أطروحات حول الديمقراطية ماضيا وحاضراً ومستقبلاً
أود أن أعبر عن رؤيتي للديمقراطية، والتي كونتها في السنوات السبع عشرة الأخيرة، على صورة أطروحات يمكن أن تشكل مستقبلاً نواة لنظرية شاملة في الديمقراطية.
(1) إن الديمقراطية ظاهرة تاريخية معقدة ومتعددة الأشكال والمعاني والآليات والجذور، الأمر الذي يصعب أمر فهمها وتحديدها ومعرفة بناؤها وقوانينها، كما يجعلها عرضة للسطو الأيديولوجي وإساءة الاستعمال المعنوي. فمثلما أن الاشتراكية اختزلت إلى بعض مظاهرها الشكلية، ثم ألصقت بأنظمة استبدادية استغلالية فاسدة، نجد اليوم الديمقراطية تختزل إلى بعض الإجراءات الشكلية، كتنظيم انتخابات “نزيهة”، ثم تلصق بأنظمة طائفية منبثقة من قلب الاحتلال وإرهاب الدولة. كما أنها أضحت وسيلة أيديولوجية اعتباطية لتجميل هذا النظام أو تشويه ذاك حسبما تقتضيه مطامع الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد حول الإعلام الأمريكي الرئيسي لفظة الديمقراطية لغما أيديولوجيا تزرعه في الوعي الجمعي من أجل تفجيره من الداخل وشلّ الفعل المرتكز إليه. هكذا فعل هذا الإعلام في التمهيد لغزو يوغسلافيا والعراق، وأفلح في شل الشارع وعزل المعتدى عليهم. إنه يعمد إلى اشتقاق نموذج للديمقراطية مبسط ومجرد إلى حدّ الابتذال، ثم يلصق به صفة الخير المطلق الخالي كليا من التناقضات، ويرفد ذلك بإلصاق صفة الشر المطلق بغيره من النظم المثالية والواقعية من أجل تصفيتها نظريا، تمهيداً لتصفيتها عمليا. إنه إذاً يسعى إلى حجب الواقع الحي المعقد بمثالات ومجرّدات تبسيطية ساذجة من أجل تفكيكه وتدميره وإلحاقه.
بذلك، بات ملحاً رد الاعتبار إلى الواقع الحي والمنهجيات والتحليلات التي تنيره وتكشف عن مكنوناته وتظهر بواطنه. فخير وسيلة في مجابهة العدوان والتزوير الإعلاميين الكاسحين في عالم اليوم هي التدقيق العلمي في المصطلحات والكشف عن معانيها الواقعية وفتح الحوار النقدي الحر حولها. ولعله من المفيد أن نشير هنا إلى عملية التصنيم (من صنم) التي يلجأ إليها الإعلام العالمي المسيطر. فهو يقدّس بعض الأفكار والنماذج ويحيطها بهالات تمنع نفاذ الفكر النقدي إليها (كالديمقراطية الليبرالية والمحرقة اليهودية) ويحولها أصناماً وموضوعات للعبادة، لا للتفكير والفعل العقلاني. ولما كنا ضحية هذا التصنيم، فعلينا أن نتصدى له بالجراءة الفكرية اللازمة التي لا تعترف بحدود للفكر النقدي الصارم.
(2) علينا أولاً أن نميز بين النظم الديمقراطية التي ظهرت عبر التاريخ، ولا يجوز الخلط بينها أو التقليل من الفروق بينها. وهذا التمييز يأخذ مداه بأخذ الشروط الاجتماعية التاريخية لكل صنف بعين الاعتبار. فعزل النظام الديموقراطي المعني عن ظروفه وشروطه ومضمونه الاجتماعي يصنمه ويشوهه ويحيله مجرد مثال وهمي أيديولوجي لا يخدم سوى من يريد أن يتسلط وينهب. ونحن لا نتكلم هنا عن التصورات الرائجة وغير الرائجة للديموقراطية، وإنما عن النظم الديمقراطية الفعلية التي ظهرت عبر التاريخ.
