح الجيش عن موقفه العسكري قيد أُنملة من أجل ذلك المشروع؛ فقد تبلورت الذهنيـة العسـكريـة على مدار حربها مع الأكراد على أحاديـة الحل العسـكري، بل إن رئيـس الأركان الأسـبق (إيلكر باشـبوغ) تحدث في حوار صحفي له قبل عدة أيام موصياً خلفاءه في رئاسـة الأركان بإتباع النهج ذاتـه، والإصرار عليـه، لأنـه الحل الوحيد!
ولا شك أن حركة الاستقالات الجماعية، وما أسفرت عنه نتائج التعيينات والترقيات الجديدة في المجلس العسكري الأعلى سيكون لها تأثيرها الإيجابي ـ بدرجة من الدرجات ـ على مسار الملف الكردي؛ ذلك أن الفرصة باتت مواتية لـ "حزب العدالة والتنمية"، أكثر من أي وقت مضى، لتطبيق برنامجه الشامل لحل المشكلة الكردية حلاً جذريَّاً؛ بسبب أن جيلاً جديداً من العسكريين قد تقلدوا مناصب قيادية، في مرحلة تمسك فيها القيادة السياسية بزمام الأمور، وتنفرد فيها بسلطة اتخاذ القرار بعد أن أخضعت السلطة العسكرية لإرادتها.
ويمكن القول أيضاً: إن الوضعية الجديدة لرئاسة الأركان التركية، بخضوعها لسلطة حكومة (أردوغان)، قد يكون لها تأثيرها الإيجابي أيضاً في دعم توجهات السياسة الخارجية التركية ومواقفها إزاء الأوضاع المضطربة في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما في دول الجوار التركي: سوريا والعراق وإيران.
ـ إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية.. خطوات مرتقبة
ربما لم يتفق المجتمع التركي الحديث على مدار عصر الجمهورية التركية على مطلب أكثر من "مطلب ابتعاد الجيـش عن ممارسـة أي دور سـياسـي"، لاسيما بعد انتهاء فترة حكم الحزب الواحد في تركيا التي بدأت عام 1923 وانتهت عام 1946 عندما أعلن رئيس الجمهورية (عصمت إينونو) انتقال تركيا إلى نظام التعددية الحزبية.
ومنذ ذلك الحين بدأ الصراع بين الجيـش والسـياسـة في تركيا، وقام الجيـش بأربعـة انقلابات عسـكريـة من منطلق أنه الحامي لمبادئ الجمهوريـة التركيـة وعلمانيتها. وبعد كل انقلاب عسـكري اعتاد الجيـش أن يُعزز من نفوذه داخل الحياة السـياسـيـة، ويُرسـخ لسـلطاتـه داخل مؤسـسـات الدولـة المختلفـة، ويسـن دسـتوراً جديداً يحمي فيـه مصالحـه، ويؤكد فيـه على دوره السـياسـي.
وتجلى ذلك النفوذ العسكري في آخر انقلاب عسكري عام 1997، وعُرف في الأدبيات السياسية بالانقلاب ما بعد الحداثي؛ حيث لم يستخدم الجيش فيه الآلة العسكرية، بل استخدم سلطاته الدستورية والقانونية التي خوّلها له دستور 1982 في المؤسسات العامة والخاصة كافة، وأملت المؤسسة العسكرية إرادتها على الحكومة المنتخبة في صورة قرارات دفعتها إليها عن طريق مجلس الأمن القومي.
ومارس الجيش نفوذاً متصاعداً فرض فيه رؤيته وتوجهاته في شؤون السياسة والمجتمع والاقتصاد التركي كافة منذ انقلاب 1997 حتى وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة عام 2002. ولم يبدأ نفوذ الجيـش في التقلص إلا من خلال عدد كبير من التعديلات الدسـتوريـة والقانونيـة أجراها "حزب العدالـة والتنميـة" على وضعيـة الجيـش ودوره ومهامـه.
