تتشابك ملفاتنا الداخلية حد التوهان فيما يُمكن اعتباره أولوية للعمل، فما نكاد نعلن استسلامنا وعدم قدرتنا - جهارا أو خنوعا- على التغيير المنشود كشعب وكقوى في المشهد المظلم، حتى يتجلى لنا حجم عجزنا المُعيب في ثنايا ما نحمل من قضايا وأزمات، باتت تشكل عناوين لصراع القوتين الأكبر ومصالحهما الفئوية على حساب المصلحة العامة أو كما اعتدنا تسميتها "المصلحة الوطنية العليا"، بكل ما يحمله المصطلح من انتماء أول وأخير لقضيتنا الوطنية، وعنوان للصراع والمواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي وسياساته العنصرية. حيث كان لواقع الانقسام بين شطري الوطن، وما تبعه من صولات وجولات حوارية بين أطرافه دون أي وازع وطني يرتقي بآداء الطرفين لإنهاء مظاهر الانقسام، مما ترك أسوأ الأثر على تماسك شعبنا، حتى اعتبر البعض أن نتائجة المأساوية كادت تُشابه إلى حد ما مأساة شعبنا في نكبته، رغم ما رافق الحوارات من تشكيل لجان عمل للمساهمة في الوصول إلى نتائج إيجابية تكرس الوحدة، هذا الحال الذي لا زال يراوح المكان وسط تعنت الطرفين.
لاحت بالأفق معالم لاستراتيجية وطنية جديدة كان لها في حال استمرارها أن تعيد ملف قضيتنا إلى الصدارة، عندما أعلنت القيادة الفلسطينية عن وقف المفاوضات والتوجه إلى منبر الأمم المتحدة في سبيل نيل الاعتراف بفلسطين "الدولة 194"، وكانت مقومات هذه الخطوة والأساس لنجاحها وحدة شعبنا بإنهاء الانقسام وإعادة الاعتبار للمقاومة الشعبية، حتى تشكل هذه المقومات الأساس والمرجعية الشعبية في معركتنا الأممية، وكان لإعلان وقف المفاوضات رغم ما مورس من ضغوطات حينها على القيادة مؤشر حقيقي بقناعة الطرف الفلسطيني المفاوض بعدم جدوى المفاوضات وأن لا جديد يمكن أن يقدم من قبل حكومة الاحتلال، وتم حينها تحديد الأسس التي يمكن للقيادة من خلالها العودة إلى طاولة المفاوضات بتحديد مرجعية أي عملية تفاوضية، ووقف شامل للاستيطان على أساس الاعتراف بحدود الدولة الفلسطينية على أراضي 67 وعاصمتها القدس الشريف. وكان لخطاب أبو مازن في الأمم المتحدة أثرا واضحا على المستوى الشعبي لما رافقه من حراك جدي شعبي ورسمي دعما للخطوة، رغم ما سمعناه في حينه من بعض الأطراف عن عبثية وعدم جدوى هذا التوجه.
في خطوة مناقضة تماما لما تم الإعلان عنه على الأقل فيما يتعلق بوقف المفاوضات، يعاود الرئيس أبو مازن اللقاءات مع الجانب الإسرائيلي تحت مسميات عدة منها الاستكشافية أو عبر الرسائل أو غيرها، في محاولة لتزييف الوعي الشعبي وسط إحجامه عن استكمال ما كان قد بُدء في الأمم المتحدة، حتى أعلن عن استقبال موفاز بالمقاطعة، وما رافق ذلك من احتجاجات شعبية أدت إلى ما شهدناه من ردة فعل عنيفة من قبل الأجهزة الأمنية بغطاء وقرار سياسي، مخالفة بذلك تقاليد شعبنا وقدرته على قول كلمته، ومنافية لأبسط القواعد القانونية والحريات العامة، لتعلن حينها حكومة غزة عن وقف عملية تسجيل الناخبين بحجة أحداث رام الله، ضاربة بعرض الحائط هي والحكومة المقالة بغزة ما كان متوافقا عليه.