ولا أريد هنا أن أحصر أصناف النظم الديمقراطية التاريخيـة جميعا، وإنما أن أقارن بين الأصناف الرئيسية المتعارف عليها من أجل تحديد معنى الديمقراطية وحدودها وآفاقها وتناقضاتها وأسسها وقواعدها. هذه الأصناف هي: الديمقراطية الأثينية، ديموقراطية روما، الديمقراطية الليبرالية، ديموقراطية كومونة باريس وسوفييت بتروغـراد (لينينغراد لاحقاً). ولكل من هذه الأصناف تناقضاتها وأرضيتها ومضمونها الاجتماعي ووظائفها المحددة ومسوغاتها. ومن الخطأ الظن أن الصنف اللاحق هو شكل مطور في جميع جوانبه للشكل السابق. فديموقراطية روما مثلت تراجعا، وليس تقدما، بالنسبة إلى ديموقراطية أثينا. بل إن الديمقراطية الليبرالية نفسها تمثل تراجعاً بالنسبة إلى ديموقراطية أثينا في بعض مناحيها.
ونحن نقول ذلك وفي أذهاننا محاولات تصنيم الديمقراطية الليبرالية ورفعها فوق النقد العقلاني، والتي ما فتئت أبواق الدعاية الأمريكية تروج لها بطريقة تشل حرية التفكير وملكة النقد لدى الناس. ولنجرِي بعض المقارنات بين هذه الأصناف من أجل إلقاء الضوء على معانيها وبيان تناقضاتها وحدودها من أجل استنتاج ما يمكن تحقيقه من نظم ديموقراطية ممكنة في بيئتنا العربية.
ولنبدأ بديموقراطية أثينا. إن النقطة الجوهرية في هذه الديمقراطية هي كسرها الفصل المطلق بين الحاكم والمنِتج. فالنظم السياسية، التي كانت سائدة في الحضارات القديمة حين نشأت ديموقراطية أثينا، اتسمت تماماً بذلك الفصل المطلق: نخبة حاكمة لا تعمل ولا تنتج وأكثرية منتجة لا تحكم؛ نخبة متخصصة في فن الحكم وأكثرية متخصصة في فن الإنتاج المادي. وجاءت ديموقراطية أثينا تتحدى هذا الفصل وتضع الحكم والقوة السياسية، أي قوة اتخاذ القرارات العامة وتنفيذها، في يد شرائح من المنتجين الرئيسيين: الفلاحين والحرفيين وعمال الموانئ. فأضحى النظام السياسي أداة لحماية المنتجين من ملاك الأراضي والعبيد والسفن التجارية ومطامعهم واستغلالهم.
لقد كانت ديموقراطية أثينا أول شكل من أشكال ديموقراطية الكادحين في مواجهة حكم الملاك في التاريخ. وبالطبع، فإن أثينا الكلاسيكية لم تكن تعرف الفصل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، أي الفصل بين الدولة والمجتمع. لذلك فإنها لم تكن في حاجة إلى دستور وحدود لفعل الدولة ولا حتى إلى حقوق مدنية، أي لم تكن في حاجة إلى ما أخذ يعرف في عصرنا بالليبرالية.
وفيما كانت ديموقراطية أثينا ديموقراطية مباشرة، فقد كانت ديموقراطية روما أول ديموقراطية تمثيلية في التاريخ. لكنها، مع ذلك، كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية بمعناها الأصلي الأثيني. إذ كان مجلس شيوخ روما لا أكثر ولا أقل من أداة سياسية في يد أرستقراطية روما، ملاك المزارع والعبيد، للهيمنة على الطبقات الأخرى والتحكم فيها وتحريكها في خدمة أهدافها. لقد كانت ديموقراطية روما تعبيراً عن دكتاتورية الأرستقراطية الرومانية. ويأتي هذا التوصيف داعما لرؤية ماركس ولينين في أن الديمقراطية هي في جوهرها دكتاتورية طبقة.