وقد تضافرت جهود "حزب العدالة والتنمية" مع المراكز البحثية المستقلة، ومؤسسات المجتمع المدني، ورجال العلم والثقافة من أجل المُضي قُدماً بخطوات أسرع في المرحلة القادمة نحو إنهاء دور الجيش في الحياة السياسية بشكل تام، وأفرزت هذه الجهود خلال الأشهر القليلة الماضية خططًا ومقترحات يأخذها الآن "حزب العدالة والتنمية" بعين الاعتبار والدراسة لتطبيقها في المرحلة القادمة، ويمكن إيجاز هذه التوجهات في النقاط التالية:
ـ المجلس العسكري الأعلى.. هيئة استشارية
يتكون المجلس العسكري الأعلى حالياً من 14 عضواً، هم: رئيس الوزراء (مدني)، ووزير الدفاع (مدني)، واثنا عشر جنرالاً برتبة "فريق" من بينهم رئيس الأركان وقادة أفرع القوات المسلحة الأربعة (البرية والبحرية والجوية والأمن الداخلي وغيرهم)، ويتم اتخاذ القرار فيه بأغلبية الأصوات. والجيش ليس مسئولا مسؤولية سياسية عن القرارات الصادرة من المجلس، بينما تُعتبر الحكومة ممثلة في عضويها مسئولة عن تنفيذ هذه القرارات؛ ومن ثم يقتصر دور الحكومة وأداؤها داخل هذا المجلس على تحمل مسؤولية تنفيذ هذه القرارات، دون أن يكون لها أي تأثير في عملية استصدار القرارات.
وتتلخص مهام المجلس العسكري الأعلى في مناقشة الموضوعات المتعلقة بالشأن العسكري، والتصديق على قرارات ترقية العسكريين، واتخاذ القرار بشأن المزمع طردهم من الجيش لتُهم أخلاقية أو لانتماءات فكرية. وتُعد قرارات هذا المجلس قطعية غير قابلة للطعن ماعدا القرارات الخاصة بالترقيات، وهو حق ديمقراطي تم اكتسابه بموجب التعديلات الدستورية عام 2010م.
وتنظر حكومة "العدالة والتنمية" حالياً إجراء تعديلات على بنية هذا المجلس بحيث يزداد فيه الأعضاء المدنيون من وزراء وخبراء واستشاريين، إلى حد تتحقق فيه المساواة بين المدنيين والعسكريين داخل المجلس، كما جرى في مجلس الأمن القومي.
بالإضافة إلى تحويل تبعية المجلس من رئاسة الوزراء إلى وزارة الدفاع، وتحويل قيادات أفرع القوات المسلحة إلى وحدات داخل وزارة الدفاع. ومن المنتظر أن يشمل التعديل طبيعة قرارات المجلس فيتحول إلى مجلس استشاري.
أما بخصوص حركة الترقيات والتعيينات فسيتم إجراؤها وفقًا لمعايير الكفاءة والتميّز بدلاً من الاستناد إلى نظام الأقدمية.
ـ قيادة الأمن العام.. مؤسسة مدنية
نقل تبعية قيادة الأمن العام من رئاسة الأركان حالياً إلى وزارة الداخلية؛ لتتحول تدريجياً إلى مؤسسة مدنية لا علاقة لها بالجيش تقوم بحفظ الأمن والنظام العام تحت مظلة الداخلية.
وينبغي التأكيد هنا على أن قيادة الأمن الداخلي "الجندرمة" التابعة لرئاسة الأركان تقوم حالياً بمهمة الحفاظ على الأمن والاستقرار في المناطق البعيدة التي لا تخضع للسلطات المدنية في المحافظات، والتي تُمثل 90% من مساحة الأراضي التركية. وهو ما يُبرز مدى الانتشار العسكري في الأراضي التركية المدنية، ومدى تمتعه بسلطات لا محدودة في التعامل مع المواطنين وإدارتهم، وإخضاعهم للأحكام العسكرية.
ـ إلغاء المادة 35 من قانون الخدمة العسكرية
إلغاء المادة 35 من قانون الخدمة العسكرية التي تنص على أن وظيفـة القوات المسـلحـة هي حمايـة الوطن ومبادئ الجمهوريـة التركيـة. ويعتمد قادة الجيـش التركي على هذه المادة دائماً في إضفاء المشـروعيـة على انقلاباتـه العسـكريـة؛ حيث تُخولهم الحق دسـتوريّاً للقيام بتدخل عسـكري ضد أيـة حكومـة أو جهـة تُحاول المسـاس بمبادئ الجمهوريـة التركيـة.
وتُطالب قوى سياسية واجتماعية بتجريد الجيش التركي كذلك من أي فكر أيديولوجي، وأن يُصبح جيشاً منوطاً به فقط العمل العسكري ضد أعداء الوطن في الخارج بعيداً عن أي تدخل في الحياة السياسية، أو أية وصاية على الدستور أو نظام الدولة.
