ادَّعت المحافل السياسية والإعلامية في (إسرائيل) أن عودة (جلعاد) إنتصارٌ لحكومة (نتنياهو)؛ فقد فازت الصفقةُ بستة عشر وزيراً موافقاً، وعزفتْ الصحفُ الإسرائيلية على النوتة الموسيقية الحكومية وأعلنتْ الصفقة كنصرٍ إسرائيلي، وهزيمة فلسطينية!
ونسي المحللون والسياسيون الإسرائيليون، بأنه لم يعد للفلسطينيين ما يخسرونه سوى قيودهم وزنازينهم، وسارعتْ مراكز استطلاعات الرأي بإعلان نسبة قبول الصفقة في المجتمع الإسرائيلي، فمعهد (داحاف) لاستطلاعات الرأي أشار إلى أن نسبة الموافقين على الصفقة من الإسرائيليين تتراوح بين سبعين إلى ثمانين في المائة، أما بين نساء (إسرائيل) فتصل النسبة إلى 87%.
وحوَّلتْ المؤسسة الإعلامية العسكرية (جلعاد) من جندي إلى "أسطورة" إسرائيلية بطولية، واستعملته بكفاءة لتمرير السياسات الخارجية والداخلية الإسرائيلية.
ونجحتْ المؤسسة الإعلامية والعسكرية الإسرائيلية في استنساخ ثلاث صور (لجلعاد شاليت)، وأولها:
ـ صور (جلعاد) الخارجية، فقد نجحت المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية في تحويل أنظار العالم كله إلى بيت (جلعاد شاليت)، وأصبح منزل أسرته محجاً، لدرجة أن الجيش أعلن قريته منطقة عسكرية مغلقة، وقد استغلت المؤسسةُ الإعلاميةُ عيدَ العُرش، ووجودَ أكثر من سبعين ألف مسيحي إنجلكاني وصهيوني، يحجون في هذه الأيام إلى الحائط الغربي في القدس، ليُنشدوا بصوت واحد على أنغام الحاخامين (يونا متزغر) حاخام الإشكنازيم و(شلومو عمار) حاخام السفارديم وحاخام الحائط (شموئيل رابينوفتش) لحن "الحرية وطول العمر (لجلعاد شاليت) وعائلته والمجد والخلود لدولة (إسرائيل)".
وهكذا حوَّل الإعلام الإسرائيلي (جلعاد شاليت) ـ جندي المركباه ـ إلى رضيعٍ في بيت أمه (أفيفا) ووالده (نوعام)، وأعادته المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية إلى أحضان أمه، ليوحي للعالم بأنه أحد ضحايا "الإرهاب الفلسطيني المجرم"!
ـ الصورة الثانية، ولم يكتفِ الإعلام بهذه الصورة التي سوَّقها إلى الخارج، بل قام أيضاً بتسويق صورة ثانية أخرى مُغايرة تستهدف جيش (إسرائيل)، بجنوده النظاميين والاحتياطيين، أي كل شعب (إسرائيل)، ومحت المؤسسة الإعلامية العسكرية الإسرائيلية الصورة السابقة ـ الخارجية ـ بالكامل، واستبدلتها بصورة البطل المحارب القوي "جوليات"، والقائد العسكري داود، في صورة (جلعاد شاليت)!
فما إن تسلَّم وزيرُ الدفاع (يهود باراك)، ورئيسُ هيئة الأركان (بيني غانتس) "الأسيرَ" المُحرَّر (جلعاد) حتى أعاداه إلى حالته الأولى كجندي دبابة من جنود جيش الدفاع؛ فألبساه زيَّه العسكري من جديد، وأدخلاه إلى دبابته (المركباه) ونفخا فيه رسالةً إلى أبنائهم تقول:
"أُُسِرَ (جلعاد) جندياً بطلاً، واستعدناه جندياً بطلاً أيضاً، وهذه رسالة (إسرائيل) لشعب (إسرائيل)"
ـ أما الصورة الثالثة، فهي الصورة الحقيقية (لجلعاد شاليت)، وهي صورة الجندي الجبان (المهزوم) في المعركة، الجندي الذي آثر الاستسلام للخاطفين "الإرهابيين" على الموت، ولم يُدافع عن زملائه حتى الموت، كما تقضي تعليمات جيش الدفاع، وجعل (إسرائيل) تدفع ثمناً باهظاً لتفديه من الأسر..!!
وهذه الصورة هي الصورة الحقيقية التي لا يجرؤ الإعلام على إبرازها للآخرين، فقد لاحظ المشاهدون ملامح هذه الصورة بارزةً في عيني (نتنياهو) ووزير الدفاع والمسؤولين الذين استقبلوا الأسير المُحرر بفتور وتقريع وغضب..!!
وقد بثَّ الإعلامُ الإسرائيلي قبل أيامٍ من إتمام الصفقة بعض بنود التعامل مع الأسير (جلعاد)، وأورد من الأسباب ما يجعل الجمهور الإسرائيلي مقتنعاً بها، وكل تلك الأسباب ستُعيد (جلعاد) إلى لونٍ جديد من السجن، ربما يكون أكثر بشاعة من أسره في غزة؛ فسوف يُدخلونه في الحجر الصحي العسكري! وسيتحول (جلعاد) بعد قضائه أوقاتاً قصيرة في حضن أمه وأبيه إلى مشرحةِ الاستخبارات العسكرية، والأمن الداخلي والأمن الخارجي، وستقوم هذه الأجهزة بتشريحه لمعرفة تفاصيل الأسر، من ألفِها إلى يائها، وسوف تُحوله إلى فأرِ تجاربٍ، وإذا أحسَّ (جلعاد) بالضيق من حفريات أجهزة الأمن في أعماق أعماقه، فإنهم سوف يعهدون بأمره إلى مشرحةٍ أخرى تتبعهم، وإن كانت تحمل مسمىً آخر، وهي مشرحة علم النفس؛ فدهاقنة علم النفس في الجيش الإسرائيلي ينتظرون (جلعاد) ليُطبقوا عليه نظرياتهم، وليبنوا على أنقاضه أُسس نظريات جديدة، كما أشارت صحيفة (هآرتس) منذ أيام، عندما أوردت خبر تشكيل طاقم للدعم النفسي (لجلعاد شاليت) ينتظرونه بفارغ الصبر..!!
هم إذن يستفيدون من جندي أسيرٍ واحد، فهل نحن قادرون على استخلاص العِبر من تحرير أكثر من ألف أسير، والانتقال من مرحلة الاحتفال، إلى مرحلة توظيف هذا الإنجاز في إنهاء الانقسام والفرقة، ليُصبح يوم 18/10/2011 تاريخاً فلسطينياً محفوظا...!!!؟؟؟
واقرأ أيضاً:
ألا نخجل!!؟؟