كما يدعم مقولة، سبق أن طرحتها في كتاب لي بعنوان ”مقومات التصور الثوري للديموقراطية” (1992)، وهي أن أهمية المجلس المنتخب، كالبرلمان مثلاً، لا تكمن في شكله المؤسسي ولا في كونه منتخبا، وإنما تكمن في مضمونه الطبقي. إن المجلس المنتخب هو في البداية وفي النهاية أداة توحيد طبقي، ومن ثم أداة صراع طبقي، وإن كان ذلك لا ينفي كونه شكلاً متطوراً من الحكم مقارنة مع أنماط الحكم الشرقية. فالفصل المطلق بين الحكام والمنتجين لم يصل أوجه في الغرب، لا في روما ولا في الغرب الحديث، وإنما في الشرق؛ في الإمبراطوريات الشرقية العربية والفارسية والتركية والهندية والصينية. ويقودنا هذا كله إلى الأطروحة الثالثة المتعلقة بالديمقراطية الليبرالية.
(3) يمكن القول إن الديمقراطية الليبرالية هي نتاج التقاء تيارين، متباينين من حيث الأصول والمضمون، نشأ مع نشوء الرأسمالية الغربية وتطورا معها، وظلا على طرفي نقيض يشوب علاقتهما معاً التوتر والصراع، حتى برزت ونضجت ظروف اندماجهما. وأقصد بهذين التيارين الديمقراطية بمعناها الأثيني (حكم الشعب أي حكم المنتجين) والليبرالية. وأعني بالليبرالية ذلك التيار السياسي الأوروبي الغربي، الذي ابتــــدأ بالماغناكارتا ووصل أوجه في الجمهوريات والملكيات الدستورية المقيدة.
وتفترض الليبرالية الفصل الواضح بين الدولة (النظام السياسي) والمجتمع المدني. وتدعو إلى صون استقلال الأخير وحرية حركته. وتؤكد على الدستور وتقييد فعل الدولة، ومن ثم على حرية السوق والفرد والحقوق المدنية. لكنها بتأكيدها ذلك فإنها تعمل على تقييد الديمقراطية بالمعنى الأثيني وتضييق مساحتها، ومن ثم تجعلها ممكنة في السياق الرأسمالي. فالرأسمالية لا يمكن أن تتحمل حكم المنتجين غير المقيد. ومع ذلك، فإنها جذابة ليس فقط للملاك والرأسماليين، وإنما أيضا للكادحين والمنتجين، برغم أنها شكل من أشكال ما يمكن وسمه بدكتاتورية البرجوازية. إنها بلا شك تمثل مكسبا تاريخيا وإنجازاً كبيراً للأرستقراطية والبرجوازية الغربيتين، وأعتقد أنه مكسب دائم ينبغي إيجاد صيغة له حتى في ظل دكتاتورية البروليتاريا.
ويمكن القول إن الليبرالية مكنت دكتاتورية البرجوازية من أن تصبح ديموقراطية بمعنى من المعاني. وقد بدأت الليبرالية تياراً أرستقراطيا للحد من سلطة الملك والشعب في آن واحد. ولكن، مع تطور الرأسمالية الغربية وتبرجز الإقطاع الأنجلوسكسوني تحديداً، بدأت تأخذ طابعاً برجوازيا. ويلاحظ أنه، وحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان المتحمسون لليبرالية غير متحمسين بتاتا للديموقراطية بالمعنى الأثيني. ولعل التزاوج المدهش بين النقيضين بدأ مع جون ستيوارت ِمل.
إن تقييد سلطة الحاكم كان منذ البداية مطلبا أرستقراطيا، ثم أضحى مطلباً برجوازيا. وهو الآن مطلب بروليتاري إلى حدّ ما. وأقول ”إلى حد ما” لأن الليبرالية الكلاسيكية تنادي بحرية السوق، أي بطغيانها. فهي تحد من طغيان الدولة من أجل إطلاق طغيان السوق ومن يتحكم فيها.
أما المنتجون، فهم يسعون إلى لجم الاثنتين معاً. ولئن أخفقوا حتى الآن في ذلك، فإن ذلك لا يعني أن ظروف المستقبل لن تمكنهم من ذلك. عند ذاك سيحققون ما يمكن تسميته دكتاتورية بروليتاريا ملبرلة. وعلى أي حال، فإنه ينبغي ألا ننسى أن الديمقراطية الليبرالية تظل تعبيراً عن الرأسمالية الغربية بأكثر من معنى. فهي تفترض حرية السوق، وفصل الدولة عن المجتمع المدني، ومن ثم حكم البرجوازية، لا حكم المنتجين. بذلك، فهي ليست ديموقراطية بالمعنى الأثيني، وإن كانت تتضمن بعض عناصرها.