ـ تعديلات على وضعية المؤسسة العسكرية
إلغاء المحاكم العسكرية الإدارية العليا، واقتصار مهام القضاء العسكري على النظر في قضايا الإخلال بالنظام العسكري فقط، وإغلاق المدارس الثانوية العسكرية تماماً. وأن تخضع ميزانية القوات المسلحة وكافة نفقاتها خضوعاً تامّاً لإشراف الجهاز المركزي للمحاسبات.
وينبغي القول هنا: إن إنهاء دور الجيش في الحياة السياسية، وتعديل وضعيته الدستورية عبر تعديلات قانونية أو دستورية أمر قد لا يُمثل ـ وحده ـ ضمانة أكيدة لمرابطة الجيش في ثُكناته؛ فتغيير وضعية الجيش له آليتان ينبغي التأثير فيهما معاً، وبشكل متزامن؛ ومن ثم تتطلب عملية التغيير، إلى جانب التعديلات التشريعية، تغييراً في الذهنية العسكرية لأجيال مختلفة في صفوف الجيش، من حيث تغيير ثقافة الفوقية العسكرية وثقافة الانقلاب العسكري المترسخة منذ عقود طويلة.
فعلى سبيل المثال ينبغي إخراج المجتمع العسكري من عزلته عن المجتمع المدني، من خلال تفكيك بنيته الفكرية ونمطياته الذهنية التليدة؛ فمن المفيد في هذا الصدد إعادة فرز المقررات الدراسية داخل المدارس والأكاديميات الحربية، وتصفيتها من المضامين الأيديولوجية الأتاتوركية؛ تلك التي تصبغ على الجيش صفة "الحارس للمبادئ الجمهورية"، وتُعظم من دور الجيش وتأثيره في الحياة السياسية؛ وذلك من أجل إعداد ضباط أكفاء يُكرسـون جهودهم وأوقاتهم لرفع كفاءة الأداء العسـكري من أجل خدمـة الوطن دون الشـعور بالفوقيـة والوصايـة على إرادة الشـعب، ودون اعتبار التدخل العسـكري في الحياة السـياسـيـة من أولويات مهامـه.
وثمـة حاجـة مُلحـة، على الجانب الآخر، لأن تتضافر جهود الأكاديميين ومؤسـسـات المجتمع المدني من أجل إعادة تهيئـة الذهنيـة العسـكريـة الموجودة حالياً نحو الإيمان بقيم الديمقراطية الحقيقيـة، وحق المواطنين في فرض إرادتهم السـياسـيـة من أجل مسـتقبل تركي طامح للانضمام إلى الاتحاد الأوربي أو على الأقل تمثيل نموذج ديموقراطي حقيقي.
وختاماً يُمكن رسـم ملامح المشـهد الراهن على النحو الآتي: قادة عسـكريين متهمين بالضلوع في مؤامرات وقضايا تنظيمات إرهابيـة اسـتهدفت الحكومـة، ينتظرون أحكاماً قضائيـة، وحكومـة عازمـة عزماً أكيداً هذه المرة على نقل تركيا إلى سـاحة ديموقراطيـة أرحب؛ يخضع فيها الجيـش تماماً للسـلطـة المدنيـة؛ وتنكسـر فيها تماماً ثقافـة الانقلاب العسـكري؛ فتتحول تركيا فيها إلى دولـة ديموقراطيـة علمانيـة حقيقيـة.
غير أن ذلك كلـه لا يدفعنا إلى القول بأن عهد تدخل الجيـش في السـياسـة قد ولَّى؛ فإن ما يُمكننا الجزم بـه فقط، هو أن عهد الانقلابات العسـكريـة في تركيا قد بات في ذمـة التاريخ، أما حق تدخل الجيـش في الحياة السـياسـيـة فلا يزال مكفولاً لـه في دسـتور 1982م الحالي لحمايـة مبادئ الجمهوريـة. وما لم ينجح "حزب العدالـة والتنميـة" في سـنِ دسـتورٍ مدني جديد، فإن الديموقراطيـة التركيـة ومكتسـباتها سـتظل في خطر..!!
14/08/2011
واقرأ أيضًا:
أردوغان وحلم تركيا الجديدة / حين اعتذرت إسرائيل لتركيا / تركيا تتآمر على تركيا؟