مرة ثانية تتكرر المأساة في مخيم اليرموك مع سقوط قذيفة هاون على تجمع سكاني من مواطني المخيم في شارع القدس قرب مركز الإعاشة والتموين التابع لوكالة الأونروا، وقد تسببت تلك القذيفة اللعينة ومعها القذيفة التي تلتها مباشرة في سقوط نحو ثمانية عشر شهيدًا من مواطني مخيم اليرموك، ومعهم أعداد مضاعفة من الجرحى. وقد تلى ذلك سقوط متقطع لقذائف الهاون (المورتر) على عدة مناطق من مخيم اليرموك، كان منها بشكل رئيس شارع صفد، وشارع فلسطين، وحي المغاربة إضافة لحي العروبة.
اللافت للانتباه بأن القذيفتين الأخيرتين وقعتا على مسافة ليست ببعيدة عن موقع مجزرة شارع الجاعونة التي حدثت خلال شهر رمضان المبارك الماضي وقد تسببت في سقوط أعدادٍ كبيرة من الشهداء والجرحى من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا.
فلماذا استهداف مخيم اليرموك، هذا التجمع والعنوان السياسي والمعنوي والبشري الفلسطيني، ولمصلحة مَن تحويله لبؤرة توتر مشتعلة، في ظل موقف الإجماع الوطني الفلسطيني القائم على سياسة "الحياد الإيجابي والنأي بالنفس" والداعي لتحييد المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية في سوريا (مخيمات وتجمعات)، وفي الوقت نفسه تقديم يد العون للجميع من أبناء الشعب السوري الذين وجدوا في مخيم اليرموك حضنًا دافئًا لهم وملاذًا آمنًا مع دخولهم المؤقت للمخيم من مناطق التوتر المحيطة به...؟ ولمصلحة مَن تفجير الوضع الداخلي في مخيم اليرموك، وهو أكبر مخيم وتجمع فلسطيني ليس في سوريا فقط، بل خارج فلسطين على الإطلاق..؟
صحيح أن أعداد المواطنين الفلسطينيين في مخيم اليرموك باتت لا تشكل سوى (25%) تقريبًا من سكان مخيم اليرموك، إلا أن الطابع العام والسمة الرئيسية لهذا التجمع السكاني الضخم والملتصق مع الجنوب من مدينة دمشق هي سمة فلسطينية عامة، فالطابع الفلسطيني يغطيه تمامًا مهما وصلت نسبة السكان الفلسطينيين داخله.
ومن موقع التوضيح، نشير إلى أن التجمع الفلسطيني في اليرموك يتركز بشكل رئيسي داخل أو (في قلب) المخيم، وبمعنى آخر في (لبه) الذي هو تجمع سكاني فلسطيني خالص تقريبًا، فيما تضم قشرته السميكة التجمعات المختلطة السورية وغير السورية ومنها (حي التقدم، حي العروية، حي الزين، حي الثامن من آذار، حي شارع الـ 30 ..) ليصبح عدد سكان هذا التجمع نحو ما يقارب مليون نسمة منهم نحو ربع مليون مواطن فلسطيني من أصل نحو سبعمائة ألف مواطن فلسطيني مقيم في سوريا منهم نحو (530) ألف ممن يطلق عليهم مسمى (فلسطيني سوري).
إن زُبدة الكلام، وخلاصة الموقف، تؤكد أن هناك من يريد بالفعل الزج بالفلسطينيين في أتون النيران الملتهبة في الأزمة السورية الداخلية، غير مبالين بالمواقف الطيبة والنبيلة التي أطلقتها المرجعيات الوطنية الفلسطينية على مستوياتها الرسمية وغير الرسمية وبإجماع وطني تام، وإجماع الشخصيات الوطنية والمناخ العام للشعب الفلسطيني في سوريا الذي لا يريد لسوريا ولشعبها سوى الخير كله، ويريد في الوقت نفسه تجنيب البلاد والعباد تداعيات ما يجري حيث سيل الدماء والدمار، في حالة تُسر العدو ولا تُسعد صديق.
إن استهداف مخيم اليرموك، ومن قبل أي طرف كان، أمرٌ مدان ومرفوض بشدة، ويصب في مسار تعقيد الوضع المُعقد أصلاً في سوريا، ولا يخدم مشروع التغيير أو التطوير الديمقراطي المنشود في البلاد، عدا أنه يزيد الجرح المتقيح تقيحًا، ويَخلُطُ الأوراق بشكل سلبي.