إنها دكتاتورية البرجوازية في أرقى صورها، وهي إنجاز تاريخي كبير لا يجــوز التقليل من أهميته، وإن كان لا يجوز أيضا تأبيده وتصنيمه. وينبغي التأكيد هنا على دور المنتجين (العمال والفلاحين والحرفيين) الكبير في توسيع البعد الديموقراطي في الديمقراطية الليبرالية وتعميقه. فلئن أخفقوا في الإطاحة بحكم البرجوازية وبالرأسمالية، فإنهم على الأقل أفلحوا في تحقيق أوسع ديموقراطية ممكنة ضمن إطار نمط الإنتاج الرأسمالــــــي.
فالديمقراطية الليبرالية ليست نتاج نضالات الأرستقراطية والبرجوازية الغربيتين حسب، وإنما هي أيضا نتاج نضالات الكادحين والمنتجين، وإن كانت الشكل المتطور لدكتاتورية البرجوازية. إنها إنجاز تاريخي كبير، لكنها بالتأكيد ليسلت نهاية التاريخ. ويقودنا ذلك إلى الأطروحة الرابعة حول تناقضات الديمقراطية الليبرالية.
(4) إن الديمقراطية الليبرالية، بتأكيدها الحريات السياسية والمدنية، تضع قيوداً على فعل الدولة القمعي بإزاء المواطنين جميعا، سواء أكانوا ملاكاً أم منتجين وكادحين. من ثم، فهي دكتاتورية برجوازية مقيدة ومقننة. لكنها في النهاية تظل دكتاتورية برجوازية. لذلك، فإن الديمقراطية بمعناها الأثيني، أي حكم الشعب أو المنتجين والكادحين، لا يمكن أن يتحقق إلا بتفكيكها وتخطيها صوب حكم المنتجين الأحرار غير المستغلين. وهذا التحليل يؤكد الجوهر التناقضي للديموقراطية الليبرالية.
وأكبر مظاهر هذا الجوهر وهذا التناقض التناحري هو انسجام الديمقراطية الليبرالية مع الإمبريالية والاحتلال والعدوان والإبادة الجماعية والاستغلال الرأسمالي. ألم تكن بريطانيا وفرنسا وهولندا ديمواقراطيات ليبرالية حين كانت مسيطرة على أكثر من نصف شعوب العالم وأراضيها؟ وألم تخض الولايات المتحدة الأمريكية حروبها المدمرة في جنوبي شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وأفغانستان والوطن العربي في ظل سيادة الديمقراطية الليبرالية فيها؟ وألا تنخر المراكز الديمقراطية الليبرالية اليوم البطالة والعنصرية والاستغلال والجريمة المنظمة وتخريب البيئة؟ وألا تفرز الديموقراطيات الليبرالية باستمرار أمثال هتلر والنازيين وبوش والمحافظين الجدد المتصهينيين وسفاحين أمثال شارون وأولمرت؟ ألا تفرز باستمرار حكاماً لاديموقراطين، بل معادين للديموقراطية والإنسانية؟.
وأخيراً، وليس آخراً، إلى أي مدى تستطيع الأمم المفوّتة أن تحقق وحدتها للقومية وتنميتها الصناعية بالديمقراطية الليبرالية؟ ألم تحقق الصين هذه المهمات العظيمة بنظام الحزب الواحد المنبثق عن حركة ثورية عاتية؟ أكتفي بهذا القدر وأترك الإجابة عن هذه الأسئلة للشعوب ومكر التاريخ.
واقرأ أيضاً:
سيُعاقبنا التاريخ على الإطاحة بصدام والقذافي! / بطلا تسونامي العرب / سلوك القذافي... هل هو جريمة أم مرض؟ / القذافي مجنون أم مجرم أم ذا وذا؟