في ظل هذا المشهد تغيب القوى اليسارية والديمقراطية من قلب الحدث، أو في أحسن الأحوال تظهر بمظهر باهت لا يكاد يتناسب ودورها وتاريخها النضالي والثوري، فرغم جميع المحاولات لتوحيد جهود هذه القوى ضمن صيغ وأشكال مختلفة وحدوية أو ائتلافية أو عبر أشكال تحمل عناويين جزئية هنا أو هناك، إلا أنها باءت بفشل يسجل لأصحابها، في ظل ما نعانيه من استحكام قبضة الحركتين على مقدرات ومصالح الشعب والقضية، حتى باتت تلك المصالح جزءا من الهم العام لتعارضها مع المصلحة العامة، ولتأثيراتها السلبية على هويتنا الوطنية والنضالية كشعب لا زال يرزح تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي، تمارس عليه وضده أبشع أنواع "الابرتهايد" باستمرار سرقة أراضيه وتدمير أي موطن قوة سواء معنوي أو مادي لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 67 وعاصمتها القدس الشريف.
وفي النصف الآخر من الوطن، في قطاع غزة، تُدك البنية التحتية وتستمر الاغتيالات في رسالة واضحة لحكومة غزة مغزاها أن الاحتلال قادر على فعل ما يريد في الوقت الذي يشاء، كما تستمر الأوضاع المعيشية للمواطنين بالتفاقم لتشمل معظم مناحي الحياة.
ما كان لهذا الوضع الداخلي البائس أن يستمر لو كان هناك آداء يرتقي لحجم تاريخ ونضال القوى اليسارية والديمقراطية وبخاصة من قبل كوادر وكادرات هذه القوى، التي ترى خطورة استمرار الانقسام على قضيتنا، سياسيا بما تشكله من خطورة بالعودة إلى طاولة المفاوضات دون التزام إسرائيل بالوقف الكامل للاستيطان وتحديد سقف زمني، واجتماعيا بما يتهد المشروع الديمقراطي والاجتماعي من نكوص وتراجع عما أنجزته التجربة الفلسطينية خلال عقود من الزمن، حيث كان من الواجب على هذه القوى تجييش وتحشيد جمهورها في حركة جماهيرية شعبية واسعة، ترفع صوتها عاليا في وجه كل من تسول له مصالحه الفئوية التطاول على إنجازات شعبنا ومعركته لأجل الحرية والاستقلال والعودة وترسيخ قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، مما ساهم في تعزيز سرقة الوطن والشعب، إما لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
يمكن للقوى اليسارية والديمقراطية إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية، التوافق على برنامج عمل مشترك يتضمن محاور ثلاث، أولها، إنهاء حالة الانقسام واستعادة الوحدة، وثانيهما ممارسة الضغط لضمان عدم العودة لأي شكل من أشكال التفاوض إلا بعد ما تلتزم إسرائيل بالشروط المعلنة، وثالثهما، إعادة إجراء الانتخابات الفلسطينية بالسرعة الممكنة لمؤسسات الشعب الفلسطيني الرئاسية والتشريعية، وكذلك للمجلس الوطني الفلسطيني الذي سيعزز هيبة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لكل أبناء شعبنا الفلسطيني.
إن أي مبادرة عملية شجاعة من قبل القوى الديمقراطية واليسارية باتجاه قيادة الشارع الفلسطيني لأجل تحقيق هذه الأهداف ستضع هذه القوى من جديد على الطاولة، وسيمكنها من استعادة شعبيتها التي بدأت تتآكل شيئا فشيئا، والأهم بأن مثل هذه الخطوة ستساعد في انتشال الجمهور الذي يعاني من حالة الإحباط وفقدانه الثقة في كل ما يجري من حوله، وسيحوله من مجرد متلقي إلى فاعل ومبادرقادر على صنع الحدث على المستويين السياسي والاجتماعي.
واقرأ أيضاً:
عرفات ينهض من قبره / هنا القدس...! / ذكرى النكبة: النكبة نكبات تتجدد يوميا / إسرائيل تبرئ نفسها / السياسة والتياسة .. أيهما أكثر حظا في مجتمعنا ؟ / الخروج من دائرة الوهم ! / عرفات ينهض من قبره