إن يد الفلسطينيين في سوريا ممدوة بكل محبة للجميع، ومساعيهم تصب في إطار المساعدة الممكنة لكل الناس الذين يعانون في مهب رياح الأزمة الداخلية في سوريا، ولا مصلحة لهم البتة في الزج بأنفسهم داخل نيرانها المشتعلة. وبالطبع، إن الموقف إياه لا يعني ولا للحظة واحدة بأن الفلسطينيين يديرون ظهرهم لسوريا وللشعب السوري، فالعكس هو الصحيح تمامًا. فالفلسطينيون في موقفهم المعنون بـ"الحياد الإيجابي" يريدون بالفعل أن يلعبوا دورًا بناء في مسار أزمة باتت تهدد مصير سوريا وشعبها وتهدد وحدتها وقدراتها ومستقبلها. ويريدون أن يكونوا عونًا للجميع وبلسمًا مساعدًا على الشفاء بدلاً من أن يكونوا زيتًا مشتعلاً على نار ملتهبة.
لقد أظهر المواطنون الفلسطينيون في سوريا وعيًا وطنيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا عاليًا، بعد المحنة المؤلمة والقاسية التي تعرض لها المخيم بعد ظهر يوم الأحد الواقع في الرابع من نوفمبر الجاري إثر سقوط عدد من قنابل مدفعية الهاون (المورتر) وقد تسببت تلك القذائف الغادرة واللعينة في استشهاد ثمانية عشر مواطنًا منهم وجرح أعداد مضاعفة.
الوعي الذي أظهره عقلاء المخيم، ورجالاته وعموم أبنائه فوت على اللاعبين بالنار فرصة جر المواطنين الفلسطينيين المقيمين في سوريا إلى أتون الأزمة الداخلية في البلاد، وأظهرهم على حقيقة موقفهم الوطني المنادي بالحياد الإيجابي الحقيقي القائم على التضامن مع سوريا ومع شعبها، والمنادي بالمحافظة على وحدة البلاد والعباد، في ظل تشابكات اللعبة الإقليمية والدولية الخطيرة التي لا تريد الخير لا لسوريا ولا لشعبها.
لقد كانت فاجعة اليرموك، الجديدة المتكررة، مؤلمة بكل المقاييس، فقد نزفت دماء بريئة من شبان ورجال وأطفال مخيم اليرموك لا ذنب لأصحابها، وأختلطت دماء أبناء سوريا وأبناء فلسطين معًا مثلما اختلطت على الدوام على أرض فلسطين والجولان ولبنان. فيما قام أهالي المخيم وحكماؤه ومتعقلوه بلملمة الجراح، والإسراع بدفن الشهداء، وإحكام العقل والحكمة في معالجة الأمور، وإبعاد ونفي لغة وسلوك الغرائز والتفلتات حفاظًا على الناس وعلى دمائهم، وعلى الأمن المجتمعي، وعلى دور مخيم اليرموك الإيجابي في جواره المحيط والمتميز باكتظاظه السكاني من مختلف مناطق سوريا.
إن وعي الفلسطينيين، وارتقاءه وسموه، يُشكل الآن سلاحًا مهمًا للنأي بهم عن مسارب مخيفة ومظلمة لا سمح الله في أزمات طاحنة تعيشها المنطقة ككل ومنها سوريا على وجه الخصوص. ويدفع بهم هذا الوعي الراقي في سموه وفي نباهته وحذقه الرفيع لمساعدة سوريا وشعبها الشقيق من أجل وقف نزف الدماء، وفتح الدروب أمام التغيير الحقيقي في بلد كان وما زال موئلاً لفلسطين وشعبها.
فالحكمة تقضي أن يبقى اللاجئون الفلسطينيون في سوريا خارج معادلة الأزمة السورية، لا لأنهم لا يأبهون لما يجري في سوريا الشقيقة، بل لأن دخولهم في أتون تلك الأزمة من شأنه أن يضيع اتجاه بنادقهم، ويعقد المشهد السوري أكثر ولا يقدم أي مساعدة للشعب السوري ولسوريا، ولا يخدم على الإطلاق مشروع التغيير والإصلاح في سوريا.
أخيرًا، إن حِكمة قادة القوم وشخصياتهم الاعتبارية والمناخ العام لفلسطينيي سوريا في موقفهم الوطني العام، ويدهم الإيجابية الممدودة للجميع، جَعلت منهم يقفزون عن جراحهم، فكلما حاصرهم الموت احترفوا الحياة. فكلما حاصرهم الموت احترفوا الحياة، وقد كتب أحد شباب اليرموك على جدران المخيم وعلى صفحته الإلكترونية الأبيات الشعرية التالية:
قل للقذيفة أن تسقط وتأخذني ....... للجنة العـــلياء للفـــردوس ظمآن
لا ضير في موت من بعـده روض ....... حيــا ســـأبعث أم أشـــلاء سيان
قل للقذيفة أن تسقط وتقتلني ....... موت الشجاع فليس فيــه خذلان
ما خطبها تأبى السقوط كــأنها ....... تخشى رباطة جأش القوم أحيان
يا خــــائفا من صوتـــها ولهيبها ....... القف بصدرك لولا الخوف ما كــانوا
واقرأ أيضاً:
مخيم اليرموك ودلالاته الرمزية / دروس وعبر مأساة اليرموك / مخيم اليرموك وذاكرة الأسنان اللبنية / تشريح الحالة الفلسطينية في سورية